العجز العلمي وصناعة الوهم

ضبابية المصادر

بادئ ذي بدء، لا ينبغي الذهاب بعيداً في استنتاج أمور هي من صُنع مخيلتك فقط. إن هذا المقال هو مجرد رأيٍ فيما يسمى بـ”الإعجاز العلمي”، سواء في القرآن أو الأحاديث. ” أشارت الأبحاث والدراسات إلى أن كذا وكذا، و أثبت العلم الحديث كذا وكذا” كثيراً ما كانت تلك الجملة ملازمةً لأصحاب الإعجاز العلمي، وكثيراً ما قرأت وسمعت تلك الجملة، وبحثت كثيراً عن تلك الأبحاث، والدراسات الّتي أتى على ذكرها مروّجو تلك البضاعة.

والّذين بالمناسبة لا يأتون بأيةِ مصادر علمية موثّقة لما يقولون. ثم إن ما يروجون له، لا يرقى بأن يكون أطروحةً علمية. إذا كنت واثقاً مما تؤمن به، فما هو الّذي يدفعك لإقحام الدين في نقاشات علمية بحتة؟ ما الّذي يدفعك للبحث في اكتشافات علمية، مصدرها في الغالبية العظمى من الغرب، كي تدلل مثلاً على الحكمة من تحريم شيء ما؟ وبالمناسبة، إن الغرب الّذي أنتج تلك المعارف، وقام بتلك الاكتشافات، يراه “الإعجازيون”، مصدراً للشر والانحلال، وكل ما هو سيء، وفي نفس الوقت ينتفع بجميع ما أنتجه هذا الغرب، أليس هذا بالأمر المضحك المبكي؟

العلم والماورائيات

هل المسلم بحاجة لـ”لإعجاز العلمي”، حتى يثبت لنفسه ولغيره أنه مسلم بمعنى الكلمة؟ أم يريد أن يثبت للعالم، أن المسلمين هم أصحاب السبق في شتى العلوم، ولهم الفضل على الغرب في ذلك؟ العلم لم ولن يعترف إلا بفرضيات، تحمل في طيّاتها الوسائل الّتي تتيح للعلماء دحض هذه الفرضيات، و يمكن تجربتها، وتثبت صحتها، وأيُ شيءٍ غير ذلك هو حديثٌ في الماورائيات، لا يمكن تجربته وإثباته. لسنوات طويلة ظل هؤلاء يروّجون لما يسمى “بالإعجاز”، سواء أكان علميا، أو عدديا أو غيره.

وأصبح مجرد التشكيك فيما يدّعون، يعرّضك لإشكالات كثيرة، وربما أكثر من ذلك. هل هي عقدة نقص لدى أولئك “الإعجازيين”؟ هل هي محاولة للحاق بالركب؟ وكأنهم يقولون: كنا على علم بهذا الاكتشاف، ولكن لم تأت الفرصة المناسبة لذكره! ويا للغرابة، لم يكتشفوه إلا بعد أن تم اكتشافه علميا من أولئك الغربيين، وهنا أتوا على ذكره، وانه معروف لديهم منذ قرون!

العجز العلمي والاسترزاق

إني أرى في الذين يروّجون لـ”الإعجاز العلمي” شبهة استرزاق، لأنهم يؤولون آيات وأحاديث وفق رؤية معينة، ومن ثم يربطونها باكتشافات جديدة. وهنا يبدأ الترويج لها عبر القنوات، والكتب والمقالات، ووسائل التواصل الاجتماعي، وأحيانا يتم التسويق لتلك الادعاءات بأساليب رخيصة، عن طريق استخدام وجوهٍ غربية لتسويقها، فقط من أجل زيادة عدد المشاهدات، وكل ذلك مدفوعٌ ثمنه. كما أنهم أيضا لم يقدموا ما يثبت صحة ادعاءاتهم، ومبدأ نقاشهم رأيي صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ لا يحتمل الصواب. يكابرون.

ومازالوا على نهجهم سائرون، حتى أصبحوا أضحوكة للعالم، وكأنهم يريدون من العالم الالتفات إليهم، ليبدأ في الضحك. أما كان من الأفضل لهؤلاء، بما يملكون من علم ديني أن يساهموا في تثقيف المجتمع، وحضه على تقبل الآخر والنقاش معه. والالتفات للعناصر الّتي تُكفّر الآخر وتستحل دمه، بدلاً من أن يقحموا أنفسهم في تخصصات ومجالات، ليس لهم فيها أيُة مؤهلات، أو أبحاث علمية مُعتبرة، أو حتى لديهم من الثقافة ما يؤهلهم للحديث عن ميكانيكا الكم مثلا، أو علم الكون.

الالتفاف على النصوص الدينية

إن الالتفاف على النصوص الدينية، ولي أعناقها، وتأويلها وفق رؤية مسبقة من شخص ما يدّعي العلم، ومن ثم يستند على اكتشافات علمية جديدة، لهو تضليل واسترزاق، وطلب للشهرة. والسؤال هنا: ماذا لو كانت تلك الاكتشافات ما تزال في طور التجارب ولم تثبت بعد؟ ماذا لو بعد مرور سنوات، تم اكتشاف خطأ أو نقص في نظريةٍ ما، وحلّت محلّها نظريةٌ أخرى؟ هل سيأتي ذاك الّذي ادّعى أنها إعجاز، ويؤول نفس الآيات مرة أخرى، لتتوافق مع النظرية الجديدة؟ إن مبدأ تفسير النص الديني، ليتوافق مع نظريات علمية، لهو من العبث، حيث أنه لا يمكن بأي حال من الأحوال، الربط بين المصطلح الشرعي، والمصلح العلمي الحديث.

إن الخلط بين الإيمان الديني بالنصوص، والعلم الّذي كان نتاج جهد في أبحاث ودراسات استمرت ربما لسنوات، من شأنه أن يشوّه العلاقة بين المؤمن، والكتب التي يؤمن بها، ويُوقع العاميَّ في شبهات هو في غنىً عنها. إن من الأخطاء الجسيمة الّتي ارتكبها “الإعجازيون”، هو الربط بين المصطلح الشرعي، والمصطلح العلمي، وبما أن القرآن والأحاديث باللغة العربية، الّتي تزخر بما يفوق اثني عشر مليون كلمة بدون تكرار، وهي بذلك تتفوق على اللغات الإنجليزية والفرنسية، والروسية.

أي أن كلمة واحدة من اللغة العربية، تحتمل أكثر من معنى. كما أن هناك أمر هام تجاهله هؤلاء “الإعجازيون” وهو سياق الآيات و الأحاديث، سواءً أكان سياقا نصيا أو سياقا تاريخيا، كيف لهم أن ينتزعوا آية ما، أو كلمة من سياقها النصي والتاريخي، ثم يؤولونها وفق رؤيتهم المسبقة، لتتوافق مع نظرية علمية ما.

“الإعجازيون” والنظريات العلمية الحديثة

قام هؤلاء “الإعجازيون” بالربط بين آيات معينة، ونظرية الانفجار الكبير، وزعموا أنهم على علم بتلك النظرية، ولديهم الدليل الّذي سبق اكتشاف الغرب بألفٍ و أربعمائة عام. والسؤال هنا: أين كنتم قبل أن يتم اكتشافها من الغرب؟ ألستم أصحاب اللغة العربية وتملكون الدليل؟ لماذا لم تقدموه وتصبحوا انتم أصحاب السبق؟ وربما نال أحدكم جائزة (نوبل) في إحدى العلوم مثلا. كان لنظرية الانفجار الكبير – وهي إحدى الأطروحات المفسرة لنشأة الكون –  نصيب من حديث هؤلاء “الإعجازيين”، حيث أنهم زعموا أن هناك من الآيات، ما سبق تلك النظرية بقرون، وأن تفسير الرتق والفتق، الوارد في تلك الآيات، هو الالتحام بين السماوات والأرض، ومن ثم حدث انفصال.

وسأترك لمخيلة القارئ المقارنة بين المحيط الهادئ مثلا، و ذرة أكسيجين، وأنهما كانا ملتصقين، ومن ثم انفصلا! هذا هو ما يتحدثون عنه، أن الأرض الّتي لا تكاد تُرى من أعماق الكون، كانت ملتصقة بالسماوات – أي الكون وفق تفسيرهم – ومن ثم انفصلت عن الكون! ولن أخوض في تفاصيل تفسيرهم أو تفاصيل النظرية، بل سأسال سؤالا واحدا فقط: ماذا لو تم إثبات فرضية الأوتار الفائقة؟

وهي بالمناسبة تجري تجربتها حاليا، ماذا لو أثبتت التجارب، صحة الفرضية بأن الكون هو جزء من أكوان أخرى متعددة، وأن الكون بأكمله هو مجرد فقاعة من ملايين الفقاعات الكونية؟ وماذا سيكون موقف “الإعجازيين”؟ بالطبع سنعود لنفس النقطة داخل دائرة العبث، و سيبدأ “الإعجازيون” بالبحث عن آيات وأحاديث أخرى، ويؤولونها لتتوافق مع النظرية الجديدة. إن هذا بالفعل لهو العبث بعينه، وربما يرقى لِأن يكون تحريفاً للنصوص.

فيديو مقال 

أضف تعليقك هنا