سنة قومي ضلالة

الابتعاد عن الإنسانية

ما تواصلت ظاهرة الابتعاد عن الإنسانية إلا في شعوب ران على قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة ، ما بقيت لعنة اجتماعية ترسم في جدران المدينة صورا من الجحيم و امتهان الإنسان بوضع الطبقة العاملة المجحف ، و سقوط المرأة بفعل الجوع ، و هزال الطفل بفعل الظلمة و بكاء أم اليتيم بفعل الإملاق. ما بقي قلب سليم من الوجع بعد رؤية منظر امرأة تبكي لفقرها و رضيعها ينظر إلى المار بنظرة براءة ممزوجة بالبؤس، و بنظرة أوسع و أشمل ما تواصلت رحمة في قومي إلا ضيعوها بسنتهم التي خلقوها في هذا المجتمع البائس. و ما سقى أحدٌ أحداً كأساً من الزيغ إلا شربها فالأيام هذه والجروح قصاص.

التنعم بالحياة هو تفضيل لا يمس على أي نحو من الأنحاء صميم ما نحن بسبيل سرده، إلا أنه قد لا يكون خلوا من الفائدة أن نشيرها هنا إلى الشائعات و الأحاديث التي ترامت حول كل هذا. كانت حياة الأساقف في الكنائس حياة خارجية تملؤها عين أفكار حياتهم الداخلية. فمن يراها عن كثب يجدها مهيبة فاتنة مثل حياة الفقر التطوعي، شأنهم شأن كثير من الشيوخ و معظم المفكرين لا ينامون إلا قليلا ولكن هذا النوم القصير كان عميقا.

ثم يقضون في الصباح ساعة في التأمل ، ثم يتلون قداسهم ، إما في الكاتدرائية أو في بيتهم ، و متى فرغ من قداسه ، أفطر بخبز الجودار المغموس في لبن بقرتيه ، ثم يشرع في العمل ، و هذا العمل المثمتل في الطواف على الكنائس البعيدة، أو زيارة المرضى و تفقد الأرامل و اليتامى، و يقابل ذوي الحاجات ، و يذهب لجمع التبرعات من الأغنياء ، و يعد المواعظ ، و إذا بقيت له ساعة من يومه قضاها في القراءة و الدرس و زراعة حديقته الصغيرة. هذا ما يحث عليه ديننا الحنيف فلماذا خلقت في أرجاء مدينة لعنة اجتماعية غيرت طابعنا، و جعلته بعيدا عن الإنسانية؟! إنها فعلا قلوب قاسية!.

قصة المرأة الغريبة عن المدينة ورضيعها

في أوائل شهر ديسمبر ، قبل غروب الشمس بحوالي ساعة ، دخلت امرأة كانت مسافرة على قدميها تحمل رضيعا. و نظر السكان القليلون جدا الذين كانوا في هذه اللحظة مطلين من نوافدهم الزجاجية مستمتعين بدفء المدافئ سامعين لصوت الرياح و المطر ، و ينظرون بقلق .فمن العسير أن تلقى عابر سبيل تدل مظاهرها على بؤس شديد، كانت المرأة تمشي و قد أثقل الإملاق عليها الخطوات ترتدي ملابس رثة وتغطي جانبا من وجهها بخمار له جزء أمامي من الجلد ، و وجهها محترق بفعل الشمس و الهواء اللافح و يتصبب منه العرق بالرغم من برودة الجو، و قميصها المصنوع من قماش بني خشن مثبت حول العنق.

أما الرضيع فيرتدي سروالا من قماش قطني أزرق ،رث و بال ، أبيض عند إحدى ركبتيه و ثقب عند ركبته الأخرى ، و له سترة عتيقة رمادية مهلهلة ، حيكت بالدوبارة عند أحد كوعيه بقطعة من قماش أخضر . مرت أيام عديدة تلك المرضعة النحيفة لم تجد مأوى لها ، لم تقابل رحمة عبد ستر الله عليه ولم تقابل رحمة سلطان وُلِّي عن أمرها ، ذلك المنظر الذي لا يزال في دهني يغرس فيه ألوانا من الحزن و الأسئلة، لماذا لم تجد مأوى تلك الأم؟ ،تمر الأيام و حل شهر فيبراير المعروف في مدينتنا دوما باردا شديد البرودة ، التزم الشيوخ فيه الاعتكاف بالمساجد قبل أذان المغرب حتى العشاء.

موقف مؤلم عند المسجد

في أحد الأيام من تلك الأيام الباردة أنهيت يومي و لم أجد سوى المسجد كي أجلس مع الشيوخ مستفيدا من تجربتهم و مستمتعا بدفئ المسجد ، ثم صليت المغرب و خرجت من المسجد، فإذ بي أجد عند الباب تلك الأرملة حاملة لولدها بيد و تمد يدها الأخرى كي يعطوها دراهم معدودات تشتري بها الحليب ، عجزت الكلمات عن وصف ذلك المنظر من إملاق و بؤس، لم أستطع حتى مواصلة المشي، ثم أسندت ظهري على شباك المسجد باكيا ، أهكذا صارت بنا الأحوال؟ امرأة تبكي على باب المسجد تطلب من المصلين الشفقة عليها بدراهم لكي تشتري حليبا لابنها الرضيع ، الذي لا يحس بهذه الجمرة بل يحس بالبرد القارس لنحافته و قلة لباسه.

مشيت و أنا لا أرى إلا ضبابا من كثرة الدموع ، وصلت إلى البيت متحدثا مع نفسي لماذا قومي أصبحوا بهذه القساوة؟ حينها تذكرت مقالة قرأتها في الجريدة عنوانها: مهنة الشحد تمثيل ، إنه فعلا ذلك الممثل جعل من الناس دون إنسانية و أخذ حق هذه المرأة بالرغم من منظرها الباكي ، فعلا سنة قومي ضلالة ، مر يوم أردت الذهاب إلى المسجد فخشيت أن أصادف ما صادفته بالأمس فغيرت المسجد ، فإذ بي أشاهد شابة في أعز شبابها تشحد لأخيها المريض بإحدى الأمراض التي تتطلب عملية بالخارج، أحسست بنفس الإحساس أو أشد من ذلك ، فلماذا وزارة الصحة لم تعطي نصيبا لهؤلاء الأبرياء؟!

الأسواق والعيد والأيتام

حينها قررت أن أبتعد عن المساجد لفترة فقد أصاب قلبي وجع و لم أجد وسيلة لتغيير ما يحدث فقد ران على قلوب قومي. مرت أشهر و قد نسيت كل تلك المظاهر ، دخلت السوق و كان السوق على غير عادتها في هذه الأيام تعرف إقبالا منقطع النظير على الألبسة و كأنهم في سباق مع الزمن ، العيد قد دق دقة الإستقبال، و لا بد من افتتاح مراسيمه بالألبسة الجميلة ، لكن هناك أناس في هذه المدينة لم يكلفوا أنفسهم عناء الذهاب إلى السوق لأنهم لم يجدوا ثمن شراء بدلة العيد، لم يجدوا عونا سوى الرحمن فوق سبع سموات.

حينها تذكرت هذه الطبقة التي لا تزال تعاني ثم تذكرت عيد الأضحى الذي يسمى في مدينتنا العيد الأكبر ، فهناك قوم يفرحون بالعيد و ما يزيد الفرحة اكتمال العائلة و قوم عندما يأتي العيد كأنما أتى شيء من الكآبة ، لا تجد تلك أم اليتيم حتى كيف ترعى هذا الطفل فمن أين لها أن تأتي بنحر؟ و ما يزيد الجرح اتساعا أنه أتى العيد دون عمود المنزل دون الأب، فتطغى على الابن ذكريات من الماضي الأليم و ما أصعب الماضي، هنا كان أبي ينحر لنا العيد مكبرا بالله هنا كان يجلس، هنا كان يعضني هنا كان يحدثني ، ثم تتذكر الأم أنه كان هنا يبتسم معي هنا كنت أغضبه هنا كان يجلس فينقلب العيد إلى عزاء فلا يوجد سلاح سوى البكاء و الرضاء بالقدر و القدر.

مازال هناك خير

لقد مشيت كثيرا و ابتعدت عن ضجيج السوق ، متذكرا أن إذا حلت مناسبة بإحدى البلدان المسيحية لقام كل تاجر بخفض أسعار الألبسة و لوازم الاحتفال كي يتسنى لهم المشاركة في ذلك الحفل اللعين ، فماذا عنا نحن المسلمون الذين رفعنا من سعر الثمر في شهر الغفران ، و رفعنا من لوازم العيد عند إقترابه. ذهبت إلى المنزل و عدت في اليوم التالي إلى السوق فإذ بي أسمع حديثا لاثنين قال الطفل متأثرا و بنبرة ممزوجة بالدموع، أمثالي ليس لهم الحق في أن يتمتعوا بالعيد و لا بثوب العيد. أنا يتيم ، أعرفت الآن سبب حزني؟ فهلا تكرمت و سمحت لي بالذهاب؟ أنا لا أريد أن أعطلك عن عملك . قال التاجر :-متأثرا- لا تحزن ، فلا يزال في أمة محمد صلى الله عليه وسلم الخير و الإسلام يدعونا إلى التعاون والتكافل.

و قد رأيت أن أمنحك بدلة العيد ، فلا تحرجني و اقبلها . قال الطفل :-و هو غير مصدق- و لكني لا أملك مالا و لست قادرا على دفع ثمنها في الوقت الراهن . قال التاجر : و من قال لك: إنك ستدفع ثمنها ! هي هدية مني إليك. حينها سكتت و هاجر قلبي بعيدا ثم أحسست به بآلام متزايدة لم أستطع الوقوف حتى ثم سكتت مرة أخرى و أجهشت بالبكاء منكم لله يا قومي.

فيديو مقال سنة قومي ضلالة

أضف تعليقك هنا