منهج القرآن في صناعة الإنسان ( موسى(ع) نموذجا)

على قدر أهل العزم تأتي العزائم

الوحيد في القرآن الذي جمع خمس خصال:

  1. طغى: “اذْهَبَا إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ “(43) طه
  2. علا في الأرض: ” إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ..”
  3. يستضعف ويُذبِّح ويُبقي النساء: ” يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ..”
  4. مفسد:” إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ “(4) القصص
  5. ادعاء الربوبية:” فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ “(24) النازعات

إن مَن يدعو مثل هذه الشخصية إلى الإيمان والتوحيد، لابد أن يكون داعية بمواصفات خاصة، فكيف إذا كان ثمة مهمة أخرى لذلك الداعية وهي استنقاذ بني إسرائيل من بين يدي هذا الطاغية والخروج بهم من مملكته، وما أدراك ما بنو إسرائيل؛ قوم تشربوا الذل وركنوا إليه، فالنفوس كسيرة والهمم ضعيفة والدافعية هزيلة. ومن هنا العناية الفائقة ليس في اختيار الداعية المناسب  للمهمتين فقط، بل وصناعته فالمهمة جسيمة وخطيرة، وكما لا يخفى فإن عملية الصناعة تمر بثلاث خطوات: 1-تحديد المخرجات (المنتج). 2- اختيار المدخلات. 3- وضع العمليات.

كيف تتم صناعة الداعية؟

وصناعة الإنسان لا تختلف كثيراً، فلابد من تحديد المهام المطلوبة من صناعة هذا الإنسان، ثم حسن اختيار الأقرب، ثم وضع العمليات المناسبة لإتمام المخرجات بالشكل المطلوب. وبالنظر إلى المهام المطلوبة من الداعية: دعوة هذه الطاغية (فرعون) + انتشال بني إسرائيل من بين يديه، فهي مهمة صعبة وتحتاج إلى داعية يُختار بعناية ثم يصنع، فكيف تم ذلك؟

فلنعد إلى القرآن الكريم، ولنقرأ معاً: ﴿وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى﴾ [طه: 13، يا سلام، كم هي جميلة كلمة “وأنا” فهو اختيار رباني وليس بشري، بعد الاختيار يأتي الاصطفاء والاختصاص وتحديد الخصوصية ﴿وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي﴾ [طه: 41، “لنفسي” لأداء رسالتي، فالاختيار تم لأداء مهمة الرسالة ثم جاءت العناية والرعاية والتربية ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ [طه: 39، فالقرآن يتحدث عن صناعة الإنسان، إذن هناك اختيار واصطفاء وصناعة وكلها مصطلحات قرآنية، بقي أن نعرف أن الشخصية المختارة هو نبي الله موسى عليه السلام الذي ذكر في القرآن الكريم مئة وستا وثلاثين(136) مرة، في أربع وثلاثين(34) سورة من القران الكريم.

كيف عرض القرآن صناعة موسى؟

من المسلم به أنّا لا نستطيع أن نحيط بكل أسرار القرآن في صناعة الإنسان، لكن سنحاول أن نستشف أبرز ملامح تلك الصناعة من خلال حديث القرآن عن موسى (ع)، وسأكتفي بذكر عشرة ملامح مهمة لتكون نبراساً لنا في صناعتنا لأنفسنا وللآخرين:

1/ الأسرة: المكان الأول والأهم في حياة الإنسان، فموسى (ع) من عائلة آل عمران: “إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِين (33) سورة آل عمران، ثم بعد ولادته ” وَأَوْحَيْنَا إلى أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ..” سورة القصص 7، ثم يستمر تتابع الاهتمام الأسري: “وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ ۖ … (11)”سورة القصص، لعلك لاحظت معي أن الكلام يُربط دائماً بموسى، فـ ” أم موسى” و” لأخته” بلا أسماء وإنما بيان لعلاقتهم بالغلام المختار وهو موسى (ع).

2/ التنشئة: فلابد من الجمع بين التربية على القيم والمبادئ والأنفة والترفع عن الذل، فبيت آل عمران لهم تاريخ مجيد في ذلك، لكنهم يعيشون وسط الذل والإهانة المجتمعية مع بني إسرائيل، فلا ينبغي أن تكون تنشئة الغلام عندهم فقط، فكان الغلام ينتقل بين تكفل بيت آل عمران “هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ “(12)سورة القصص، وبين القصر الفرعوني بما فيه من بطش وشدة وترفع “وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ ۖ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ ولدا.. “(9) سورة القصص، وهكذا تمت تنشئة موسى(ع) بين هذين البيتين لتساهم في صقل الشخصية المطلوبة.

3/ التعليم: فلا عمل بلا علم، وهذا العلم يجب أن يكون مقنناً بوقت معين يكون فيه الإنسان في أحسن حالته الاستعدادية، يقول ربنا تبارك وتعالى:” وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىٰ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا” سورة القصص (14)، الأشد كمال القوة، والاستواء: كمال البنية، فلما اكتمل بناء القوة والبنية، أصبح جاهزاً لتلقي العلم ومعه حُكما وهي الحكمة، فجمع الله له بين العلم ( المعرفة) والحكمة وتعني القدرة على توظيف المعارف بطريقة صحيحة، وحين نتحدث عن العلم فإنا نتحدث عن المعارف التي يحتاجها هذا المكلف لتحقيق رسالته، بلا تحديد لصنف من العلوم إلا في حدود ارتباطه بالهدف المنشود.

4/ التجارب: وهي الجانب العملي التطبيقي لممارسة الحياة كما هي وليست بصورتها المثالية، فربما يقع المٌربى في بعض الممارسات غير الجيدة ليكتسب بنفسه المهارات الحياتية لتكون أرسخ مع دقة الملاحظة والتوجيه، فهاهو موسى (ع) يقتل بغير عمد، ثم يخرج من المدينة خائفاً، ثم يتوجه إلى مكان جديد( يتغرب)، فيعمل ويتعب لعدة سنوات مع صنف آخر من الناس غير الذين كان معهم، ولعلك تدرك من متابعتك لقصة موسى (ع) التدخل الرباني في التوجيه، فبعد أن قتل بغير عمد أرسل الله له “رجلاً من أقصى المدينة يسعى” بلا اسم ليحذره فيخرج، وفي غربته يهيئ الله له رجلا صالحاً ( بلا اسم ) ليتفق معه على العمل، هكذا هي المراقبة الدقيقة والتوجيه السديد.

5/ الظروف: وهو اختيار الأحوال المناسبة في التكليف بالعمل المطلوب، ونعني بالظروف الزمان والمكان والسن وكل ما يتعلق بجعل المكلف يكون في أحسن أحواله لتقبل التكليف، خرج موسى (ع) من المدينة بعد أن قتل بغير عمد ثم وصل إلى مدين وعمل لعدة سنوات، وفي أثناء عودته مع زوجه إلى قومه (مكان الدعوة) يحصل اللقاء مع رب العالمين في وقت كان أشدّحاجةً لمن يرشده، كما أن البنيان الجسدي والعلمي والنفسي والاجتماعي قد اكتمل فهو أنسب وقت للتكليف وقد حصل.

6/التكليف: وهي آلية عرض التكليف والمطلوب، لنستعرض معاً ما حصل مع موسى (ع):

7 / القبول: كلما كانت المهمة صعبة كان من دواعي القبول تحقيق بعض مطالب المكلَّف بما لا يتعارض مع المهمة، فقد طلب موسى (ع) أن يكون هارون (ع) معه، ومن جميل الحوار أن موسى (ع) أوضح أسباب اختيار هارون (ع) ليكون معه[1]، فهو ليس طلباً غير مبرر، فما أجمل الحوار، بل زيادة على ذلك تطمينه لما يخشاه:” قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا ۚ بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35) سورة القصص، فإن كنت تخاف من قتلك فهم لن يصلوا إليكم فضلا عن قتلكم ثم ستكون الغلبة لكما.

8 / التدريب: لكي تكتمل صورة التكليف، ويكون الإتقان طريقاً واضحاً لا لبس فيه، فمن المفيد تدريب المكلَّف على بعض الأعمال والأحداث التي سيواجهها أثناء تأديته للرسالة، لنتأمل ما قاله الله لموسى (ع)  بعد سؤاله عن عصاه:” قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَىٰ (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَىٰ (20)  قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ ۖ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَىٰ (21)  وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَىٰ جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَىٰ (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)سورة طه، فمن الحكم في رمي العصا وإضمام الجناح تدريب موسى (ع)  على ذلك العمل لأنه سيباشره أمام فرعون وسحرته، فكان ذلك أدعى ألا يُفاجأ موسى (ع) بما سيحصل للعصا ولا ليده.

9/ الاجتهاد: قد يجتهد المُكلَّف في بعض المواقف، فلا ينبغي التدخل في كل صغيرة وكبيرة، بل لابد من إعطائه مساحة كافية مع التوجيه عند الحاجة لذلك، خاصة إذا كان المكلَّف قد أعطى الكثير وبادر في العمل الجليل، فقد اجتهد موسى (ع) في الاستعجال في الذهاب إلى ربه قبل قومه: “وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَىٰ (83) سورة طه، كما اجتهد في قصته المشهورة مع الخضر واستعجل السؤال ولم يصبر حتى يخبره الخضر بالأسرار.

10/ الخصوصية: كلما زاد التكليف زاد التشريف، وكلما زاد التشريف زادت الخصوصية والمساحة المسموحة للمكلَّف أكثر من غيره، لنقرأ:” وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي ۚ فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا ۚ فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)سورة الأعراف، ومن صور الخصوصية لموسى (ع) موقف يقول عنه القرآن الكريم:” وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَىٰ إِلَىٰ قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِي ۖ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ ۖ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ . .. (150) سورة الأعراف، إلقاء الألواح رَميُها من يده إلى الأرض، ومع ذلك لا يوجد في القرآن ما يشير إلى المعاتبة الربانية لموسى (ع) على هذا الفعل.

صناعة الإنسان ضرورية لإعمار الأكوان

وهكذا نخلصُ إلى:

  1. قبل أن تبدأ بالصناعة عليك تحديد المهام والأدوار المطلوبة، وبناء عليها تضع قائمة المعارف والمهارات والسلوكيات المنشودة لتحقيق تلك المهام.
  2. عليك الاجتهاد في اختيار الشخصيات الأقرب لما تريد، ثم تبدأ بتسديد النقص ومعالجة القصور والإتمام عن طريق عمليات الصناعة.
  3. ضع خطة لصناعة الإنسان بما يحقق البنيان ويحقق التوازن في الأكوان وفق الملامح العشرة. إن إعمار الأكوان يبدأ من صناعة الإنسان، وصناعة الإنسان تنطلق من كتاب ربنا الرحمن.

[1] راجع حلقة 65 “ثمانية موسى” من برنامج مواقف قرآنية من إذاعة القرآن الكريم.

فيديو مقال منهج القرآن في صناعة الإنسان ( موسى(ع) نموذجا)

أضف تعليقك هنا