السامدون

 

في سابقة ليس لها مثيل في التاريخ سجد المشركون مع المؤمنين، وفي مكة المكرمة، بل وفي وقت هيمنة الكفار وضعف المسلمين، وقبل الهجرة النبوية. فكيف حصل ذلك؟ بعد حادثة الإسراء والمعراج وما تبعها من حوار وتكذيب، نزلت سورة النجم توضح وترسم وتبين، فقرأها الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة على المسلمين والمشركين، ولك أن تتخيل الموقف.

رسول الله -الذي نزل عليه القرآن- صاحب أطهر قلب وأجمل صوت وأفصح لسان يقرأ آيات من كتاب ربنا الديان، فيصغي الجميع لروعة القرآن وسحر البيان ، إنه جو روحاني وأمانٌ نفسي ، تبدأ بالثناء على الرسول صلى الله عليه وسلم (صاحبكم) وتنتقل إلى توبيخ مكذبيه، وتهين آلهتهم لكن ألسنتهم خرست، وأقدامهم تسمَّرت، وعقولهم انبهرت، وقلوبهم خشعت، فروعة الآيات والكلمات التي لا يقدر عليها إلا رب الأرض والسموات.

جعلتهم أسرى الجمال القرآني فكيف إذا جمع معه صوت النبي العدناني، وتستمر السورة في كشف خبايا نفوسهم، ثم تحذيرهم وتذكيرهم بما حصل لمن قبلهم :” وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى”، هم يعرفون أولئك الأقوام- وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر مالاً وأولاداً-، وكأنك تنظر إليهم وهم مشفقون خائفون، إذا كان هذا ما حدث للأقوام السابقة فما الذي سيحل بنا؟

وعند انتظار الجواب تأتي الآيات:” هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الأُولَى * أَزِفَتِ الآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللهِ كَاشِفَةٌ * أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ، نعم هذا النبي وهذا القرآن وهذا الكلام نذير لكم فانتبهوا قبل نزول الآزفة وهي القيامة والنهاية، فهل تتعجبون من هذا الحديث، ثم تستهزئون به ولا تبالون بل وتضحكون، في الوقت الذي يجب أن تبكوا فيه لعدم إيمانكم وتكذيبكم وعدم انتفاعكم من الإنذار، وأمام هذه العظمة القرآنية ومع فزعة القلوب يتبادر إلى الأذهان ما المطلوب؟

“فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا” فكان من الطبيعي، ومن المتوقع بعد تلك الروح الفياضة والروعة البيانية والسيطرة القرآنية على القلوب أن يستجيب الجميع لذلك النداء: فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسجد معه المسلمون طبعاً، ولم يشعر الكفار فإذا بهم ولأول مرة وآخرة مرة يسجدون أيضاً، إنه الأسر القرآني، وحين رفعوا رؤوسهم من السجود رجعوا إلى أنفسهم وعادوا إلى كفرهم.

لعل من أسباب عدم إيمانهم – والله أعلم-  إنهم” سامدون”، إنها صورة التشاغل ورفض الانصياع للإنذار بالغناء أو التكبر أو اللهو أو أي مُشغلٍ آخر فكل هذه المعاني تحملها كلمة ” سامدون”، فسامدون تعني لاهون، وقيل الغناء بلغة حِمْيَر؛ يقال: سمِّد لنا أي غنِّ لنا، وقال بعضهم لجاريته اسمدي لنا، أي غني لنا، وقيل من السمود وهو ما في المرء من الإِعجاب بالنفس فلا يكترث بما يسمع، وقيل ولدٌ سامد يعني غبي أو متكبر. فمن إعجابه بنفسه يتكبر ويرفض الانصياع فيسعى في الانشغال أو التشاغل عن النذير والإنذار فيكون بذلك غبياً فعلا!.

وأظن أننا في زمن كثر فيه الإنذار، فكلما ابتعد الناس عن الجبار، أرسل إليهم جنوده للاعتبار، لعلهم يستيقظون أجمعين فيكونوا من الناجين برحمة أرحم الراحمين، والأهم ألا أكون أنا ولا أنت من ” السامدين” وقبل الوداع فضلاً لا أمراً، جرّب اللحظات التالية:

  • أختر من قرّاء القرآن من ترتاح إليه نفسك،
  • ابحث عن مكانٍ هادئٍ عن كل المؤثرات، أغلق جوالك.
  • استجمع خيالك في موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في مكة، وقد نزلت عليه سورة النجم، وحوله المسلمون والكفار، كن أحد المستمعين المسلمين.
  • الآن استمع لسورة النجم من شيخك المفضل وبصوته الندي.
  • حاول أن تعيش مع تلك الآيات حتى نهاية السورة.

صدقني ستكون تجربة جميلة ورائعة.

فيديو مقال السامدون

أضف تعليقك هنا