على صهوة الفكرة.(١)

تثير أحد عبارات “توماس إليوت” في ملاحظاته نحو تعريف الثقافة القائلة بأن “هناك أمة ذات ثقافة وهناك أمة ذات دولة” تساؤلات كثيرة، وتحوي أبعاد عديدة؛ لكن أوجهها وأعمقها هو أيهما الأساس، أو بمعنى أخر أيهما الأسبق في النشأة، الثقافة أم الدولة..؟

فالسلطة يمكن أن تُوصف بأنها فكرة مجردة؛ تنشأ بناء على رغبة في تنظيم التعاون؛ أو يمكن أن توصف بأنها فكرة اجتماعية، تنشأ في إطار مجموعة من المبيحات والأوامر، لتطبقها في الصورة التي عَبّـر المجتمع عن ارتضائه لها، في ظل عنصرين كلاهما يرتبط بالاستمرارية وهما: الاستمرار في الاعتقاد بإلزامية تلك المجموعة، والاستمرار في ممارستها وتطبيقها.

وتلك الفقرة السابقة هي ببساطة مختصراً لفكرتي النظام والسلطة، وهما مفهومان قديمان قِدم الإنسان، وفكرتان تعبران عن ضلع مهمّ من أضلاع الكيان الذي اصطلحنا على تسميته “الدولة”؛ لكن نشأة الدولة قد لا تسبق نشأة الثقافة في الأصل، فالثقافة كما وصفها “سميث” هي “إن أحد استخداماتها عندما يعني القائل عنصراً من عناصر الثقافة، أو مظهراً من مظاهرها، كالفن والسياسة والقانون مثلاً”.

ومن أبسط الزوايا فإننا حين نبدأ مع اللغة، نجد أن الثقافة في اللغة الإنجليزية “Culture”، وهي في اللغة الإنجليزية التربية الخاصة بمزارع الكائنات المجهرية، وتتعلق في المقام الأول بعلم البيولوجية، ولهذا ترتبط أيضاً بمصطلح “Agriculture” والتي تعني في اللغة الإنجليزية الزراعة، أما في اللغة العربية فالثقافة تعني تثقيف الرمح أي تسويته.

وتختلف ارتباطات كلمة الثقافة بحسب ما يعنيه “سميث” من نمو فرد، أو نمو فئة، أو طبقة، أو نمو مجتمع بأسره، وثقافة الفئة أو الطبقة تتوقف على ثقافة المجتمع كله، الذي تنتمي إليه تلك الفئة أو الطبقات، وبناءً على ذلك فإن ثقافة المجتمع هي الأساسية؛ فلا يمكن أن يتحقق التماسك الضروري للثقافة إلا بالتدخل والمجاراة في الاهتمامات، وبالمشاركة والتقدير المتبادل.

لكن المفهوم من ما سبق؛ أن التثقيف يشمل عدة محاور أساسية لا انفصام فيها، ويتم بشكل وئيد عبر ترسيخ مفاهيم عديدة تصلح كنقاط ارتكاز في بناء رؤية عامة للتجمعات البشرية بتفاوت أحجامها، ونشاطات الثقافة المختلفة تتشابك تشابكاً لا انفصام له في الجماعات الأقرب إلى البدائية، وغالباً ما يكون الدين والفن هما نقطتا الجذب الرئيسية بعد التمدّن، والتمدّن في هذا الموضع يعبر أيضاً عن “الاستمرارية” في الاستقرار و” الاستمرارية” في المجهود المبذول لتحسين أوضاع المعيشة وصولاً إلى قدر من الرفاهية.

وطبقاً لوصف “سميث” الإنسان البدائي الذي يمضي معظم الفصل من فصول العام في قطع قاربه، ونحته، وتلوينه على النمط المطلوب للشعائر السنوية في قطع رؤوس الأعداء، يقوم بعدة مناشط ثقافية في وقت واحد، فتشمل الفن والدين، كما تشمل الحرب البرمائية، فإنه كلما ازدادت المدنية تعقيداً ظهر فيها مزيد من التخصصات المهنية، الذي يفضي إلى نشأة الطوائف والطبقات، ومن ثم رسم ملامح الكتلة المجتمعة.

على عكس المذاهب الداعية إلى الحرية الكاملة للفرد والتي تتجلى في روح ومبادئ الدساتير الأوروبية أن الفرد وليس الأسرة هو نواة المجتمع، التي أشار “سميث” إلى أحد كتاباتها المتعلقة بالثقافة، والتي لم يهتم الكاتب فيها سوى لثقافة الفرد والسعي لكمالها، بصرف النظر عن ثقافة فئته أو طبقته أو عن ثقافة المجتمع بأسره، وكان أحد توصيفاته لطبقات المجتمع قسمهم إلى “البرابرة والسوقة والعامة” على الرغم من إهماله لعدة مسلّمات بديهية أولها أن الإنسان كائن اجتماعي بطبعه.

طرح علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية دعاوى مهمة بشأن اختلاف طبيعة الفكر باختلاف الثقافات والانتماءات، وتنطلق تلك الدعاوى في ثلاثة قواعد تراتبية أولية:

  • أولها أن أبناء الثقافات المختلفة يختلف بعضهم عن بعض في رؤاهم الميتافيزيقية للعالم أو معتقداتهم الأساسية عن طبيعة العالم.
  • ثانيها أن عمليات الفكر المميزة لدى الجماعات المختلفة يختلف بعضها عن البعض اختلافاً بيّناً.
  • ثالثها أن عمليات الفكر هي جزء من المعتقدات عن طبيعة العالم، يستخدم فيها الناس الأدوات المعرفية التي تبدو أنها تفيد معنى؛ أي تأسيساً على معنى العالم عندهم.

فبالفعل قد يكون تخيلك للإله أو القوى المتجاوزة للزمان والمكان، كما عبر عنها “عبد الوهاب المسيري“، وفقاً لانتماءاتك وظروفك الاجتماعية والجغرافية، يصطبغ بـ”اللوثرية” دون علمك أو حتى معرفتك بها من الأساس؛ فتعتقد أن كلام الله ليس حكراً، وبما أنه موجه للجميع ممن خُلقوا على ظهر البسيطة، فإن للجميع الحق في تفسير تلك الكلمات، وفهم المدلول منها دون الرجوع إلى وسيط حصري.

لكن حين تبدأ حواسك بعملية تشريح تاريخي لجسد دين أو معتقد نشأ جنباً إلى جنب، أو دخل ثقافة ما، فإنك يجب أن تكون على إدراك منك بأن الأمر ليس سهلاً كما تعتقده في جميع الحالات؛ فقد يواجهك ما يستلزم منك بالضرورة التبحر في بعض التخصصات العلمية كـاللغة، وتاريخ الشعوب والدول، لكن الأهم يكمن في تراثهم الأدبي والفني؛ وقبل كل ما سبق بالطبع يجب أن تكون على دراية تامة بجغرافيا الإقليم، وشكل سطح الأرض التي نشأ عليه ذلك الدين أو المعتقد، فهل كان الإقليم صحراوي جاف أو جبلي أو نهري أو بحري؟ وإذا افتقدت إحدى تلك المقومات الأساسية يجب عليك أن تعرف عن طريق ماذا يمكنك تعويض هذا القصور.

وكل هذا فقط، بعد تبلور الاعتقاد، لمعرفة ما مدى اتساع وشمول فلسفة القاعدة الأخلاقية والتشريعية، وأحكامها على الأشياء، والتي تختلف باختلاف الزمن الذي ولد فيه هذا الدين أو تلك العقيدة وترعرعت، والتي ستكون قواعدهما حجر الأساس الذي ستُبني عليه مفاهيمك الحصرية عنهما، لهذا لا تندهش من كون اعتقادك في وجهة نظر الآخر الذي لا يعلم عنها شيئاً وقد لا تعلم أنت أيضاً، وحرفياً، مجرد خرافات أو أساطير.

لذلك كانت الفكرة دوماً هي أقوى سلاح مُنِح للجنس البشري، فلا يمكن أن يعرف ماضيه أو يدرك حاضره دونها، فكان التراث الإنساني من أدب وشعر وقصص ونحت ورسم وغيرها مجرد “تعبير عن الفكرة” وانعكاس لرؤية الإنسان لذاته وللعالم من حوله، فكل قصيدة أو بيت، فصل أو كلمة، لوحة زيتية أو خط مائل على قطعة قماش بيضاء، تعطي إشارة، وتعكس رغبة.

فإذا تحدثنا في إطار فنون مثل فنون الشعر والغناء، فإن الكلمات في حد ذاتها هي وصف صريح لما نشعر به حسب قدرة قاموس تلك اللغة في التعبير عن المشاعر الإنسانية، فالاستماع “المجرد” قد يفيد في حالة تلك صوتيات الحروف المتضمنة مفهوماً معيناً، أما في حالات سماع المعزوفات “السيمفونيات” والتي هي أصوات “مجردة”، وبالتالي قد تحتاج إلى أكثر من السمع “المجرّد”، وهو ما ينبه العقل، ويحرره نسبياً من سلطة الحواس الصارمة.

وفيما تتعلق بقيمة الرواية، أعني لماذا يقال دوماً أن الرواية هي أحد أعظم الاختراعات البشرية، فقد كنت أعتقد أنها مجرد قصة، كتلك الأقصوصات التي كانوا يتلونها على الأطفال قبل النوم، لكن داخل كل رواية هناك عدة أفكار، وضعها صاحبها في أبطال روايته ونطق بها على لسانهم، ومارسها من خلالهم، إنها عالم صغير يعبر عن تصور الرواي لما ينبغي أن يكون عليه العالم، أو ما هو عليه بالفعل.

معضلة الشرق

في مجتمعاتنا الشرقية، العالقة حتى الآن في مستنقع الركود الفكري، يؤمن المرء أن لا شيء قد يستفيده من العلوم الطبيعية والإنسانية التي يدرسها، وأنه سيتخصص في الجامعة في شيء واحد، كالقانون أو التجارة أو الإعلام أو التدريس والتربية… إلخ.

ففي وجهة نظره أن ما قررته عليه المؤسسة المسؤولة مجرد قشور لا نفع منها، وعززت ثقافة التقييم الحكومية للاختبارات في المراحل التعليمية المختلفة على تقليل أهمية البحث العلمي، فالتقييمات ترتبط بمدى القدرة على حفظ أكبر قدر من المعلومات في إطار اختبارات منفصلة غير مرتبطة ببعضها، وبالتالي لا تحث الطالب على النقد وطرح التساؤلات وما إلى ذلك، وأصبحت الأسر تقيم أبنائها على هذا الأساس.

إلا أننا لا ندرك حق الإدراك أن “معرفة الألم، والوعي بالرغبة والفناء، هي مكونات للخبرة البشرية لا مفر..” كما قالت “كارين أرمسترونج ومع الكثير من التحفظات حول آرائها؛ وأن تلك العلوم إنما هي بالفعل وحدة واحدة متماسكة نشأت في ظروف تاريخية معينة، ونتيجة لتجربة الإنسان الرامية لتحسين أوضاع معيشته، فتطورت عبر السنين وتشابكت فيما بينها لتعزز إحداها الأخرى، وصارعت من أجل البقاء، حتى وصلتنا إلى ما هي عليه اليوم.

وبخصوص التخصصات المنفردة، السالف الإشارة إليها، والتي عَلِقْـنا بها؛ فإن أحد دارسي القانون الذي اختار مهنة المحاماة على سبيل المثال، تجده بكل يقين ذاتي يحسم تلك المعضلة العقلية التي مر بها حين كان مراهقاً وبكل تأكيد لصالح واقعه الحاضر.

فالقانون يجعله يعيش الواقع ويجبره على التعامل معه وبالتالي يحوله إلى البراجماتية، ثم يميل شيئاً فشيئاً إلى المادية ونزع القداسة عن ممارساته المهنية إلى حد كبير؛ وذلك عكس أحد دارسي الأزهر الشريف على سبيل المثال؛ لهذا تشعر بأن كل مهنة تمارسها تشكل تضاريس فكرك، وتجعل نظرتك للأمور مقيدة إلى حد ما في إطار تعاملاتك اليومية في عملك.

لكن رجل القانون هذا قد لا يدرك، أو إن أدرك قد لا يعير أصول مهنته تلك الانتباه، وقد لا يعرف أن أعظم مرافعات في التاريخ مرافعة سقراط في محاورة الدفاع، والتي وصلتنا في كتاب أفلاطون “الجمهورية” التي هي بالمناسبة مجرد رواية تقص المحاورات الجدلية بين سقراط ومختلف طوائف وطبقات وعقليات الأثينيين في القرن السادس قبل الميلاد في اليونان القديمة.

فكان الآباء المؤسسين لتلك المهنة في شكلها الأول فلاسفة يعلمون أبناء الطبقات العليا فن الجدل والنقاش والفصاحة وأساليب التعايش في الحياة العملية؛ وكان أبو السوفسطائيين “بروتاجوراس” بذر بذور الفكرة التي سينبثق عنها مذهبي الواقعية والمنفعة؛ وفي العموم كانت أشهر آرائهم أن النجاح أو الحكمة في نظرهم هي الإنجاز، وأن منفعة العائدة على الفرد هي المقياس، استناداً إلى أن “الإنسان هو مقياس كل شيء..”.

وختاماً؛ وباختصار، وكما قال أحد فلاسفة الهند المعاصرين: فإن أحداً لا يستطيع التفكير من فراغ، فالاختيارات لا تتطلب الوثب من الفراغ إلى مكان ما، ولكنها يمكن أن تؤدي إلى حركة من مكان لآخر.

فيديو مقال على صهوة الفكرة

أضف تعليقك هنا