أمسية كليمانس

في صباح  الواحد والعشرون من ديسمبر ارتدت فتاة “الكليمانس” وشاحاً مصوفاً خمري اللون، وكان شعرها المقصفة أطرافه ينسدل من تحت الوشاح، ثم قامت بتحضير كوباً من الزنجبيل وجلست  على شرفة منزلها الكبير في لندن، وقد صادف هذا اليوم يوم مولدها ولكنها نسيت أنها ستبلغ الثامنة والثلاثين من العمر.

فراشة تعيد لـ”كليمانس” ذكرياتها 

أخذت تسرح في طبيعة لندن الجميلة المطلة من تلك الشرفة، ثم بدأ الضباب بالمجيء، وكلما نظرت إلى الضباب كان يراودها ذلك الشعور الذي يهدد هدوءها النفسي، ثم جاءت فراشة صغيرة صفراء اللون استقرت على وشاحها، فنظرت إليها مبتسمة ابتسامة مبهمة، لأن تلك الفراشة أعادتها إلى ثمانية عشر سنة قد مضت، ففي يوم من أيام  الماضي كانت “كليمانس” تشرب القهوة مع من سكن قلبها واحتل تفكيرها، ثم جاءت فراشة صفراء ذات اللون وقعت في كوب القهوة، ومن توتر الموقف، انسكب كوب القهوة على معطفه، كان ذاك اليوم سمائه ملبدة بالغيوم ، ثم شعر صاحب المعطف ببرودة يدي حبيبته “كليمانس” فألبسها معطفه الذي  بقي عليه بواقي القهوة المنسكبة.

فراق كليمانس عن محبوبها

وبعد شهور طويلة من تلك العلاقة الجميلة جاء إليها، وقال لها؛ أشعر أني في مأزق كبير، متشتت الذهن، تذهب التفاصيل الصغيرة الجميلة من حياتي إلى فراغ أبدي، ثم بدأ قلب “كليمانس” يدق بسرعة كبيرة، حيث شعرت بأنها ستدخل زوبعة لا تدرك معناها، ثم قال لها عائلتي رفضوا رفضاً قطعياً زواجي منك بسبب إصابة أختك “مسك” بالتوحد، وقد حاولت معهم مراراً  وتكراراً دون جدوى، ثم بدأت “كليمانس” ترمش بأسرع من المعتاد، وتقول له أرجوك لا تتخلى عني إنك المحور الذي تدور حوله حياتي، ثم قام بتقبيل يديها ورحل، في تلك اللحظة شعرت “كليمانس” أنها خسرت اللهفة خسارة أبدية، ورأت حياتها عبارة عن أمسية تعيسة يتخللها قدر مغلف بالوحدة، ثم احمر وجهها عندما اقتنعت أن كل شيء قد انتهى.

زواج “كليمانس”

بعد عدة شهور قاسية تقدم لخطبتها دكتور  في العلوم السياسية بجامعة لندن، كان رجلاً أرمل، حاد الطباع، يكبرها 20 عاماً يعيش في لندن منذ مدة طويلة،  ولكنه جاء إلى فلسطين ليحضر جناز أمه، وقبيل سفره أصرت أخته على تزويجه لتطمئن عليه،  وكانت ترى في “كليمانس” فتاة مثالية لأخيها، ولكن رفضت “كليمانس” رفضاً تاماً لأنها لا تستوعب كيف ستعيش  بعلاقة خالية من الشغف، ولكن بعد محاولات عديدة من عائلتها بالإقناع للحظة شعرت بالضعف وقررت بالقبول لأنه بنهاية الأمر لم يكن لديها شيئاً لتخسره، وقبلت أن تدخل تلك المغامرة.

بعد زواجها بمدة قصيرة جداً حملت “كليمانس” وقررت أن تسمي ابنتها على اسم أختها لطالما أحبتها كثيراً، ومن الجدير بالذكر بأن زوجها كان يُعاملها بفوقية، ولا يسمح لها بوضع مساحيق التجميل، وفي يوم من الأيام كانت “كليمانس” برفقته في المكتبة لشراء بعض الكتب، ثم لفت نظرها كتاب “الكشاف” للزمخشري فأخذته من الرف لكي تشتريه، وعندما رآها أخذه منها وأعاده إلى الرف، وقال لها: ماذا تفعلين؟! حسناً سأعتبر قلة ثقافتك عذراً لهذا، فقالت له: أرجوك لماذا تقول ذلك، لم أفهم، فقال لها إن الزمخشري كان يعتنق مذهب المعتزلة، وكلامه لن يتوافق مع عقيدتنا، فقالت له أعلم ذلك ولكن البلاغة الموجودة بذاك الكتاب لم يشابهها أي بلاغة لذا أحببت أن آخذه، فنظر إليها نظرة مملة، وقال لها: من الأفضل لك أن تأخذي كتاباً يتحدث عن الأطفال وما شابه، على الأقل ستستفيد بذلك ابنتنا “مسك” المنتظرة، وكأنهما يعيشان في عالمين مختلفين.

رحيل زوج “كليمانس”

بعد ولادة ابنتها “مسك” بعشرة أعوام، وفي يوم كثيف الضباب، جلس زوج “كليمانس” والشيب يغطي شعره في الشرفة، وقام بمناداتها لكي يشرب معها قهوة  الصباح، ثم بدأ يتكلم بصوت رحيم هادئ، وقال لها: يا زوجتي أتعتقدين أنني رجل لطيف؟ سكتت “كليمانس” وقالت في تردد: نعم، أظنك كذلك، ثم قال لها: حسناً يا عزيزتي كنت أعلم أن  كلماتي كانت تؤذيك في بعض الوقت.. فقالت له: أرجوك هدئ من روعك ولا داعي لذلك، ثم قال لها: ولكن أريدك أن تعلمي أمراً هاماً، ثم بدأت يداه ترتجفان ووقع كوب القهوة منه على الأرض، ودخل في حالة اللاوعي، وبعدها بساعة فارق الحياة دون أن يذكر ذاك الأمر الهام.

اااه ما هذا قد انزلقت الفراشة في كوب الزنجبيل.. يا لتلك الفراشة فقد أعيدت “لكليمانس” ذكرياتها،  ثم سمعت صوت الباب يطرق، نعم إنها “مسك”، فالآن موعد قدومها من الجامعة، كانت “مسك” هي أمل وروح وماضي ومستقبل وشغف “كليمانس” فهي من تمد أمها بالسعادة وتُنسيها غلاف الوحدة الذي راهنت عليه في يوم من الأيام.

فيديو مقال أمسية كليمانس

أضف تعليقك هنا