الملفات السوداء

بقلم: د. عبدالله ظهري

ماذا تتضمن الملفات السوداء؟

يجلس على الكرسي، يخرج سلسلة مفاتيح ويفتح الدرج الثالث أو الأخير في مكتبه، ملفات الموظفين في القسم، ملفات بلون أسود..أسود قاتم..كل ملف مدون عليه اسم موظف..تقريباً كل موظفيه لهم ملفات في الدرج..طريقة عرفها منذ زمن بعيد وملكت عليه عقله وتفكيره..ملف يحتفظ فيه بمستند يثبت فيه ذنوب الموظفين وآثامهم..كل ما فعلوه خارج السياق صغيراً كان أم كبيراً.. حالة توثيق مستمرة بلا توقف..والنتيجة أن كل الموظفين لهم ملفات سوداء في الدرج.

من هذا الذي يعمل بلا أخطاء؟! ..أو يعيش بلا أخطاء؟! خطأ واحد كل سنة كفيل بتسمين الملف!! وهناك أخطاء واحد منها يكفي لتسمين الملف!! الملف له يوم سيفقس فيه مثل الدجاجة، هو اليوم الذي يحتاجه فيه صاحبنا لاتخاذ قرارت أو تصفية حسابات أو الحصول على رضا الرئيس الكبير، ضحايا هذه الملفات كثر، ومن شرب من كأسه المر كثيرون، كثيرون تعاملوا معه بنية طيبة فذاقوا وبال أمرهم، كثيرون اجتهدوا في عدم ارتكاب أخطاء ونسوا أنهم بشر، هو نفسه نسي أنهم بشر وأنه أيضاً بشر..

ما غاية الموظف “كاتب التقارير” من كتابة التقارير عن الموظفين؟

تخيل حال موظف يعرف أن هناك ملفاً أسوداً قد يكون في النهاية هو قبره ومثواه الأخير! على كل حال؛ اليوم هو على موعد مع رئيس جديد للشركة، رئيس يتحدث بلغة أثارت قلقه لأنه يتحدث عن التغيير، الحديث عن التغيير يثير القلق وربما الهلع، عليه أن يثبت لرئيسه أنه هو الأكفأ ولولا وجوده في المكان لنزلت المصائب على المكان، وعليه أن يثبت لرئيسه أن مكانه لا يصلح لغيره وأن مرؤوسيه تشوبهم الشوائب والدليل يكمن هنا في الدرج.

جمع الملفات السوداء واتجه منتشياً إلى مكتب الرئيس الكبير بعد الاتفاق على اجتماع سيطول، اجتماع أسود بلون الملفات، دخل على رئيسه الجديد وهو يمسك بالملفات..سلم عليه ورد الرئيس التحية بسلام حار..جلس على منضدة مستديرة في وسط حجرة الرئيس..ووضع الملفات أمامه وأمام الرئيس وبعد حديث ليس بالقصير تحدث فيه عن نفسه بكل خير منهياً كل فقرة من حديثه بالحمدلله.

وعند الحديث عن مرؤوسيه مدحهم في البداية وأقر بأنهم مجتهدون لكنهم ليسوا بلا أخطاء والملفات تثبت أخطاءهم..هذا ليس للتقليل من شأنهم في عيون سعادتكم ولكن سعادتكم يجب أن تعرفوا من يعمل معكم..هذا ما قاله للرئيس..المدير التزم الصمت..يعطي الرئيس ملفاً بعد ملف..وفي كل ملف يشرح بتفصيل كبير..هو يرى أن الأخطاء تكشف شخصيات موظفيه..إذن هي ليست ملفات لكنها شخصيات تتحرك في المكان وعلى المنضدة أمام الرئيس الجديد، ساعة ونصف تقريباً والرئيس الجديد يتصفح وصاحب الملفات يتابع تعبيرات وجهه..انتهى الرئيس من الاطلاع على أكثر الملفات..أغلق الملف الأخير ووضعه جانباً وبدأ يتحدث إليه:

  • شكراً لك
  • العفو سعادة الرئيس
  • ملفات هامة لكن الدرس الذي نتعلمه منه أهم
  • نعم سعادتكم درس مهم للغاية.. أن توثق ما يفعله مرؤوسيك
  • ليس هذا هو الدرس
  • إذن ماهو الدرس؟
  • الدرس هو أن توثيق أخطاء الموظفين جريمة
  • جريمة !!
  • نعم جريمة ..وأنت ترتكبها في وضح النهار وباستمتاع كبير
  • سعادة الرئيس..
  • أنصت لي لو سمحت بالنسبة لك اكتشاف الخطأ لذة لا تعادلها لذة…أن تكتشف الآخر وهو يخطئ أمر يجعله دائماً تحت سيطرتك…والسيطرة على الموظف بالنسبة لك هي كل شيء…أيضاً عندما تفقد القدرة على تحقيق إنجازات تتصور أن الإنجاز سيتحقق باكتشاف أخطاء الآخرين..ربما ارتكب الآخرون خطأ كبيراً في حقك وفي صغرك كانوا مغرمون باكتشاف أخطائك..بالتأكيد كانوا يحبونك..وطريقتهم في حبك كانت اكتشاف اخطائك…أيضاً مديري الفاضل أنت لا تثق في الآخرين وهذه هي مشكلتك الكبرى أو مشكلتهم الكبرى..لا تشعر معهم بالأمان وتتصور أنهم جميعاً يستعدون في كل لحظة للانقضاض عليك أو أنهم يتعمدون عرقلة مسيرتك..وقبل أن تفقد ثقتك بالآخرين فقدت أنت ثقتك في نفسك..أنت تحقد على الآخرين..واكتشاف اخطائهم يشبع نهم حقدك…كان الله في عونهم..حقدك يدمرهم والضغوط التي تمارسها عليهم تقتلهم..
  • أنت تظلمني سعادة الرئيس
  • لا ..أنا أنصفك..أخيراً أريد أن اسألك…كيف تتصور حالنا إذا كان الله خالقنا لا يرى إلا سيئاتنا؟ وأنا أجيبك..الله سبحانه وتعالى لا يحاسبك على سيئة هي مجرد خاطر في قلبك، ويعطيك ثواب حسنة هي مجرد خاطر في قلبك…أُنظر إلى رحمة ربك بعباده رغم أن عباده لا يكفون عن الخطأ..لكنه لا يتوقف عن الرحمة..عباد له يتبدل حالهم ويصلح عملهم لأن خالقهم تسامح عن أخطائهم وتقبل حسناتهم..سيدي..أنت تقتل الناس بأخطائهم، والله يحييهم بها..

هذا هو الدرس الذي تعلمته وأرجو من الله أن تتعلمه أنت..

بقلم: د. عبدالله ظهري

أكاديمي وكاتب/ Facebook: elbarjal

 

أضف تعليقك هنا