حوار مع قارة عجوز..

حاجة الإنسان إلى وجود دولة أو نظام ليضمن له حقوقه

“لم يسبق لي أن قابلت الدولة؛ ولم أتناول الغداء مع شخص معنوي من قبل”، تلك العبارتان المنتميتان إلى أحد أساتذة القانون، أكثر العبارات المُصَوّرة روعةً؛ وهي تساؤل عبقري أيضاً في حد ذاتها؛ فالنظام ليس إلا مجرد فكرة، وإذا تساءلت أين أجد القانون؟ ستجد الإجابة دون إغراق في التعريف أنها
“فكرة تنظيمية اجتماعياً”.

ولكن؛ ترى ماذا قصد “إمارتيا صن” -عالم الاقتصاد الهندي- ب: “.. أن أحداً لا يستطيع التفكير من فراغ.. فالاختيارات لا تتطلب الوثب من الفراغ إلى مكان، ولكنها يمكن أن تؤدي إلى حركة من مكان لآخر..”؟ لماذا لم يخطر بالبال أبداً إلى ماذا تدل أحد إشارات المؤرخين المنسية مثل كون مبدأ “البينة على من ادعى” مصري الأصل حسب رواية “ديودور” المؤرخ الصقلي عن أحد ملوك الأسرة السادسة والعشرين المصرية، هذا إن لم يكن يوناني النشأة من وضع المشروع الأثيني “سولون” في القرن السابع تقريباً قبل ميلاد السيد المسيح (عليه السلام) لتحرير العبيد والفلاحين الأقنان المحجوز على أملاكهم بسبب ديون لا يوجد لها صك مكتوب، فيما عرف آنذاك ب”نزع النير”.

ورغم أن فكرة “النظام والعدالة” في ذاتها متغيرة الملامح، إلا أن طبيعتها ثابتة على مر العصور، وإن اختلفت مسمياته أو مفرداته كلما أوغلنا في القدم ومن مكان لآخر، ولعلها ذات الفكرة التي لمعت في أذهان المصريين والعراقيين القدماء حيال وجوبية وجود النظام وتطبيق العدالة -وأعني النظام في معناه الواسع- إلا أنها اختلفت في الرؤية والتطبيق تبعاً للاختلاف الجغرافي.

ففي المجتمعات البدائية وحين انتقل الإنسان من طور الصيد إلى طور الزراعة، ونشأت التجمعات البشرية كانت الحاجة لما نعرفه اليوم بالمؤسسة التي ترعى شئون الجماعة؛ ولأن التكاثر البشري والتشعب الذي استمر في تغيير كتلة الجهاز الإداري منذ القدم هما العاملان الأساسيان في تطور فكرة التوثيق الحكومي، والذي من خلاله وصلت إلينا أخبار البشر منذ بداية استخدام القلم على ضفتي دجلة والفرات، أو النيل منذ آلاف السنين.

أوروبا من السيادة إلى العالمية

أشار “هنري كسينجر” إلى أن القرن الثامن عشر والتاسع عشر قرنان إنجليزيان حتى النخاع، وخلالهما قدمت إنجلترا على الساحة الدولية مبدأ توازن القوى؛ لكنه أكد أن القرن السابع عشر كان قرناً فرنسياً، فعلى يد الكاردينال “ريشيليو” قدمت فرنسا مفهوم الدولة القومية أو الوطنية “National-State” وكيف تحرك المصالح القومية للدولة أجهزتها.

وبجانب تبلور فكرة الدولة القومية محلياً، اكتمل تبلور الفكرة “اللوثرية” الرافضة لسيطرة الاكليروس الكاثوليكي في روما أيضاً؛ فبدأ عصر النهضة في أوروبا برفض تام لكل ما هو “غير طبيعي” أو “غير إنساني”؛ الأول معني بالعقل أو معني بالطبيعة كمركز للكون؛ والثاني معني بمنظومة القانون والأعراف والتقاليد “القومية” كمركز الكون.

وقد ثارت تلك الجدليات في دوائر ثلاثة من القارة العجوز باختلاف الثقافات المختلفة بين دول الشمال، في إنجلترا، وفرنسا، وألمانيا وشرق روسيا؛ لكن الاتفاق فيما بينها كان في رفض أي وجود لقوى متجاوزة للزمان والمكان نظراً لما عانته أوروبا من فساد ديني.

حتى وإن تفاوت هذا الرفض بين التطرف في المادية ونزع القداسة عن الأشياء، كدولة “هيجل” الليبرالية أو مجتمع “ماركس” الشيوعية التي أشار إليهما “فرانسيس فوكوياما”. وبين محاولة التوفيق بين المادي والروحي كما فعلها “دانتي” في “الكوميديا الإلهية” في القرن الثالث عشر الميلادي، وفعلها من بعده “جون لوك” في رسالتيه حول الحكم المدني والتسامح في القرن السابع عشر الميلادي.

ووفقاً للمبدأ المعني ب”الدولة القومية” فإن الصدام كان أمراً مقبولاً بين مفاهيم ومدلولات “الجمهورية” في فرنسا وألمانيا “بسمارك وهتلر” وروسيا السوفييتية؛ بل وتوسعت تلك المفاهيم في التنازع والسيطرة والازدهار في ظل الفلسفة الرومانسية الفرنسية والمثالية الألمانية، فأصبحت نمطاً مألوفاً بعد الحرب العالمية الأولى.

بل إن بعض الحالات، كفرنسا ما بعد هتلر، كان الفضل في الحفاظ على تفرد وتميز الجمهورية الفرنسية ودرء المد الشيوعي يرجع لقائد أو زعيم متشبع بالثقافة الفرنكية شكلاً ومضموناً تعشقه فرنسا ذاتها هو “شارل ديجول”.

قانون سكسونيا

قضت غزوات قبائل “الإنجلز” و”الساكسون”، القادمين من إقليم سكسونيا شمال غرب ألمانيا، على التفوق “الكلتي” واستوطنت الجزر البريطانية وأسست سبع ممالك، حتى حققت الوحدة في القرن الثامن تقربياً.

وفي عهد الملكة إليزابيث الأولى وبعد دعمها للبروتستانت ولسكان الأراضي المنخفضة “هولندة وبلجيكا”، ونجاح البحرية الملكية في هزيمة “الأرمادا” الأسبانية عام ١٦٠٤م تقريباً، أذنت ساعة رحيل التفوق الاسباني في أوروبا، وأصبحت إنجلترا منذ ذلك الحين وحتى القرنين التاليين منذ “سيدة البحار”.

وباختصار.. كما هو عنوان كتاب الإنجليزي “توماس.ب.ماكولاي” أحد المؤرخين ومديري المستعمرات، والذي كان في طبيعته أحد تقارير الإدارة الإنجليزية عن التعليم في الهند، حيث يقول في أحد العبارات التي تعبر عن رؤية حاملي الثقافة الأنجلو- سكسونية: ” لم أجد قط واحداً من بينهم -أي المدافعين عن اللغات والتقاليد الهندية- يستطيع إنكار أن رفاً واحداً من إحدى المكتبات الأوروبية الجيدة يساوي كل الأدب المحلي للهند أو للبلاد العربية..”.

ومع العلم أن كان بالنسبة للضابط أو الجندي الإنجليزي هو إنجيل الحكومة بخصوص الهند، ومن خلال استعراض احتمالات إسقاط تلك العبارة وتأثيرها على قارئ هذا الكتاب، يمكن استنباط التوجه الإنجليزي وبالتالي التوجه الأمريكي.

لكن على عكس الثقافة الإنجليزية الاستعمارية أو الكولينيالية؛ بدل الأمريكيين الثوب البشع واستبدلوه بالثوب التبشيري الجديد للولايات المتحدة والذي سيكون في سياقي الديموقراطية وحقوق الإنسان، القائمين أصلاً على مبدئي ميثاق الثورة الفرنسية التوأم: “الحرية والمساواة” واللذان أشار إليهما معظم الفلاسفة وصولاً إلى فوكوياما.

وكانت نظرية “جوزيف ناي” عن ” القوة الناعمة Soft Power ” و”إدوارد بيرنز” عن ” الدعاية أو التبشير Propaganda ” إفراز حتمي لذلك الاتجاه.

وختاماً..

إن قدرتنا على فهم الكون وموضعنا فيه تشكل واحداً من أمجاد الجنس البشري وقدرتنا على التواصل العقلي مع بعضنا عبر اللغة وخاصة قدرتنا على توصيل أفكارنا عبر القرون تشكل مجداً آخر..

وسلاماً على أهل الكهف..!

المصادر:

  • “امارتيا صن”، الهوية والعنف.
  • “برتراند راسل”، تاريخ الفلسفة الغربية.
  • “ريتشارد دوكنز”، دفاعاً عن العلم.
  • “زكي نجيب محمود”، قصة الفلسفة اليونانية.
  • “عبد العزيز صالح”، تاريخ الشرق الأدني القديم.
  • “فرانسيس فوكوياما”، أصول النظام السياسي.
  • “فرانسيس فوكوياما.”، نهاية التاريخ.
  • “ويل ديوارنت”، قصة الحضارة.

فيديو مقال حوار مع قارة عجوز..

أضف تعليقك هنا