ما بين الوحدة والألم

قصة عن رجل تهشمت عظام فخذه إثر تعرضه لحادث مميت

وكعادته.. في مشهد يتكرر كل يوم، يتجه لغرفته ليطفئ جميع الأنوار، يترك فقط بصيصاً أزرقاً خافتاً ينبعث من مكبرات الصوت، يسمع مقطوعته المفضلة.. أجمل ما عزف بيتهوفن “ضوء القمر”، يستلقي على سريره، واضعاً يديه خلف رأسه في سُبات عميق، يحدق في سقف الغرفه بنظرات حادة، قاطعة، ليست كسابقتها من نظرات التأمل والحسرة التي اعتداها، فاليوم لديه شعور غريب..

نسمات الهواء الملكومة تتسلل من أسفل باب الغرفة، تخترق ثقوب النافذة، الأكسجين يكافح ليصله بينما هو يرفضه، أنفاسه تتصاعد، مقلتاه يعبثان في كل اتجاه، عقله الشارد يتحرك بعنف، شرارة تكاد تنطق من عينيه، فيما يفكر! عقله المضطرب قد يدفعه لصنع الحماقات.

كيف أمضى الرجل حياته بعد عجز قدمه عن الحركة؟

محاولاته المتكررة لنسيان ألم الحادثة

انتفض من مضجعه، لم يعد يفكر في مَن خانه، لم يعد يفكر في حبه الضائع، أو مستقبله البائس، أحرق كل أفكاره المستقبلية، نهض ليخرج زجاجة خمر من خزينة ملابسه، سيرتشف جرعته المعتاده كي يهدأ، وبالفعل تناول جرعة متواضعة من شرابه المميت لكنها لم تفِ بالغرض، لم تهدأ ثورته بعد..

المقطوعه الأولى انتهت بعد نصف الزجاجة، لكنه ما زال مضطرباً، مازال يشعر بالألم رغم كمية الكحول، قدمه ما زالت تقتله، فمنذ عامين قد أصابه حادث مميت، مما أوجد جراء ذلك تحطم كل عظام فخذه الأيمن، فأصبحت لديه عاهة تمنعه من السير بشكل سليم، الموسيقى تمضي، والليالي تمضي واللحظات والأحداث والأشخاص، ولا زال يتذكر ألمه في كل ثانيه تمر!

ظل عامين متتاليين يعيش على الكحول والمسكنات، أصبح وحيدأ بائساً يتحاشى التواصل البشري مع أي شخص، ليس لديه سوى قليل الأقل من الأصدقاء الذين لا يثق في غيرهم، تحول من شخص طبيعي إلى راهب معتزل لكن لا ليتعبد, بل ليتناسى ألمه وعجزه وبؤسه.

الزجاجة على مشارف الانتهاء، العالم البائس لا يتغير، مازلنا نعيش في ثلاجة كبيرة للموتى! الألم لم يختفِ بعد، تزداد الجرعة تدريجياً، لم يصل إلى مرحلة السُكر بعد، فلطالما كان سكيراً!

شعور بمرارة الألم والوحدة

كنت أتساءل دائماً، شاب مثله، يمتلك كل هذه المواهب الكتابة، العزف، يلعب الشطرنج بشكل احترافي ،وأيضاً بطلاً رياضي، ما الذي يدفعه إلى هذا البؤس القاطم؟ فقدان قدم واحدة لا يعني فقدان الحياة بأكملها؟ لن أجزم أن الشعور بالألم يمكن تجاوزه بالعلاج النفسي والتأهيل، فمن الطبيعي في مثل هذه الحالات أن يعيش الشخص على المسكنات.

وأخيراً فرغت الزجاجة، لكنه مازال يمسك بفخذه! ما زال البرد يتخلل عظامه لينخر فيها بكل قوة وعنف، الألم ما زال يصعقه، يطلب منه أن يبتر ساقه!

ألقى بزجاجته في الحائط لتتهشم كما تهشمت عظامه، يحمل قطعة من الزجاج ليبدأ في رسم لوحة من الجروح على جسده، يبدأ بجرح ذراعه الأيسر من الأعلى، الدماء تتدفق كماء الشلالات، أعتقد أنه قد قطع عرقاً، لا تتعجبوا من فعلته فالألم جعله يستخدم ذكاءه في محاولة لتخفيفه، فالجروح تتطلب الأندروفينات، والأندروفين يُسكن الألم، لك أن تتخيل كيف يشعر هذا الإنسان بالألم! لك أن تتخيل كمّ المعاناة التي تدفعه لتشويه جسده، استمر في عمل الجروح في كل أنحاء جسده الذي هو في طريقه للهلاك، النزيف يشتد ويخرج من كل مكان، أصبح كالنافورة في حوض المياه.

ربط جروحه وبحث عن كل الحبوب المسكنه التي يمتلكها، أحضر كل زجاجات الجعة من ثلاجته، كل مخزون الكحول في خزانته، أغلق هاتفه المحمول وهو يعلم جيداً أن لن يتصل به أحد، ولكنه خشي أن يضعف فيتصل هو بأحدهم.

تناول عقاقيره، أغرق نفسه بالجعة والخمر، كأنه ثور هائج يطيح بكل ما يجده في طريقه، وفي لحظة…

انطلق البكاء الهيستيري، صراخ وعويل قد يملأ الكون، وهنا الألم لم يعد جسدياً فقط، من المؤكد أنه قد تذكر وحدته المؤلمة، من المُهلك أن تتخيل الموت ولا أحد جوارك..

كان يعلم أنه وحيد مهما ازداد عدد الأصدقاء من حوله، فلا أحد يتقبل أفكاره المجنونة، وتصرفاته المتهورة، لا أحد يتقبل تركيبته المعقدة، أصدقاؤه فقط يتقبلوه بدافع الحب، دون أن ينسوا أنه وغد باغض للبشر.

نوبة صرع…

مايمر به الآن هو نوبة من الصرع، حيث حدث اختلال عصبي داخلي نتيجة لما تذكره من مواقف مؤلمة، نتج عنها اضطراب الإشارات الكهربائية في خلايا المخ، البؤرة الصرعية تزداد سوءاً يصاحبها بعض التشنجات، ضربات القلب ترتفع بشدة، الضغط ينخفض، جسده يتصبب عرقاً رغم برودة الجو، المعدة تتآكل، هناك تسمم في الدم نتيجة لما تناوله من عقاقير وكحول، يسقط على الأرض، يلهث بشدة، يحاول طلب النجدة لكن لسانه غير قادر على النطق، قلبه على وشك التوقف، يمسك بالسرير ويحاول النهوض لكن قدمه شبه مشلولة، الجسد بالكامل في حالة من الهياج، يتلوى ويصطدم في كل شيء..

الموت قادم…

رأى روحاً تقترب منه، تنظر إليه في صرامة، مقبلة ببطء، كأنها تخبره أنها النهاية! يحاول أن يغمض عينه ولكن البؤبؤ متسع على مصرعيه، الأدرنالين يكاد يُفجر قلبه، يهمهم ويتمتم فقد القدرة على النطق، حتى الصراخ لم يعد يتمكن منه الآن!

اقتربت الروح، همت عليه في هدوء شديد، ملك الموت يقوم بواجبه بتمهل، فلا مهرب الآن.

الروح ممسكة بعنقه تخنقه، تزهق روحه، تجبره على الاستسلام، ما زال مستمراً في فرفرته، يفرك بقدميه، يحاول النجاة، الوضع تخطى حدود الألم بكثير..

الأكسجين ينفذ من جسده، يسعل بشده، وجهه يزرق، وبعد وقت ليس بالقصير نزلت الدماء من أنفه وفمه…

استيقظ من نومه في فزع، لكنه أدرك أن الحلم فاسد فقد كان هناك دماً، الدماء تفسد الأحلام…

شرب كوباً من الماء، أخرج ورقه وأقلامه، وأخذ يكتب قصته! كل ما مر به في حياته البائسة، يحكي عن كل لحظة مبهجة، وكل يوم حزين، يكتب عن ألم الوحدة، ألم الجسد، يكتب عن الدموع والضحكات المزيفة…

يكتب أن سره وكيف أصبح كاتباً عظيماً، كيف تجاوز عجزه البدني وحوله إلى طاقه للإبداع، يكتب الحقيقة وأنه عاش سكيراً وسيموت منتشياً…

أخرج زجاجته المعتقة من مكمنها ليشربها كاملة في جرعة واحدة، ويعلق مشنقةً في سقف الغرفة، ليموت وحيداً في غرفته المظلمة مشنوقاً يكتب آخر سطر في كتابه…

“لتكن فناناً عظيماً، احرص على أن تكون بائساً…البؤس يدفعك للفن العظيـم!”.

فيديو مقال ما بين الوحدة والألم

 

أضف تعليقك هنا