مفاتيح لسورة العصر

أخطبوط الوقت

في رحلتنا مع الدراسة هناك قصةٌ لا تملّ من التكرار، حيث يبدأ كلّ عامٍ دراسي ويكون هناك سقفٌ للأهداف والدرجات يضعُه كل طالبٍ ويستطيع رفعه بمجرّدِ أن ينفخَ عليه إلى الأعلى، ولكن بعد أن تتوالى الأيامُ وتتراكم الدروس وتحيط به جدران الامتحانات التي تقترب مطبقةً عليه يدنو هذا السقف الثقيل شيئاً فشيئاً من رأس كل متهاونٍ، فلا يستطيع للجدران نقباً ولا للسقف رفعاً، ولا بدّ أن كل شخص منّا قد اِختبرَ تلك اللحظةَ المفصلية التي يقلّ فيها هامش المناورة ويبدأ فيها العد التنازلي لهذه الحقيقة الأخطبوطية المخيفة، ومن المدهش أنّ مستوى العمل يرتفعُ دائماً كلما انخفضَ مستوى السقف، وينجز الطالب حينذاك في يومٍ واحد بمقدار ما كان ينجزه في أسبوع كامل.

معنى العصر

في غمرة تأمّلنا لذلك المشهد السابق الذي نراه متكرراً في الدراسة وفي العمل وفي الحياة تطالعُنا بل تصدِمُنا سورةٌ قصيرة من القرآن تلخّص ذلك كلَّه وتحذّر منه فتقول في مطلعِها ذي الكلمات الخمس: (والعصر إنّ الانسان لفي خسر)، وإنه لحقيقٌ بنا أن نتوقّف لنتدبّر معنى ذلك القسم، وذلك التعقيب الذي يتجاوز حدود الجِناس والقافية إلى آفاقٍ تحيطُ بكلِّ ما في الحياة من قصصٍ وأحداث وعِبَر.

نشارفُ كلمة العصر فنرى أن لها عدة معانٍ عند المفسرين، منها معنيان رئيسيان:

  • فهي العصر الذي يعني الدهر(1) عموماً أو دهر الإنسان، أي حياته، وجمعها العصور عند ابن عباس فيما أخرج ابن المنذر.
  • وهي أيضاً: وقت العصر (2)بين زوال الشمس إلى المغيب عند قتادة والحسن.

العصارة

وقد التفت “البقاعي” (صاحب تفسير نظم الدرر) (3) بإلماح ثاقب إلى أن المقصد العام للسورة هو (تفضيل نوع الإنسان) وقال (واسمها العصر واضح في ذلك، فإن العصر يخلص روح المعصور ويميز صفاوته)، فكأن السورة تشير بالبنان إلى تلك الصفوة النادرة من جنس الإنسان المخلوق في أحسن تقويم والمفضّل على جميع من خلق الله تفضيلاً والذي لم يقم بحمل الأمانة التي أبتْ أن تحملَها السموات والأرض والجبال وأشفقن منها، فكان أكثرُ الناس لا يؤمنون وأكثرهم لا يشكرون ولا يعلمون كما يكرّر القرآن، ولذلك صار الإنسان بغالب جنسه في خسر رغم تواتر االتنبيهات والرسل، فكما هو الحال حين تستعصر أي شيء وتستخرج منه نسغ روحه وعصارته ويصبح ما تبقى غير نافع فتلقيه جانباً، فإنك تستبقي العصارة التي تشبه خلاصة الخلاصة التي حققتْ حقيقة الإيمان في نفسها، وتواصت على تحقيقه في غيرها لتنجو من الخسر الذي حاق بالكثيرين، وتُزحزَح عن النار برحمة ربها.

ما قبل النهاية

حين نتساءل: لماذا كان القسم مخصوصاً بوقت العصر (وفق قتادة والحسن)؟ سيصدعُنا مباشرة ذلك التلفّت الرهيب الذي نتلفّته في كلّ ناحيةٍ عندما تقترب الجدران من حولنا والأسقف من فوقنا بعد أن أصبح ما مضى أقل بكثير مما تبقّى، وندرك حينها أنّ هذا الوقت الذي تسرّب منّا كالماء من بين الأصابع كان أثمن ما نملك وكان هو ما أقسم به عز وجلّ. وحين نستبدل كلمة الانسان بكلمة الوقت في آية (إن الانسان لفي خسر) سنجدُ أنَّ المعنى لا يتغير أبداً فالوقت في جبلَّته هو خسارة دائمة غير متوقفة، فمن المستحيل بأن يوقِفَ المرء دقات قلبه، والإنسانُ كما قال الحسن البصري: ليس سوى بضعةِ أيام كلما انقضى يومٌ انقضى بضعٌ منه.

عند العصر يقرعُ جرس المنبّه مُعلناً بدايةَ النهاية للسعي والإنتاج في النهار وأن موعد جني الغراس قد أزفتْ آزفتُه لكنّ ذلك المنبّه ليس هو الذي تضبطه في هاتفك المحمول لينبِّهك حين تكون على مكتبك أو في سريرك بل هو جرس القلق الداخلي الذي يستشعره أيُّ انسان له بصرٌ وبصيرة في رحلته التي يمتزج فيها إرهاق التعب الـمُعْيِي مع علامات الوصول، ذلك القلق الذي يعتريك حين ترى بعض من بدؤوا رحلتهم معك قد سبقوك وبعضهم ما زال خلفك يتراكض سدىً لتدارك ما فات.

ما بعد النهاية

والطريف أن هناك من السابقين في الدنيا ممن سبق أقرانه بماله وبنيه وجاهه وعلومه ما يزال مستمراً في الركض المحموم واللهاث سريعاً في دنياه الفانية، وكأنه سباق بدون خط نهاية أو كأنه لا يرى أصلاً الشمس التي تميل في عصرها وأمامه ذلك الوادي الذي يهوي فيه جميع الراكضين وسيبقى ير فقره دائماً بين عينيه وإن كان أغنى الأغنياء؛ أما ذاك الذي مشى في طريقه ولم يلتفت لما حوله بل عمل لما بعد النهاية وكان غنياً باستغنائه عن هذه الدنيا فسيفوز وينجو، وصدق رسول الله (ص): (مَنْ كَانَتِ الدُّنْيا هَمَّهُ، فَرَّقَ اللهُ عَلَيْهِ أَمْرهُ، وَجَعَلَ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ مَا كُتِبَ لَهْ. وَمَنْ كَانَتِ الآخِرَةُ نِيَّتَهُ، جَمَعَ اللهُ لَهُ أَمْرَهُ. وَجَعَلَ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِي رَاغِمَةٌ)(4)

 مغالطات منطقية

وفي حمأة السير إلى خط النهاية نرى ذلك بعض هؤلاء في ركضه اللاواعي الذي لا يرى خط النهاية وقد صكَّت وجهه فجأة عقارب ساعة الانتهاء -كأن يأتيه نبأ إصابته بمرض مميت مثلاً- فإذا به يتراكض لتعويض الفاني بدل تدارُك الخالد، وكم سمعنا عن قصصِ من ينغمسُ ساعتَها مُمعناً في ملذات دنياه إلى آخر الوطر، إما انتقاماً منها لأنها سلبته حياته كما يتوهّم أو توديعاً لها قبل رحيله إلى عالمٍ لم يفكر ولا يريد التكفير به أصلاً؛ وكأنه داخل غرفةٍ مغلقة والماء يعلو فيها شيئاً فشيئا ًويرفعه إلى السقف فإذا به بدلاً من أن يبحث عن طريقة لفتح بابها والنجاة تراه ينفق وقته في استنشاق ما تبقى من الهواء المتبدد، ولاحقاً صار يطلق على المواقف المشابهة تلك بمغالطة تجاهل المطلوب Irrelevant Conclusion (5

وعلى النقيض مما سبق قد يلفح أحدهم اليقين بضرورة النجاة الحقيقية بعيداً عن خسارة دنياه المؤقتة، لكن بوصلته يقودها الهوى فيغترّ بنفسه ويكون إلهه هواه، وصار يسمى ذلك لاحقاً بمغالطة الاحتكام للعاطفة Emotional appeal أو يغترّ بقومه أو آبائه الذين ولد على دينهم وهو على آثارهم سائر فيسلك الطريق الخاطئ (بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون) (6) وصار يسمى ذلك لاحقاً بمغالطة الإمعة Bandwagon وما أتعس الأخسرين أعمالاً (الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهو يحسبون أنهم يحسنون صنعاً) (7) فصار أحدهم يكافح لينتصر على الشخص الوهمي ويخوض الصعاب ليكتشف أن ما سعى من أجله كان جائزة وهمية ورجلاً من القش يتناثر في الريح وصار ذلك يسمى لاحقاً بمغالطة رجل القش strawman fallacy

كان ما سبق هو المدخل لهذه السورة المباركة التي قال عنها الإمام الشافعي السورة: لو لم ينزل غيرُ هذه السورة لكفَتِ الناس وللحديث بقية.

المصادر

  1. الإمام الطبري في جامع البيان- جـ 16- ص 587
  2. التبيان في أقسام القرآن- ابن القيم الجوزية- ص 114
  3. نظم الدرر في تناسب الآيات والسور- برهان الدين البقاعي – جـ 22- ص 235
  4. سنن أبي ماجه- كتاب الزهد- باب الهم بالدنيا- 4301
  5. المغالطات المنطقية- عادل مصطفى
  6. الشعراء-74
  7. الكهف- 104

فيديو مقال مفاتيح سورة العصر 

أضف تعليقك هنا