إن فاتك الميري..! – #تاريخ

مصر ما بين الزوال والازدهار 

منذ أن زفّ “أغسطس” نبأ فتح مصر إلى الرومان بسك عملة كُتب عليها “فتح مصر” ونُقش للتمساح النيلي وهو رمز المقدس “سوبك”، وعبارة “لقد وضعت مصر تحت السلطان الروماني” التي وضعت جانب أخريات في سجل “الأعمال المجيدة”، ظلت ” الشحنة السعيدة ” مصدر غذاء الامبراطورية الرومانية، ومن بعدها البيزنطية، لما يقارب الستمائة عام.

لذلك فحين تسنى ل “سليم الأول” غزوها أصبحت مصر بالتالي “سلة خبز” السلاطين العثمانيين ودرة التاج العثماني، وطور العثمانيون نظاماً قانونياً وإدارياً شديد الصرامة، إذا تم قياسه بأي نظام إداري إمبريالي، وبواقعية شديدة، نجده -وبامتياز- قد عزل سلة غلاله عن العالم، وعزل الطامعين من الباشاوات وكبار رجال الدولة عنها.

لذلك فإن نافلة القول أن قدوم الچنرال “بونابرت” حاملاً معه نسمات التنوير “الرومانسية” الفرنسية إلى مصر بمثابة “صدمة حضارية” بكل ما تحويه الكلمة من معانٍ وأبعاد.

فعلى سبيل تأسيس المشروع الإمبريالي الفرنسي في إفريقيا والشرق الأدنى بعد فقدانها مستعمراتها في أمريكا والهند، أعاد “بونابرت” إحياء مجالس الأقاليم -الكامنة منذ نهاية عهد البيزنطيين- والتي ألّفها من “الطبقة الوسطى”-شيوخ الأزهر والأعيان آنذاك- بغرض معاونته في دراسة أعمق وإدارة أدق، وبذر فكرة تحديد ملكية الأراضي الزراعية والتي تتعارض في كل أبعادها، كماً وكيفاً، مع النظام الإقطاعي العثماني.

وباختصار أكثر، أعاد الچنرال -دون أن يقصد- تأسيس ما قد أُجبر المصريون على تناسيه في ظل النظام الإداري والاقتصادي العربي-الفارسي ثم العثماني.

وطبقاً لرأي ڤولتير -الكاتب الفرنسي الساخر- فأنه: وفي حين أن الساراسين Saracens ” أي الشرقيون أو سكان الصحراء الشرقية من العرب “لم يكونوا يريدون من العلم سوى القرآن، إلا أنهم قد أوضحوا بالفعل أن نبوغهم يمكن أن يمتد إلى كل شيء، فالاضطلاع بتجديد القناة القديمة في مصر والتي كان قد شقها الملوك، ثم أعاد تراجان شقها، وربط النيل بالبحر الأحمر، إنما يليق بالعصور الأكثر استنارة، وقد قام أحد الولاة في مصر بهذا العمل العظيم في ظل خلافة عمر، وتوصل إلى إنجازه، فما أوسع الفارق بين نبوغ العرب ونبوغ الترك، إن هؤلاء الأخيرين قد تركوا للزوال عملاً تعتبر صيانته أكثر أهمية من فتح ولاية كبرى.

نافذة على “السلطنة العليّة”

في مصر، أضخم الأمور تبدأ بطلب ينتهي بعبارة “مقدمه لسيادتكم..”.
وللحق أيضاً فإن البيروقراطية -في مصر- مع الأهرام تبدأ وفيها تتلخص كما قال “جمال حمدان”.
ولهذا لم أعد متأكداً من حقيقة هل بالفعل أتى “نابليون” وحاملاً معه بذور أفكارٍ مثل الدولة وجهازها الإداري؟
أم أعطاها هو وَمِن بعده “محمد علي باشا” قبلة الحياة؟

فقد اعترف “بونابرت” بذاته: ..إن الحكم في مصر ذو أثر مباشر فعال على مدى الفيضان، فهو خاضع لإرادة الحكومة، وهنا يبرز الفرق بين حكم البطالمة -وكان رخاء- وحكم الرومان الذي أدى إلى تدهور البلاد..

وفي سياق الاعتراف الأخير، فقد أشارت معظم الكتابات كذلك إلى أن التعداد السكاني لمصر ارتبط بعنصرين مهمين هما: منسوب النيل، والثاني هو تماسك الإدارة المركزية وتنظيمها للموارد المائية قبل وبعد الفيضان، أغسطس من كل عام.

وقد ذكر عدة مؤرخين -وأشهرهم “يوسفيوس” -المؤرخ السكندري- أن تعداد مصر في العهد اليوناني وربما الروماني كان يتراوح ما بين النقص والزيادة من ثمانية ملايين إلى خمسة ملايين نسمة، وظلت النسبة ثابتة تقريباً في عهد العرب، أما الإحصاءات التي أجراها الفرنسيون بمجرد دخولهم مصر وحتى أوائل عهد “محمد علي” تشير إلى أن التعداد السكاني لمصر لم يتخطى حاجز المليونين وسبعمائة ألف نسمة على أقصى تقدير.

وعن وصف “جوزيف ماري مواريه” -أحد ضباط نابليون- للإسكندرية والقاهرة أعظم حواضر مصر، يقول عن الاسكندرية: أما بيوت هذا البلد فهي متواضعة مشيدة بالطمي ولا يوجد ما يفوقها قذارة، وسكانها لا يملكون من أثاث وأدوات سوى بعض الأواني الفخارية وقصعة وبضع معالق ومغارف خشبية، وهم يجهلون الدواليب.

وعن القاهرة: هي بكبر باريس وتعادلها في الازدحام، ولكن بأية نوعية من البشر! إنهم رجال قذرون في سواد منظفي المداخن عندنا في سافوا، كسالى خاملين كصعاليك نابولي، وهم باختصار يشبهون سكان الإسكندرية، وشوارع القاهرة ضيقة، وهوائها غير صحي، كما أنها غير ممهدة وتنعدم فيها المصابيح في الليل، وأغلب بيوتها لا تعدو أن تكون أكواخ شديدة البؤس، أما ديار الأثرياء؛ فمشيدة بكتل ثقيلة من الحجارة أو الطوب ومكسوة بالبوص المجدول، فإن تهدمت لم يكلفوا أنفسهم عناء إصلاحها وإنما قاموا بتشييد غيرها في مكان آخر.

وبما أن تنظيم الإدارة المركزية العثمانية في عمومه سار على نهج التنظيمات الإدارية السابقة وأهمها التنظيم العباسي، الذي استفاد بدوره من تراث الساسانيين والغساسنة، واتباعاً لسُنّة العباسيين في خلق النواة البيروقراطية والعسكرية، ومن خلال يعرف بضريبة الغلمان “الديوشومه” التي راكمت طبقة القولار، وتترجم لل”العبيد”، والتي تشبه المماليك إلى حد بعيد، فقد ألزمت الدولة على رعاياها المسيحيين على الدفع “عيناً” من أولادهم الذكور، وفقاً لشروط معينة، وبالطبع، وبطريقة أو بأخرى، يمكن للمقتدرين افتداء أبنائهم، فكان الباشا هو لقب من ألقاب كبار القولار أو كبار الأرستقراطيين يمنح بفرمان.

فمن ثَمّ، وعلى سبيل الاستفهام المحض، وكتساؤلات يحق لها أن تُطرح..
أكان العامل المؤثر في هذا القدر من الظلام والعزلة الحضارية، والذي وصفه “مواريه” وأشارت إليه الإحصاءات السكانية، هو نقص منسوب المياه أم عيب في الإدارة..؟
وأين الاختلاف إذن اذا ما قارنّا بين سياسة العثمانيين، وسياسة الإنجليز التي اختصرها اللورد “كرومر” بعد احتلال مصر قائلاً: لما كان القطر المصري قطراً زراعياً فلابد أن تكون الزراعة همه الأول، وكل تعليم صناعي يفضي إلى إهمال حراثَة الأرض ويقلل من ميل الأهالي إلى الزراعة إنما يعد مصيبة على الأمة..؟

الباشا في “قلعة” المركزية 

يحكى أن نظام الساسانيين “الفرس” كان من أقوى النظم الادارية، ويقال أن عاصمة الهند وحواضرها العظيمة في عهد الإمبراطور “أشوكا” كانت على قدر مذهل من التنظيم رغم اللامركزية المعهودة في “شبه القارة” الهندية قبل حوالي ثلاثمائة عام من مولد المسيح عليه السلام، لكنك لن تجد أبداً نظاماً فاق النظام الإداري المصري، والذي اكتمل تأسيسه فعلياً في عهد الدولة القديمة ٢٨٨٠ قبل الميلاد على وجه التقريب.

فمنذ أن تبلور جهاز مصر الإداري؛ ظلت نواة التكنوقراط الخاصة بالإشراف على الري يحيطها حلقات كثيفة من البيروقراطيين جهاز مال للمحاسبة على ثمن الماء وبوليس لضبط الأمن، وتنتهي بجهاز إداري يشرف ويقدم الخدمة لتلك الأجهزة -شبه بيروقراطية- بالمعنى المكتبي المباشر، ولذلك كانت أهم الإدارات في مصر على مدار تاريخها تقريباً الأشغال والزراعة والمالية والداخلية.

وكانت النتيجة المنطقية أن يصبح الموظفون طبقة في تركيب المجتمع بصورة لا تعرفها بلاد كثيرة، مما جعل البيروقراطية، كنتيجة لهذا، ارتبطت بطبقة البرجوازية، وبخاصة برجوازية المدن، وإذا كانت البرجوازية ارتبطت في أذهاننا بتجار أوروبا في العصور الوسطى، فإن من ما له مغزاه أنها ارتبطت في مصر الفيضية الزراعية بفئة البيروقراطية، فأصبحت مصر قلعة للمركزية وجنة الموظفين، وأصبح التعبيران الدارجان في الثقافة المصرية “الميري والطين” يلخصان أقطاب قوة في مجتمعنا.

وحيث كان السلطان ينظر للوالي باعتباره “ملتزم” عن توريد مبلغ معين سنوياً في مقابل الانتفاع بالأراضي الزراعية، التي هي كافة أراضي الإمبراطورية حرفياً، ونظراً لما يتكبده الباشا من أجل دفع “الجائزة الهمايونية” لنيل الفرمان السلطاني، والتي بلغت عام 1697 إلى عشرين مليون باراً – عملة عثمانية Para، وفي العام 1715 خُفضت لأسباب إقتصادية لـ 7.5 مليون باراً.

وحيث تنظم المادة (38) من قانون نامه مصر إيرادات الباشا: {لا تدفع رواتب الخيالة والمشاة وأمير الأمراء وأمراء السناجق نقداً من الخزينة عندما يحين ميعاد دفعها بل تحصل خراج أراضي النواحي، فتبعث كل طائفة بمن يتولى تحصيلها}.

وحيث عرفت مصر على إثر هذه المادة “تقليد” عثماني خارج نظام الالتزام عرف باسم الكشوفية، وهي قرى بأكملها كانت تخصص خراج الأراضي فيها للباشا، فكانت تخرج من نطاق الالتزام الذي يغذي الخزانة السلطانية، ويتولى كشافين الأقاليم المهمة مقابل ما يحسبونه من مال الفائض نظير ذلك، وتخصص من الأراضي التي بارت أو هجرها المزارعون لعجزهم عن تحمل ايراد الالتزام، إلى أن تسترد خصوبتها، ومن أحد المظاهر المثيرة للانتباه أيضاً إيراد “الحلوان” والتي كان يدفعها الملتزم الجديد حين يحل محل آخر وافته المنية، “حلاوة” استصدار قرار بتعيينه ملتزم.

يمكن استنتاج أن الفرمانات السلطانية بتولية الباشا حكم “مصر” كانت -وبالصيغة الحديثة- مجرد عقد لإدارة الأملاك نظير أجر، ينعقد عن طريق مزايدات ب”جائزة همايونية”، وشرطه الجزائي في حالة الإخلال هو “دين الديون”، الذي هو العجز في توريد مبلغ “الالتزام” سنوياً، وشرطه الفاسخ راجع لتقدير “الإدارة” المختزلة في السلطان وصدره الأعظم.

ولهذا وحين اقتنص محمد علي التزام مصر -وسواءً عن إدراك منه لطبيعة الشخصية المصرية أو بالصدفة محضة- وعلى سبيل العثور على موطأ قدم في ركب “الحداثة” لتأسيس مملكته، ارتكن “محمد علي” علي نظام المؤسسات، وسخر المصريين “أهل البلد الأصليين” -بجانب مماليكه وبعض المتمصرين- لخدمة تلك المؤسسات، وكان الجيش -وفقاً للظروف والأوضاع- العمود الفقري لمشروعه الكبير، أو بصيغة أخرى فضل اللجوء إلى الارتكاز حول شرعية الدولة القومية بجانب الشرعية الدينية.

وعلى أية حال، فإنه من تأمل حالة محمد علي تتجلى أيضاً أن إصلاحاته الداخلية آتت أكلها بالنسبة للجميع عدا العثمانيين، فعلى الرغم من تفعيله نظام الانتفاع في سياق تحديد الملكية كما وضعها الفرنسيون، وباكتمال ركني الأمن والاقتصاد فإن نظامه -وإن كان احتكارياً- قد جذب رؤوس الأموال الأجنبية كدائنة ومدينة مع الدولة، لأن نظام “آدم سميث” الرأسمالي يرتكن في أساسه على الدولة القانونية وأجهزتها التنفيذية، وبعد أن نخر السوس أعمدة النظام الإقطاعي البائد وأجهزته أصبح لا يواءم روح العصر.

وبناء على الانفتاح الاقتصادي، أسس الباشا -ومن خلفه- البينة التحتية الحديثة وخاصة للطرق النهرية والبرية بين الإسكندرية ودمياط والقاهرة والسويس وبين قنا والقصير وسفاجا، وأصلح الموجودة، وإن كانت الإصلاحات التي تلت هزيمته نوارين وفي عهد خلفاؤه، كان نتيجة ضغوط أجنبية، لا نتيجة لإصلاحات اجتماعية حقيقية، فسرعان ما تحولت لتربة خصبة أعادت الطبقة الإقطاعية “الأرستقراطيين” للسلطة؛ إلى أن لَفَظ الإقطاع في مصر أنفاسه الأخيرة في سبتمبر ١٩٥٢م.

وإحقاقاً للحق، فقد كانت الجائزة الكبرى والاستثمار الأكبر بالنسبة للأوروبيين هي الامتيازات السلطانية لهم. وبالنسبة الإنجليز -على وجه الخصوص- كانت الاتفاقية (العثمانية – البريطانية) 1838م، والخاصة بالضريبة الجمركية التي تُفرض على صادرات إنجلترا في أي جزء خاضع للإمبراطورية وألا تتعدى ال 12% نصيب الأسد، أما فرنسا فقد فازت بكريزة الكعكة “امتياز حفر القناة” من خلال دعم سعيد باشا وفرمان سلطانه.

وعلى الرغم من رفض “محمد علي” لكل ما أقره السلطان في اتفاقياته منذ البداية، ولمبدأ حفر قناة بالتحديد وهو يردد “لا أريد بسفوراً آخر في مصر”، إلا أنه بمجرد أن حطم التحالف (الأوروبي- العثماني) درعه البحري، وحدد أملاكه في مصر، وتبعيته السياسية لإستانبول في صلح لندن 1840م، حتى ابتلعت الاستثمارات الأوروبية مصر.

وختاماً..

إن الدول ليست أسيرة لماضيها، لكن في حالات عدة قد يحدث أمور قبل مئات بل حتى آلاف السنين وتبقى تؤثر تأثيراً بالغاً في طبيعة السياسة، كما يقول المؤرخ والفيلسوف “فرانسيس فوكوياما”.
وصدقني يا عزيز فالأمر ينطبق عليك أنت أيضاً؛
فماضيك “الحقيقي” هو ما أنت عليه الآن حرفياً..!

المصادر..

  • أكمل الدين إحسان أوغلي.. الأتراك في مصر.
  • جمال حمدان.. شخصية مصر.
  • چوزيف ماري مواريه.. ذكريات الحملة على مصر.
  • فوزي جرجس.. دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي.
  • محمد نور فرحات.. التاريخ الاجتماعي للقانون في مصر الحديثة.
  • مصطفي الحفناوي.. قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة.
  • هارولد ويليام.. الهيلينية في مصر.
  • هنري لورانس.. الأصول الفكرية للحملة الفرنسية.

فيديو مقال إن فاتك الميري..!

أضف تعليقك هنا