الانتماء اللااختياري

بقلم: براءة العيسى

هل تؤثر ظروف الوطن بمشاعر الانتماء لدى الإنسان؟ 

اِسْتَيْقَظْتُ ذَلِكَ الصَّبَاحَ مُمْتَلِئَةٌ بِرَغْبَةٍ عَارِمَةٍ لِمَعْرِفَةِ الحَنِينِ الأَوَّلِ الَّذِي أَنْجَبْتُهُ الوُجُودُ كَانَ لِمَنْ؛ هَلْ كَانَ لِلمُدُنِ أَمْ كَانَ لِغَيْرٍ ذَلِكَ؟ وَهَلْ خَلْقُ قَلْبٍ صَغِير بِدَوَاخِلَ مَلَّ مِنَّا كَتَبَ عَلَيْهِ اِسْمَ مَدِينَتِهِ وَخَتَمَ عَلَيْهِ بِخَرِيطَةِ الحُبِّ الأَبَدِيِّ؟ وَهُنَا بدأت أَسْأَلُ نَفْسِي هَلْ المُدُنُ الَّتِي خَلُقْنَا وَتَرَعْرَعْنَا بِهَا هِيَ مَدَّنُ أَحْلَامِنَا أَمْ أَنَّ فَضَاءَ اللهِ الوَاسِعُ بِمَا يَكْتَنِزُهُ مِنْ مُدُنِ حَمل لِكُلٍّ مِنَّا قِصَّةٌ تَخْتَلِفُ عَنْ الأُخْرَى مَعَ مدينته؟ لو أنك أَغْمَضَتَ عَيْنَكَ دَقِيقَةً وَاحِدَةٌ، دَقِيقَةٌ وَاحِدَةً مُعَطَّلاً صِمّام الأمانِ لَدَيْكِ، مَجْهُولَ الهُوِيَّةِ، بَانِياً لِنَفْسِكَ مَدِينَة مِنْ اِخْتِيَارِكَ وَتَصْمِيمكَ، يا ترى مَاذَا سَتَخْتَارُ لَوْنَهَا صَوْتهَا مَلَامِحِهَا..؟ هَلْ سَتَجْعَلُهَا هَادِئَةً أَنِيقَةً مُهْتَمَّةً بِأَدَقِّ التَّفَاصِيلِ أَمْ سَتَجْعَلُهَا غَاضِبَةً عَارِمَةً عَشْوَائِيَّةً؟ هَلْ سَتَجْعَلُ شَوَارِعهَا وَاسِعَةً أَمْ سَتَخْتَارُ الغَرَقَ فِي أَزِقَّتِهَا الضَّيِّقَةَ؟ مَاذَا سَتَخْتَارُ لَوْنَ خَرَائِطِهَا وَأَعْلَامِهَا؟ وَمَاذَا سَيَكُونُ شِعَارُهَا، قَوَاعِدُهَا، أَنَظَّمْتُهَا؟ طَرَحْتُ ذَلِكَ السُّؤَالَ عَلَى مُدَوَّنَتِي الشَّخْصِيَّة عَلَى أَشْخَاصٍ مَجْهُولِينَ مِنْ مُخْتَلِفِ الدُّوَلِ وَالمُدُنِ، مَا هِيَ مَدِينَةُ أَحْلَامِكَ؟

كُنْتُ أَقْرَأُ الإِجَابَاتِ وَأَنَا مبحرة فِي أَجْمَلِ المُدُنِ، مَدنِ الحُبِ وَالسَّلَامِ وَالإِخَاءِ وَالازْدِهَارِ العِلْمِ المُسَاوَاة، وَكَانَ الجَمِيعُ يَخْتِمُ تِلْكَ الإِجَابَاتِ وَلَكِنَّي فِي النِّهَايَةِ أُحِبُّ وَطَنِي. أُحِبُّ وَطَنِي بِعَشْوَائِيَّتِهِ، بِظَلَمَةٍ، بِالفَوْضَى، وَعَدَمِ المُسَاوَاةِ، بِالبَطَالَةِ، بِالسِّّلْمِ، بِالحَرْبِ، وَغَيْرَهَا الكَثِيرِ المُعَاكِسِ لِمَدِينَةِ أَحْلَامِي أَنَا أُحِبُّ وَطَنِي. يُقَالُ أَنَّ الاِنْتِمَاءَ هُوَ عَلَاقَةُ شَخْصِيَّةٍ إِيجَابِيَّةٍ وَحَمِيمَةٍ فِي بَعْضِ الأَحْيَانِ. وَقَدْ يُوجَدُ العَدِيدُ مِنْ المَوَاقِفِ الَّتِي يَشْعُرُ فِيهَا الشَّخْصُ بحاجته لِلاِنْتِمَاءِ.

حاجة الإنسان إلى الانتماء 

إِذَاً الاِنْتِمَاءُ حَاجَةٌ لَا تَقُلْ أَهَمِّيَّةً عَنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمَ وَيُمْكِنُ أَنْ تَخْتَلِفَ الحَاجَةُ لِلاِنْتِمَاءِ لَدَى الأَشْخَاصِ مِنْ وَقْتٍ لِآخَرَ، أَشْهَرُ مُطْرِبِينَ القِرْنِ العشرين (فرانك البيرت سيناترا) ابن المُهَجَّرِينَ الإيطاليين، الَّذِي كَانَتْ اِنْطِلَاقَتُهُ مِنْ المَدِينَةِ الَّتِي لِأُتَنَامَ نْيُويُورْك، فَغَنَّا لَهَا أغنيته الشَّهِيرَةَ نْيُويُورْك، تِلْكَ الأُغْنِيَّةُ الَّتِي أَعَادَتْ لِمَدِينَة وَشَعْبٌ مُنْهِكٌ مِنْ الحُرُوبِ وَالجَرَائِمِ وَالأَوْضَاعِ الاِقْتِصَادِيَّةَ المتردية شُعُورُ الفُخُرِ وَالاِنْتِمَاءُ لِتِلْكَ المَدِينَةِ، وَفِي ذَاتِ الوَقْتِ أَعَادَتْ تِلْكَ الأُغْنِيَّةُ “لِفرَانْك” شُعُورَ الاِنْتِمَاءِ لِوَطَنِ منحَه مَا لَمْ يمنحه إِيَّاهُ وطنة الأَوَّلُ، فَهَلْ الاِنْتِمَاءُ عَطَاءٌ وَنَجَاحٌ؟

الانتماء بالنسبة للمشاهير 

فَهَذَا نِزَارُ اِبْنُ تَوْفِيقُ القُبَّانِيُّ، ابن يَاسْمِين دِمَشْقُ، تَخَطَّتْ علاقتة بِدِمَشْقَ عَلَاقَةٌ مَعْشُوقٌ بعشيقتة يُبَادِلُهَا مُعْظَمُ أوقاتة وَكِتَابَاتُهِ كُلُّ أَنْوَاعِ الحُبِّ وَالغَزْلِ وبادلته دِمَشْقُ ذَلِكَ الحُبُّ الأَبَدِيُّ بِتَسْمِيَةِ أَحَدِ شَوَارِعِهَا باسمه، لِيَقُولَ نِزَارُ بَعْدَ ذَلِكَ لِيُذَكِّرَ العَابِرينَ مِنْ هُنَا بِأَنَّي وَلَدْتُ هُنَا، وَلَعِبْتُ فَوْقَ حجار هَذَا الشَّارِعَ، وَقَطَفْتُ مِنْ أَزْهَارِهِ، وَبَلَّلْتُ أَصَابِعِي بِنَوَافِيرِهِ، لِيَكُونَ الاِنْتِمَاءُ لَلَقَّبَانِي سِيمْفُونِيَّةُ عِشْقِ تَرْجَمَتِهَا كَلِمَاتِهُ، قَدْ أَتَفَهَّمُ عَلَاقَةَ الفَنَّانِينَ وَالأُدَبَاءِ بِالمُدُنِ باعتبارها مَصْدَرُ إِلْهَامِهِمْ الأَوَّلِ، وَاِنْطِلَاقَةِ نجاحتهم وَشُهْرَتُهِمْ.

وَلَكِنَّ هُنَا يَقُولُ المَدْعُوَّ حِ. مِ خِرِّيجِ كُلِّيَّةِ الإعْلَامِ دَفْعُهُ 2001: عُمْرِي 37 عَامٍ هَاجَرْتُ إِلَى إيطاليا حَالَمَا بِالعَمَلِ فِي الإِذَاعَةِ وَالتِّلِفِزْيُونُ وَالصِّحَافَةُ حَاوَلْتُ مِرَارًا الاِلْتِحَاقَ لِلعَمَلِ بِالصِّحَافَةِ، وَتَدَرَّبْتُ فِي عِدَّةِ صُحُفٍ فَكَانَ مِنْ الصَّعْبِ جِدًّا اِلْتِحَاقِي بِمُؤَسَّسَةٍ صُحُفِيَّةٍ وَطَنِيَّةٍ لِأَنَّهَا تَزْحَمُ بالواسطات وَالمُسَاوَمَاتِ فَبَاءَتْ جَمِيعُ مُحَاوَلَاتِي بِالفَشَلِ فَأَبْحَرْتُ إِلَى إيطاليا لِأَعْمَلَ فِي مَدِينَة “تُورِينُو” بِالتَّحْدِيدِ فِي مَطْعَمٍ يَعْمَلُ بِهِ إِحْدَى أَقْرِبَائِي فِي مِهْنَةِ غَسَلِ الأَطْبَاقِ لأَعْمَل بِعَدَهَا مُسَاعِداً فِي إعْدَادَ الإِطْبَاقِ، وَشَيْئًا فَشِيئاًِ حَتَّى أَصْبَحَتْ الشيف الأَوَّلَ لِذَلِكَ المَطْعَمِ لِأَحْصُلَ بَعْدَهَا عَلَى إِقَامَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَظُرُوفِ حَيَاةٍ أَفْضَلَ.

يَقُولُ حِ. م بِأَنَّهُ لَيْسَ حَزِيناً بِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَفِدْ مِنْ دِرَاسَتِهِ لِلإعْلَامِ، فَقَدْ اِسْتَطَاعَ تَطْبِيقَ أُسُسِ العَلَاقَاتِ النَّاجِحَةِ فِي الحَيَاةِ مما ساعده عَلَى تَكْوِينِ شَبَكَةِ عَلَاقَاتٍ وَاسِعَةٍ، وَلَكِنَّ تِلْكَ الشَّبَكَةُ لَمْ تَكُنْ مَعَ أَبْنَاءِ جَلْدَتِهِ إِنَّمَا مَعَ مُخْتَلِفِ الجِنْسِيَّاتِ الأُخْرَى، إِذَا فَهَلْ الاِنْتِمَاءُ شَعْبٌ. لَيْسَ ِبِالضَرُورَة دَائِماً الاِبْتِعَادُ عَنْ الوَطَنِ يَعْنِي لَكَ التَّفَوُّقُ وَالنَّجَاحُ، بَلْ رُبَّمَا يَشْعُرُكَ بانتماء غَيْرُ مَفْهُومِ المَعَانِي.

الانتماء بالنسبة للاجئين 

أَصْدَرَتْ مُفَوَّضِيَّةُ الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ لِلَاجِئِينَ آخر إِحْصَائِيَّاتِ عَدَدِ اللَّاجِئِينَ الَّذِينَ فَرّوا مِنْ النِّزَاعِ الحَاصِلُ فِي مَدِينَةٍ سُورِيَا بِأَنَّهُ تَجَاوُزُ الخَمْسِ مَلاييْنِ لَاجِئاً. 15 أَذَارَ مَارِسُ 2011. تَغَيُّرُ مَفْهُومِ الاِنْتِمَاءِ لِشَعْبِ خِصَامِ نِزَاعِ قِتَالٍ. لِتُصْبِحْ المُغَامَرَةُ المبحرة فِي المَجْهُولِ وَالغَابَاتِ المُتْعِبَةِ المُلْتَوِيَةِ الطُّرُقِ صِمَامَ الأمانِ وَالاِنْتِمَاءَ الأَوَّلَ لِذَلِكَ الشَّعْبِ. كُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ وَرَقَةٍ يَكْتُبُ عَلَيْهَا لَاجِئٌ لِوَطَنٍ مَا لَاعَنَاً أَيّ اِنْتِمَاءٍ دَاخِلِيٍّ لِدِيَه بَعْدَ أَنْ نَشأٌ دَاخِلَه اِنْتِمَاءِ الفَقْدِ. الفَقْدُ لِلمَنْزِلِ وَالأَهْلِ وَالوَلَدِ وَأَبْسَطُ مَجْرَيَاتِ الحَيَاةِ، فَهَلْ الاِنْتِمَاءُ هُوَ الأمَّانِ؟ لِتَحْلُمْ كُلُّ أَمْ سُورِيَّة بِأَنْ يَأْتِي يَوْمٌ وَيُخَاطِبُهَا أَطْفَالُهَا يَسْأَلُونَ مَاذَا كَانَتْ تِلْكَ الحَرْبُ يَا أُمِّي؟

فِي خَرِيفِ 2015 اِسْتَقْبَلَتْ قَرْيَةُ “يونال” الفَرَنْسِيَّةُ عَدَداً قَلِيلاً مِنْ اللَّاجِئِينَ، وَتَمَّ تَأْمِينُ المَأْكَلِ وَالمَلْبَسِ وَالتَّعْلِيمِ لِهُمْ، وَمَا زَالَ ذَلِكَ التوافد إِلَى يَوْمِنَا الحَالِيُّ، حَيْثُ قَالَ الأَفْغَانِيُّ “غَفُورٌ رَحِمَانِي”، البَالِغُ مِنْ العُمْرِ 26 عَامِ، الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ عَلَى التَّعْلِيمِ فِي بَلْدَةٍ تَعَلَّمْتَ القِرَاءَةَ وَالكِتَابَةَ هُنَا، فِي حِينِ بَعْدَ قِمَّةِ الهِجْرَةِ الَّتِي عُقِدَتْ فِي فَرَنْسَا فِي 28 اغسطس2017، وُسِّعَتْ هَذِهِ القِمَّةُ لِتَوْزِيعِ اللَّاجِئِينَ عَلَى مَنَاطِقَ مُحَدَّدَةٍ لَمْ يَكُنْ يُبْدِي جَمِيعَ سُكَّانِ تِلْكَ البِلَادِ الَّتِي اُخْتِيرَتْ لاستقبالهم الحَمَاسَ الصَّرِيحَ بهذة الخُطْوَةِ، فَعَلَى بُعْدِ 30 كِيلُومَتْرٍ مِنْ المَوْقِعِ أحْرَقَ مَجْهُولِونَ مَبْنًى كَانَ يَسْتَعِدُّ لاستقبال هولاء اللَّاجِئِينَ، حَالَتَانِ كَانَتَا تَخْتَزِلَانِ مَشَاعِرَ مُتَنَاقِضَةً، فَهَلْ الاِنْتِمَاءُ عُنْصُرِيَّةٌ لِبَلَدِكَ دُونَ غَيْرِهَا؟ أَمَّا الاِنْتِمَاءُ يَكْبُرُ لِأَيٍّ بلد عند إِعْطَائكَ كَافَّة حُقُوقِكِ وَرِعَايَتِكَ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ.

أَخِيرًا..

مَهْمَا بَعْدَنَّا أَوْ أَبْعَدْنَا عَنْ حَنِينًا الأَوَّلُ عَنْ حُبٍّ نَجْهَلُ كَيْفَ زَرَعَ فِينَّا سَنُحَمِّلُ خِصَالٍ وَطِبَاعٍ وَمَلَامِحِ مُدُنِنَا المَرْئِيَّةِ وَالحِسِِّيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ لِذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نُفَكِّرَ بِعَلَاقَتِنَا بِكُلِّ مَكَانٍ نَقْطُنَ فِيهُ كَمْ وَرِثْنَا مِنْ مَلَامِحِهِ وَتَطَبَّعْنَا بِطِبَاعِهِ وَالَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ مَاذَا أَضَفْنَا لاانفسنا وَلَهُ مِنْ جُنُونِ خيالاتنا وَعُمْقِ مَوَاهِبِنَا وَصِدْقِ ذِكْرَيَاتِنَا لِيَمْنَحَنَا ذَلِكَ الاِنْتِمَاءَ. جَمِيعًا حَتْمًا نَعْرِفُ مَسْقَط رَاسِنَا.

وَلَكِنَّ هَلْ جَرَّبْتَ يَوْمًا تَسْأَلُ نَفْسَكَ مَا هُوَ مَسْقَطُ رُوحِكَ مَا هِيَ المُدُنُ الَّتِي تَشْبَهُكِ وَتَشْبَهُهَا؟

فَبُطُونُ أُمَّهَاتِنَا تلَدُنَا مَرَّةً، وَلَكِنّ تَجَارِبَنَا وَذِكْرَيَاتِنَا وَمُغَامَرَتَنَا سَتَلِدُنَا مِرَارًا…

بقلم: براءة العيسى

فيديو مقال الانتماء اللااختياري

أضف تعليقك هنا