سلالة الأقوياء

علاقة الأم بطفلها

ما نحتويه من فلسفة يحتاج إلى جدل ونقاش كبير بيننا. الاهتمام والرعاية التي توليها الأمهات لأولادها، اهتماما بالغا مثيرا للملاحظة، نظرة اللهفة والخوف التي نراها في عيون الأمهات إذا أصاب أولادهم مكروه، وكسرة القلب التي لا تنصلح إذا فقدوا أحدا منهم، والفرحة العارمة التي تختلج قلوبهم لفرحة في عيون أطفالهم، سبحانه العظيم من وضع تلك المشاعر في نفوس الأمهات والآباء كي يجد الأبناء من يحنو عليهم.

عن هذه العلاقة الخاصة بين الأم وطفلها، دائما أسأل نفسي كيف لإنسان أن يحب غيره أكثر من نفسه!، وكيف لي أن أنجب طفلا فيضحي2 هو كل حياتي وذاتي الجديدة التي أعيش بها ولأجلها!. ومن هنا أود البدء والانطلاق نحو مقصدي من المقال ألا وهي مسألة الاهتمام التي لا يفهمها الكثيرون. فالسؤال الذي يطرح نفسه ” هل من يحب يهتم دائما أم من يهتم هو الذي يحب حقا؟”

الاهتمام

لا يستهويني كثيرا الحديث عن مشاعر الحب بقدر انجذابي للحديث عن مشاعر الاهتمام التي في نظري هي الحب ذاته. من يحبك حقا هو من يهتم لأمرك وينشغل فكره وقلبه بأحوالك، فتجده بجانبك ومعك أينما كنت حتى لو لم تره كثيرا، فالاهتمام هو قدرة خارقة وموهبة عظيمة وهبها الله للأم على سبيل المثال فلم تعد تتذوق حلاوة شيء بدون أولادها.

فالفكرة لها اتجاهان، الأول أن يهتم من حولك لأمرك فيمنحوك العناية والرعاية حتى تشعر معهم بقيمة ذاتك وأن لك في هذا الكون مكانا إذا خلا منك استوحش وإذا حضرت له تبًسم. إنها من أعظم المشاعر التي يمكن أن تشعر بها، فكم أنت محظوظ إذا كان في حياتك هؤلاء الذين يفهمون معنى الاهتمام.

أما الاتجاه الثاني فهو المعاكس للاتجاه الأول، أن تهتم أنت لأمر الآخرين الذين سبق أن اهتموا بك أو حتى الذين لم يهتموا وهذا هو مربط الفرس ومشكلة المشاكل لأنه يعكس بدوره أمورا شتى منها مثلا مدى قدرتك على أن تعطي دون أن تأخذ وهذا يُذكرني بقول أحدى الحكيمات أن البشر صنفان، الأول خُلق كي يعطي والثاني خُلق كي يأخذ من دون عطاء، فإلى أي صنف منهم أنت تنتمي؟

 سلالة الأقوياء

الفريق الأول ليس لديه مشكلة بل بالعكس له منا كل الاحترام والتقدير، هم هؤلاء الأقوياء الذين يمتلكون من القدرة ما لم يمتلك غيرهم، فهم عماد هذا العالم الذي بدونهم لن يجد من يحمله ويتحمل مسؤوليته، أشخاص نبلاء قرروا أن يحملوا هموم غيرهم إضافةً إلى ذاتهم ونجحوا في تأسيس جيل كامل بأخلاق عظيمة وضربوا لنا خير مثال في العطاء، هنيئا لهم ولما فعلت أيديهم. هذه هي سلالة الأقوياء التي تتكاثر يوما بعد يوم حتى تبني صرحا مرموقا لا ينهدم أبدا.

حقا هي سلالة الاقوياء وليس في التعبير أي مبالغة، هؤلاء وحدهم من يستطيعون أن يصلحوا ما تفسده أي ظروف، هم مصدر الأمان في الدنيا لكل الضعفاء ولولاهم ما كانت الدنيا وما استطاع أحد أن يتقدم.

عالم بلا سلالة

أما الفريق الثاني فهو قمة في الأنانية والطمع، فحياتك كأحد أفراد هذا الفريق تتلخص في اعتمادك بشكل كلي على من حولك حيث تنتظر أن يهتموا بك ويدللوك كالطفل الصغير، ذاك الطفل الذي يرعاه الجميع ومع ذلك يبالغ في الصراخ والبكاء ولا يُنتظر منه طبعا أن يرعى أحدا أو يهتم لأحد ليس لأنه أناني ولكن ببساطة شديدة لأنه لا يستطيع أن يرعى أحدا فهو مازال صغيرا لا حول له ولا قوة وربما الفارق الوحيد في التشبيه بينك وبين هذا الرضيع أنه يأخذ من دون أن يعطي لعدم قدرته على العطاء، إنما أنت قادر على العطاء وتبخل بما لديك على الأخرين.

اعتذر عن شدة وقسوة التعبير لكنها واقع الفعل، وأنا أعرف حقا أن الأمر في الغالب ليس بمحض إرادتك وأن هناك شيئا أقوى منك يجعلك تخشى تحمل مسؤولية غيرك حتى وإن كانت هذه المسؤولية مجرد مسؤولية معنوية تكمن في مشاعر اهتمام بسيطة لن تكلفك شيئا. ولعل كلمة المسؤولية في حد ذاتها كلمة مرعبة تجعلك دائما في موضع الحساب، فماذا فعلت ولماذا فعلت كذا وكذا و…….؟، والحل الوحيد هو الهروب منها ومن أي شيء يجعلني مسؤولا حتى عن حبة رمل، ولا شك أنه تفكير الضعفاء رغم أنه يُريح كثيرا فيجعلك سعيدا لست حاملا فوق كتفيك إلا رأسك الصغير.

وكما أسلفنا الذكر أن كلمة المسؤولية بالنسبة لهذا الفريق كلمة مرعبة بكل ما تحمله من معنى، فهي قيد على حريتهم واستقلاليتهم وكأنهم بالضبط مثل الطير الذي يشدو مغردا بكل ما يهوى من أغاني الحب رغم أنه لم يجرب ولو لمرة واحدة أن يحب حقا أو يتذوق للعشق طعما، فحتى شعور الحب لديه مسؤولية كبيرة يخشى عواقبها، إذن كيف للطائر المغرد أن يتحمل مسئولية غيره فتجبره الظروف أن يغني من أغاني الحب ما لا يهوى أو يتذوق.

ليس هناك حلول ولا خيارات أمام هذا الصنف من البشر إلا الهروب من واقع المسؤولية القبيح إلى عالم الحرية والوحدة الفسيح حيث لا شكوى من أحد أو لأحد عنده، لا توجد سلالات تُكمل مسيرة هذا النوع، فهو ينتهي بمجرد موت صاحبه ويظل ذكرى في أذهان من أحبوه وأُعجبوا بما كان يحياه من حرية، ولذا يعتبر هذا الصنف مهما زادت أعداده عالم بلا سلالة لأنه غالبا ما يتجنب فكرة الزواج المروعة من وجهه نظره.

الأم في اهتمامها وحبها الكبير لأولادها تقوم مقام سلالة الأقوياء التي تعطي من دون أن تأخذ، تظل تربي وتعلم في سلالة ضعيفة حتى تكبر وتقوى يوما ما لتكمل المسيرة، البعض لا يقوى ولا يكبر.

لا تكن جبانا وتحمل المسؤولية

إلى أي صنف سوف تقرر أن تنتمي وتعيش، فأنت حر ولكن لا تضر، فحينا سوف تستدعي الظروف منك أن تتحمل المسؤولية التي تخشاها وإن لم تفعل ستصبح جبانا. عليك يا عزيزي أن تدرك الفرق الكبير بين الهروب من الأشياء التي تولد المسؤولية وبين أن تختارك الظروف قهرا لتكون مسؤولا فتهرب. “شتان شتان أيها الإنسان ما بين الحرية والجبن”.

فيديو مقال سلالة الأقوياء

أضف تعليقك هنا

إيمان النفيلي

إيمان النفيلي
كاتبة حرة، باحثة في مجال اقتصاديات السعادة ومدربة بالنقابة العامة لمدربي التنمية البشرية.