مات الوطن

معاناة “عادل”

كانت هذه هي آخر رسالة قام “عادل” بإيداعها في صندوق البريد خاصته، والتي قضى ثلاث ليال في كتابتها قبل أن يغلفها ويرسلها، وذلك بعد عناء طويل ويأس كبير، تحول فيما بعد إلى حالة حقد، تعهد “عادل” بأن يحفظها ويكبرها ثم تعهد فيما بعد أن يداوي جروحه بغرز خناجر الحقد التي نشبها  كحقن ليداوي جسده بها بأن يغرزها في جسد آخر، أطلّ من نافذة غرفته بوجهه الشاحب، كان هذا هو فصل الخريف الخامس منذ تخرجه من الجامعة إلى الآن وهو جالس بلا عمل في ظل فقر مدقع خبيث، كان هذا الفصل قد بدأ بالأفول لكنه ما يزال يحمل بين طياته أجواء الملل والاختناق والسكون المقرف الذي لم يجد له حلاّ، أطلّ برأسه وراقب المارّة في ساعات الصباح الباكر وكل منهم متوجه إلى عمله، ولسوء حظه أنه لم يجد آنذاك أي ابتسامة طائرة يمكن أن تلتصق على وجوه المارّة، فذاك الطفل الصغير الذي تمسكه أمه شبه العجوز وهي تقوده بسرعة كي يلحق بمدرسته، وهي تخاطبه قائلة: استعجل، ستمطر قبل أن نصل.

– لا يا أمي، لن تمطر.

– بل ستمطر، انظر إلى السماء، إنها سوداء.

– احمليني إذا.

– أنت كبير على الحمل والأحضان يا عادل.

ردت أم عادل بذلك، لكنها لاحظت الاصفرار والوجه الشاحب على ابنها الذي تأبى عيناه الدمع، لكن عادل لاح بوجهه عنها وأخفى سيجارته ريثما تغادر أمه ثم عاد وأطلّ برأسه ونظر خارجاً كي تريعه مناظر الأشجار العارية الآن من كل أوراقها وهي تترنح تحت ضربات الهواء المقيتة الجاحدة. لكنه عاد وبحث في الشارع عمّن يراقبه وينظر إليه، رأى ساعتها صديقاً له مرتدياً بذلته العسكرية وهو يسير بجوار خطيبته التي تم اقترانه بها منذ ما يقارب الأسبوع، رأى الأيدي المتشابكة التي كادت نسمات الخريف أن تفرقها، فتمتم ببضع كلمات: حقير فاشل.

– أنت الفاشل طبعاً.

– انا فاشل!! تذكر من كان لك عوناً في امتحاناتك.. تذكر من عادل.

– لن أتذكر شيئاً، فالحاضر هو من يحكم.

– الحاضر ابن الماضي يا عزيزي.

– الحاضر حاضر والماضي ماض.. وكلمة أخرى تتفوه بها سيكون المستقبل الخاص بك في السجن.

– تباً لك ولسجنك يا فاشل.

– تباً لي!! اعتقلوه، هيا اعتقلوه .

– ماذا؟! ماذا فعلت لكم؟

– أنت رهن الاعتقال سيدي.

– ولماذا ؟

– قذف مقامات عليا، والتهجم على الوطن عبر التهجم على رموزه.

– أي مقام عال؟! مقام هذا الحقير؟!. وهنا نظر عادل باتجاه رفيقه نظرة شر وحقد لن ينفك أن يتركها حتى يثأر لنفسه.

سجن البطالة

خذوه إلى منزله الذي سيكون سجناً له، هكذا خاطب صديق عادل الجنود الممسكين بعادل، ثم أكمل: سيكون سجنك في غرفتك مقيداً ببطالتك التي ستظل مرافقة لك طوال عمرك، ورهين سجائرك ودموعك، وأصدقاء لعبة الورق الذين سيعملون على تسليتك حتى تموت، ستكون هذه الغرفة هي السجن والظلام الحالك الذي سيعمي عيونك، ستعيش بلا عمل وبلا صديقة ولا خطيبة ولا زوجة تهنئ لك عيشك، ستعيش بلا صديق ولا رفيق ولا أخ، ستكون بلا مال، ستكون حشرة وعالة على نفسك ثم على أهلك وأصدقائك حتى تعود وحيداً وتمسك القضبان وأنت تنادي أن اغفروا لي ذنوبي. ستعيش في أحلامك داخل دولتك المثالية التي بنيتها بأفكارك، ستحرر العبيد وتعالج المرضى وتنصر المظلوم، ستغرد بقوانينك حاملاً إياها ومن فوقها الأطفال الفقراء الذين ستحملهم على رقبتك وتطوف بهم الشوارع وهم فرحون بما صنعت وأنت من تحتهم تتعرق وتتعرق وكلما تعرّقت أكثر زاد حملهم عليك وزادت سعادتهم، إذ يرون في عرق جبينك وانحناء ظهرك الذي لن يمنعه عن أن يميتك مهما كبرت، سينظرون إلى عرقك على أنه ماؤك، لذلك سيتكاثرون على الركوب على رقبتك ظناً منهم أن ذلك سيرويك أكثر، ولكنك في الحقيقة ستموت أسرع.

– لا لا، لن أموت أسرع، وسأبقى حاملاً إياهم على رقبتي وعلى ظهري وأطوف بهم الشوارع، سأقاتل بهم أمثالك، سنحيي هذه الأرض.

– هذه الأرض بحاجة إلى من يقيتها، بحاجة إلى من يطعمها، بحاجة إلى من يرويها ويطفئ غيضها.

– أنتم نهبتم هذه الأرض، هذا الوطن لي ولأمثالي.

– كل أرض في الدنيا تتوق لسماع صوت الواقفين عليها، وكلّما علا الصوت كلمّا شعرت بالسعادة أكثر، وليس هنالك أعلى من صوت الصراخ وصوت الدموع .

– سنصرخ عليكم، وسنصرخ في وجوهكم.

– هذا صراخ طبعاً، ولكن الدمع صرخته أقوى، وخرير البطون الجائعة أقوى، بل أقرب منها. عزيزي، نحن نخدم هذه الأرض أكثر منك، نحن نشبع نرجسيتها عبر إسماعها لصرخاتكم .

– لا لا، لا لا.

– ما بك تصرخ. خاطبت أم عادل ولدها الذي ارتمى على سريره المجاور للنافذة، وعيناه الحمراوان بدون دموع، من آثار السهر والتعب الذي افتقد بالفعل إلى سبب له. لكنه لم يجب سوى بأن عاد إلى النافذة لينظر إلى ما تبقى له ليراه. تركت أم عادل ولدها في غرفته بعد أن أغلقت الباب قليلا ، وبادرت على وجه السرعة بالرد على زوجها الجالس إلى جانب المدفأة الذي سألها عن عادل وما به ولماذا هذا الصراخ، فكان الرد منها أن: لا أعلم، ربما يكون مقطوعاً من الدخان أو… ثم توجهت لأطفالها لإطعامهم وهي تحثهم على السرعة في ذلك، إلى أن خاطبها أحد أطفالها مفاجئاً لها أن: أمي، ليس هنالك خبز في الدار!.

سارعت الأم بالرد كالعادة بأن: حسناً، اذهبوا إلى المدرسة، وسيذهب والدكم لإحضار الخبز بعد قليل، فأردفها الأب بابتسامة كانت تحمل معاني كثيرة منها: -أحسنت بالسرعة في الرد بهذا الجواب شبه المقنع.

– لا لم أحسن، هذا الرد أصبح غير مقنع، انظر إلى ردهم كيف كان مليئاً باليأس من هذا الرد خاصة في ظل عدم القدرة على الرد.

معنى آخر :- شكراً لأنك عفيتني من الرد.

– في المرة القادمة أقسم لك أنني لن أعفيك منه.

معنى ثالث : – ليس معي أي مال لجلب الخبز.

– كالعادة، ومنذ متى كان معك.

ومعاني أخرى فهم عادل أكثرها قبل أن يقوم لختم رسالته التي حملها معه ليضعها في صندوق البريد خاصته قبل أن يكمل أبوه رده على أمه.

خرج عادل من منزله حاملاً رزمة كتبه الأخيرة التي أسقطها الآن من رفوف مكتبته التي شكلت له عالمه سابقاً، ثم غادر بها وهو يضع سيجارته متوجهاً لبيع آخر ما كان كنزاً له لصديقه الذي يمتلك مكتبة يعمل في أحضانها منذ نعومة أظفاره.

لا مستقبل للضعفاء

شاهد الأب خروج ابنه فسأل أمه: إلى أين هو ذاهب؟ وماذا يحمل في يده؟ فأجابته زوجته أنه ذاهب ليبيع كتبه، هو بالتأكيد الآن لا يملك أي مبلغ مال وهو بالتأكيد ليس معه سجائر. ثم رمقت الأم زوجها بازدراء مخاطبة إياه قائلة: انهض و جد لنا حلاً لمشاكلنا، لا تنتظر أن تهطل عليك السماء ولا أن تضحك لك الأرض، أولادنا سيموتون جوعاً، وغداً سنفقد ابننا البكر، ينوي إكمال دراسته، يحلم بالشغل والدراسة. انهض و جد له من يقوم بتوظيفه .  فما كان من الأب الجالس ملاصقاً للمدفأة إلا أن سحب اللحاف الموضوع على قدميه وغطّى رأسه به قائلاً لزوجته: قابلت الكثير ولم يرض أحد بأن يتواسط له لأجل توظيفه، الوظائف تحتاج إلى واسطات. وهنا علا صوت الزوج والزوجة كالعادة وعيون كل منهما قد رأت المستقبل القريب الذي لهما ولأولادهما وما يحمل في طيّاته من اوجاع وآهات. باختصار أن لا مستقبل لهم، الأمر الذي رفضته الزوجة رفضاً قاطعاً صارخة: لااا … لاااا لا مستقبل لنا

فرد عادل على صديقه : لا، سأبني مستقبلي من الآن، مع آخر رزمة كتب قد بعتها الآن سأشتري مستقبلي ومستقبل أخوتي.

– نصحتك كثيراً من قبل، وقلت لك حجم الخراب الذي سيحل عليك، هذا العالم لا يليق بالضعفاء أمثالنا.

– ولماذا لم تتخذ مثل قراري؟.

– فات بي قطار الحياة، تحت سكة القطار الذي ساقه الثوار والأدباء والشعراء وأنا أرتمي على سكتهم، وكلّما دهسوني أكثر أحببتهم أكثر. كنت مغفلاّ بحق.

– وماذا بعد؟

شهيد المبادئ والأفكار

_عشقت مانديلا وجيفارا، والتحفت بلحية ماركس .. كنت… كنت أقرأ ليل نهار، قرأت لديستوفسكي وتولستوي وتشيخوف وماركيز وكونديرا فضلا عن أدونيس والمتنبي وقاسم حداد، قرأت من الأدب ما رواني وأكثر ثم توسعت في غيره لأحيط بملكات المعرفة وأسرارها. كنت أظن أني سأقف على عتبات الحقيقة وأصبح الأسعد والأكثر لذة خاصة عندما أعلو فوق الجميع بعلمي ومعرفتي ومواهبي وقدراتي، لكني وقد اكتشفت مؤخرا أن ما كنت أسبح فيه كان مستنقعاً هو من شدني إلى الأسفل رغماً عن أنفي في الوقت الذي كنت أشعر فيه أنني أنا من يسبح بملء إرادته فيه.

– ثم ماذا؟

– ثم ماذا؟ ماذا بعد؟ ها أنت تراني أنا الآن وأنا شبه عار وبطني يخور جوعا وملابسي ممزقة، ولا أملك قوت يومي، لكني قد كبرت، كبرت أكثر مما تتوقع، انهض أنت الآن واذهب إلى عالمك، اذهب وعش الحقيقة فكل ما قرأته كان من أوهام لذة عاشها أصحابها وأكلو بثمنها لحوم النعام، وتركوا لك البقايا في شكل أدب عوّدت نفسك على أن تقرأه وتلتذّ به مناورة منك لا أكثر. اذهب و امزع كل ما بقي لديك، عندها ستصبح حرّا. قال صديق عادل ذلك ثم سقط على الأرض مغشياً عليه. هرع عادل ومن تجمع حوله لحمل صديقه إلى أقرب مستشفى، لكنه كان قد فارق الحياة قبل أن يصل بسبب جوع حاد أصابه و نقص قاتل في البروتينات والفيتامينات ليسقط شهيدا ضحية مبادئه وأفكاره.

– دكتور، عيناي جفتا وهما الآن بلا دموع. حتى صديقي الوحيد عجزت عن البكاء عليه لحظة موته.

– لا تقلق، اجلس على الكرسي وافتح عينيك.

أنهى الدكتور عمله، ثم قال مخاطباً عادل: جف الدمع لديك، ابحث عن طريقة أخرى لتواجه كوارث الواقع بها.

الرسالة الأخيرة

حمل عادل راية صديقه ثم اتجه إلى أعلى قمة في قريته حاملاً معها لفافات المبادئ والقيم والأخلاق التي كان وصديقه صاحب المكتبة قد نسجوها لتحرير أرضهم وتطهير عالمهم من الفساد الذي يخيم عليهم والفقر الذي يسكت أفواههم، محا السطور التي كان قد رسم عليها وصديقه كطرق لتحرير العبيد والمناداة بعالم مثالي يتساوى فيه الجميع. حملها وقد حمل معها نسخة من الرسالة الأخيرة التي وضعها في البريد الأخير له، بعد أن رمى بكل الأوراق المشتركة ما بينه وبين صديقه في الهواء لتطير إلى مكان ولتسقط في كل مكان، أبقى في يده الرسالة الأخيرة التي وضعها على قبر صديقه ليقول له:جفّ الوطن فجفّ الدمع فهرب كل مقدّس، مات الدمع فليمت الوطن وليسقط كل مقدّس.

فيديو مقال مات الوطن

أضف تعليقك هنا