الحدود في الشريعة الإسلامية وفقه التطبيق

مبدأ “إقامة الحدود” في الشريعة الإسلامية 

منذ خلق الله الأرض ومن عليها والإنسان يعيش ضمن جماعات، وعشائر، وقبائل، ودول، وممالك، وكل مجتمع من هذه المجتمعات وضع لنفسه مبادئ وأحكام وقواعد تحمي وجوده وتحافظ على كيانه مع اختلاف هذه الأحكام باختلاف الأهواء والمشارب.

حتى جاء الإسلام: فصاغ لأتباعه، بل للعالم أجمع، مبادئ من نور، ومنهج حياة متجدد، أصبحت في ظله “الظعينة” تَرتحل من اليمن حتى تطوف بالكعبة لا تخاف على نفسها.

وقد يظن ظان: أن الانصياغ لهذه الأحكام كان بسبب صرامتها وشدتها، أو العكس فيقول مسلم يغار على حرمة هذا الدين، أن الحُدود يجب أن تُنفذ بقوة وبلا هواده، وأن يجعل من الحدود سيف يُلاحق كل عاص وأن تنصب بلا هواده على كل من تسول له نفسه التفكير في المعصية، وقد تدفعة حميته إلى القول أيضاً بأن القاضي يجب عليه ألا يتساهل أو يتباطأ في إقامة هذا الحد وألا تأخذه في هؤلاء رأفة ولا رحمة، وألا يقبل لهم دفاعاً، ولا يسمع لهم حجة -ظاناً أنهم لا يحق لهم دفاع- وقد يتهم القاضي بالضعف اذا استمع إلى حجتهم ودفاعهم.

وفكرة التشدد في إقامة الحد تولدت في أذهانهم من خلال غيرتهم على حُرُمات الله، ولكن لا تكفي هذه الغيرة بمفردها لتطبيق شرع الله، بل يلزم مع هذه الغيرة العلم بأحكام الشريعة ومقاصدها حتى تكون غيرتهم محمودة.

وقد يستدل أصحاب التشدد بأحاديثٍ النبي صلى الله عليه وسلم التي حَفِظوا نصوصها وغاب عنهم مقاصدها ومن هذه ألاحاديث: ما روى أحمد، وأبو داود، وصححة الحاكم عن حديث أبي هريره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

{من حالت شفاعته دون حد من حدود الله فهو مضاض لله في أمرة} وغيرها من الأحاديث.

خطوات يجب تطبيقها قبل إقامة الحد 

وهم في هذا الاستدلال قد جانبهم الصواب ذلك أنه يلزم قبل إقامة الحد يجب معرفة: طريقة إثبات هذه الجريمة، ونسبتها إلى شخص مرتكبها، ثم بعد ذلك البحث عن أسباب العفو ومسقطاته، والشبهات القائمة حول إقامة هذا الحد، ثم بعد ذلك يبدأ النظر في تنفيذ الحد.

وهذا يتضح من الحديث الذي رواه ابن ماجة عن حديث أبي هريرة قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ادفعوا الحدود ما وجدتم لها مدفعاً}.

وما رواه الترمزي من حديث عائشة قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم:

{ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام لئن يخطئ في العفو خير له من أن يخطئ في العقوبة}.

ولا تعارض بين هذه الأحاديث وما سبقها، ذلك أن التشديد وعدمه يتعلق بطريقة إثبات الجريمة كما سنوضح فيما يلي:

من الأصول الثابته في الشريعة الاسلامية أن “الحد” يثبت بأحـدِ أمرين:

           أولهما: البينة (الشهود)                       وثانيها: الإقرار (الاعتراف) والقرائن

والحديث عن طرق الإثبات أمر هام، حيث تتحدد بموجبها ظروف إقامة الحد، فإذا ما ثبت “الحد” بالشهود واكتمل نصاب الإشهاد القانوني له، واجتمعت في هؤلاء الشهود الشروط، وكانت شهادتهم جازمة لا يتخللها شك أو احتمال، -ولا توجد لدى المتهم شبهه- كأن يدفع المتهم أمام القاضي بأن الأموال التي يُتَهم بسرقتها ملكاً له أو ظن ذلك بالخطأ، أو يدفع من شهد عليه أربع رجال عدول أنهم رأوه في خلوته التي يقيم فيها يواقع سيدة وقد شهد الأربعة بحدوث المواقعة واكتمال فعل المواقعة، ولكنه أكد للقاضي: بأنه دخلت خلوتي والتي لا ينام بها إلا زوجتي فوجدها نائمة فوقع عليها ولم يتضح له أن النائمة هي صديقة زوجتي التي جاءت لزيارتها إلا بعد أن انتهيت، فهذه شبهات لا مجال معها لإقامة الحد ولو تم الإثبات بالبينة الكاملة.

فاذا ما ثبت الحد وثبتت التهمة وانتفت الشبهة فإن التشديد في إقامة الحد هنا من ضروريات الحفاظ على المجتمع فلابد أن يعيش الإنسان أمناً على عرضه، وماله، ودمه، فإن العفو عن متهم قام بفعلته وتمكن عدد من الناس من مشاهدته يعد فتنة وإشاعة للفاحشة، لأنه تعدى حدود الله وجاهر بمعصيته، ومن هنا كانت أحاديث التشديد في إقامة الحد فالجريمة التي وقعت بهذا الشكل تعد مجاهرة.

كيف كان الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه يقيمون الحدّ عندما يعترف المجرم بجريمته؟

أما الإقرار: وهو اعتراف الجاني بإرادته باقترافه “لحد” ما فنجد أن المنهج النبوي اختلف تمام الاختلاف في التعامل مع المتهم، فقد روى أحمد وأبو داود والنسائي أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلص (اعترف) وليس معه متاع، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “ما أخالك سرقت”

كما نجده -صلى الله عليه وسلم- يُعرض عن المعترف بالزنا أكثر من ثلاث مرات ونجده في بعض الأحيان يلقنه حجته بقوله، لعلك كذا، أو لعلك كذا.

بل إن السلف ندبوا للقاضي أن يُلقن المعترف حجته فقال عطاء كان فيمن قضى يؤتى إليهم بالسارق فيقول: أسرقت؟ قل: لا. وذكر عطاء عن عمر رضي الله عنه كان يفعل ذلك فقد أُتي له برجل سرق فسأله عمر أسرقت؟ قل: لا، فقال الرجل: لا. فخلّ سبيله. وعن أبي الدرداء أنه أُتي له بجارية سرقت فقال: لها أسرقتِ؟ قولي لا ، فقالت: لا. فخلّ سبيلها.

لِمَ شرّع الإسلام مبدأ “إقامة الحد” للمجرم أو مرتكب الخطأ؟

والله إنه لمنهج رباني حكيم لا تخالطه أهواء بشرية أو مصالح شخصية، حيث يهدف إلى الحفاظ على المجتمع في الحالتين سواء ما ذكر عن التشديد في موضع يستحق الحزم، أو ما ذكر عن العفو والتسامح في موضع لا يصلح معه إلا ذلك.

ولم تهدف الشريعة الغراء من ذلك سوى الحفاظ على المجتمع فلا يمكن الحفاظ على مجتمع تقام فيه الجرائم في وضح النهار أو يجاهر بها فاعلها أو يتجبر بها على المجتمع فيطلع عليها الناس ويُشاهدوا، ثم يتحدث جاهل عن رأفة أو رحمة.. أيُّ فساد يعم هذا المجتمع بعد ذلك؟!

كما أنه: من الحفاظ على المجتمع التستر على جريمة لم يعلم بها أحد، ولم يُبَلغ عنها أحد، وجاء صاحبها معترفاً نادماً، هنا جاءت أحاديث التخفيف والإعراض..

الإسلام منهج الحق والعدل  

فهل بعد ذلك يمكن لحاقد أن يتهم هذا المنهج بالتخلف أو الهمجية، وإذا ما تعلل بعضهم بقسوة هذه الأحكام ووحشيتها، فلينظر هؤلاء على مدار ثلاثة عشر عاماً قضاها النبي صلي الله عليه وسلم بالمدينة، أقام فيها دولة، وسن فيها منهج، كم “حد” أُقيم على مدار هذه الفترة، وكم مُذنب عُوقب، وكم حرمة انتهكت.

ولينظر هؤلاء في أي مجتمع من المجتمعات التي تطبق القوانين الوضعية! كم لديهم من المتهمين في السجون وكم امتدت فترة سجنهم، وكم شخص عاد إلى السجن بعد خروجه، وكم أَخرجت هذه السجون مجرمين تعلموا فيها فنون الإجرام، (ومع هذا الكم من المسجونين هل عاشت هذه المجتمعات في أمان؟).

فأيُّ رُقي وأيً رحمة وأي حزم يتصف به هذا المنهج السماوي الذي أرساه محمد صلى الله عليه وسلم، وظل يُعلم أصحابه ويحثهم على الالتزام به حتى عند موته صلى الله عليه وسلم، فنجده في حجة الوداع يوصي أصحابه ويعدد عليهم الحرمات حرمة الدين والعقل والدم والمال والعرض، إنه الله الخالق العليم بصنعته، وبما يصلحها ويقوم معوجها.

“فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”

فيديو مقال الحدود في الشريعة الإسلامية وفقه التطبيق

أضف تعليقك هنا