الدين.. محنة كل العصور..!

كالعادة، سيكون الأمر مثيراً لتحفظات البعض الكثير حين يخرق أحدهم صمتاً دام طويلاً بخصوص أمر ما فقهي أو شرعي.. فتلك المسائل الشائكة تظل كالبحيرات الراكدة، لا يتقلب محتواها إلا إذا القى أحدهم فيها بحجر..

خصوصيات الدين

حديث الساعة هو تجديد الخطاب الديني.. لا أدري مغزى التوقيت، وهل هو تزامن من قبيل المصادفة مع ما يحدث في أقطار أخرى من خطوات إصلاحية.. أم أن هناك بالفعل صحوة لإدراك ما قد فسد داخل بعض مؤسسات ربما فقدت جاذبيتها بمعايير العصر الحالي ..؟

الدين هو أمر روحاني ودنيوي شديد الخصوصية لأصحابه، وهو لا يعني بالضرورة أن هناك قوامة أو أفضلية فيه لشخص على أخر إلا تطوعاً للإصلاح رغبة في تصويب الأخطاء.. وفي العموم هو مصطلح يطلق على مجموعة من الأفكار والمعتقدات يظن معتنقيها أنها تبين لهم الغايات والوسائل في التعامل مع الكون وظواهره وما أبعد منه أيضاً..  وقد مرت الأديان كافة بمراحل من التطورات أثرت فيها وتأثرت بها، لكن ظلت العلاقة دائماً تفاعلية على كافة المحاور، فوصلت بالفرد أحياناً إلى حد الشرود والانعزالية كما هو الحال في الصوفية، أو على النقيض إلى التطرف والمغالاة.. ولم يكن الدين أبداً حائلاً نهائياً بين الإنسان وأخطائه أو بين الخير والشر، لكنه كان في أغلب الأحوال منبهاً للعقل ومنذراً له في حالات الخطورة، أما الأخير فظل بقدراته الإستثنائية المسؤول الأوحد عن التنظيم السلوكي لمن بلغوا سن الإدراك من البشر تحت مظلة أي معتقد..

ما موقف “الأزهر” من المبادرة التونسية التي دعت إلى المساواة في الإرث بين الرجل والمرأة؟ 

اليوم، وبعد فترة ليست بعيدة زمنياً عن أكبر حراك مجتمعي شهدته مصر في العقود العشر الأخيرة، وأقصد هنا ثورة يناير 2011 المجيدة رغم أنف المنكرين لمصداقيتها، والتي من أهم سماتها أنها كشفت بجلاء عن كل عورات المجتمع المصري وأثبتت جاهلية وجهل أغلب من تحكموا في مصائر هذا الشعب، وصمتوا دهوراً أمام تغييبه عن واقعه وحقيقته المؤسفة..  يحدث الآن أن تعلو الأصوات من كل حدب وصوب مطالبة الأزهر بتوضيح موقفه من شرعية المساواة في الإرث بين المرأة والرجل، تلك التي تم إقرارها في تونس مؤخراً، وثارت في أعقابها عواصف عارمة من الجدل ربما لن ينتهي في القريب بسبب وجود أدلة وأسانيد فقهية متناقضة من شأنها أن تجعل للنزاع طرفين وربما أكثر..

في البداية أود أن أؤكد على انحيازي الدائم لصفوف العقلانيين ممن لا يغالون في الأمور الفقهية، ولا يتحدون بمعتقداتهم حرية الآخرين في الحياة بكل أريحية واطمئنان، فأي دين يرفض التعددية والحرية ويحجب العقل ويضع فوارق عنصرية بين البشر هو دين فاسد لا يصلح لبناء مجتمعات أو حضارات.. لذا فأنا لا أرفض أي تعديلات تشريعية طالما سيكون لها أثر ملحوظ في ضبط آليات العدالة الاجتماعية أو رد حقوق مسلوبة لأي فئة من البشر…

معرفة الهدف أمر ضروري جداً عند إصدار الحكم 

والحقيقة أنه لا يمكن الحكم على الشيء بأنه متقن أو نافع إلا إذا وقفنا على الغاية منه، فمثلاً نحن نحكم عن الساعة أنها متقنة الصنع بعد معرفتنا أولاً أنها أدة لقياس الوقت، وثانياً لأنها تؤدي هذا الغرض بالضبط.. إذاً فالجدل الثائر حالياً حول تلك المسألة يأخذنا إلى أبعد وأخطر ركن من القضية الإنسانية، وهو التصنيف بمعيار الإيمان والكفر على طريقة الجاهلية أو من ليس معنا فهو ضدنا حسب المقولة الصليبية الشهيرة..  وهنا تزداد وتيرة التعصب ويحل العنف بقوة كأدة لفرض رأي ما أو فض نزاع فقهي..!

لا أظن أن الأزهر كمؤسسة دينية عريقة بغافل عن تلك الحقيقة، وأحسب أن به عدد ليس بقليل  من الحكماء والمستنيرين ممن يستطيعون تنقية الكثير من الشوائب التي علقت بالمسائل الفقهية بسبب كتب التراث التي لا علاقة لها بأصل الشرائع ولا يعتد بها كمرجعيات فقهية، ولكنها قد تحتسب كمجرد اجتهادات قليلها أصاب وأحسب أن أغلبها قد ضاقت به السبل نحو الحقيقة.. الأمر لا يقتصر على الأزهر فقط، لكنه يمتد لأي مؤسسة دينية كالكنيسة المصرية التي أصابها أيضاً ما أصابها من ملمات تتعلق بالحريات التي تتحكم في مصائرها أسرار كهنوتية لم تخضع لنقاش أو تطوير منذ القدم.

تناقضات بين القول والفعل عند بعض رجال الدين 

أعجب من أحاديث رجال الدين المستمرة عن التسامح والقبول والسلمية مع أصحاب المعتقدات المختلفة بالرغم من تناقض ما يقولون في العلن مع محتوى ما يتم تدريسه من أفكار مذهبية غامضة المنشأ وليست بالضرورة ذات قداسة، ويأتي هذا أمام المحصلة الحقيقية التي لا تخطئها العين وهي همجية الصراعات والحروب الحالية، وملايين القتلى الذين تحصدهم آلات الدمار التي تتحرك بفتاوى فقهية رسمية تخرج من كنف تلك الكتب والشروح والتفاسير المتناقضة في أغلبها، والتي خلطت في الأساس بين ثوابت الدين ومتغيراته، وبين ما هو عقائدي وما هو تعبدي، وما هو لائق أو مستحسن وما هو غير ذلك.. لذا ربما سيكون لزاماً على صناع القرار التروي في إتخاذ قرارات أو إصدار تشريعات تتعلق بالمسائل الفقهية قبل التحقق من صلاحيتها، فقط لضحد أي شبهة قد تشوب العلاقة بين رجل الدين ورجل الدولة.

ما الهدف من تشويه السنن النبوية؟ 

المغالاة في إنكار السنة النبوية هو أمر مستنكر لدى من يدركون حق الإدراك المعنى الحقيقي لها وما وصل إلينا من معرفة بالتسامح والرقي والتحضر في سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وعلاقته بالأخر، لكن لابد من محاولة الإقتراب من الهدف الحقيقي لهذا التوجه، وهل هو إنكار فحسب، أم أنه محاولة جادة لضبط المصطلح وتصويب ما هو خاطئ..؟ لا شك أن كتب التراث التي تتناول السنة النبوية تحتاج لعمل جاد لتنقيتها من كل ما هو مصدر مشكوك في صحته، لسنا هنا بصدد التصنيف، ولكن الإصلاح بكل ما تعنيه الكلمة من معان.. وهنا لا أنكر أني أكاد أتنسم رائحة السياسة في الأمر، ففي فبراير 2015 جاء على لسان “جون سورز” رئيس جهاز الاستخبارات البريطانية الأسبق قولاً أحسبه هام جداً لخطورة ما احتواه من تصنيف شديد الخبث، وأظنه يفسر بعض الظواهر الجيوسياسية الحالية، فقد قال الرجل: أن الإسلام غير مهيأ لإحياء وتحديث نفسه ليواكب العصر..!

ما السبب الذي أدى إلى انتهاك حرمات الدين الإسلامي؟

فهل كان التصريح عفوياً، أم إعداداً لما نراه الأن من انقسامات وشروخ تضرب تلك الحضارة الأعظم والأكثر جلالاً وقدسية في أصولها الصحيحة؟ حتى أصبح سفهاء العصر الحديث يهاجمونها وينتهكون حرماتها يومياً بضراوة منقطعة النظير..؟  أمر أحسبه لا يخلو حتماً من أهمية الاعتراف بالتقصير الذي حدث من جانب معتنقي الدين الإسلامي، الذين إكتفى أغلبهم بالتدين الظاهري وآثروا الاستسلام لأئمة التشدد والتكفير ليتلاعبوا بعقولهم، وتركوا لهم مهام التصرف في أمور الدين كافة تفسيراً وتقريراً حتى حدث ما لا تُحمد عقباه، أمر سمح بصعود الفكر الرافض لمجرد التعايش مع أصحاب المعتقدات الأخرى في داخل بلادهم أو خارجها.. فالغرب الذي كفره تجار الدين من أعلى المنابر، صار يخشى النموذج المتشدد من أي معتقد، وأصبح يأبى تماماً التعايش مع من يحاول تعديل مسار حياته المبنية على التعددية والحرية المطلقة.. كما أن عقيدة التعاون والاحترام والتسامح التي يدعي هؤلاء أنهم بصدد نشرها لم تكن مطروحة داخل شروحهم في أغلب الظن..!

فيديو مقال الدين.. محنة كل العصور..!

أضف تعليقك هنا