في التحذير من القراءة

بقلم: حسن العازمي

التعلم عن طريق المحاولة والخطأ

التعلم عن طريق ارتكاب الأخطاء هو الشكل الأول وهو الأصل في العملية العليمية، وليس المقصود هنا الأشكال الرسمية والمعروفة من التعليم العام، وإنما المقصود هنا هو عملية نمو الوعي الإنساني بشكل عام وانفصاله الجزئي من الطبيعة الأمر الذي مكنه من تحقيق نوع من الإدراك المزدوج لذاته وللواقع الطبيعي.

فالاتصال الأول بين الإنسان والطبيعة ومن ثم التعرف عليها كل عبر عمليات طويلة من التجربة والخطأ، والتي استطاع من خلالها في كل محاولة من تعديل الرؤية والمنظور الذي يتعامل من خلاله معها، وبالتالي التوصل إلى الصيغة الأكثر ملائمة لتلبية حاجاته، هذا الشكل من الأخطاء والتعلم من خلالها هو المقصود في هذا السياق، ويمكن القول بشكل عام أن مسيرة الحضارة الإنسانية عموماً تتلخص في المحاولات والأخطاء الناتجة عنها والتي بالنتيجة مكنت الإنسان من تحديد أدق للصواب المفترض، فالأخطاء وارتكابها عموماً يعني أيضاً تحديداً أدق للصواب في المجال قيد البحث،فتراكم الأخطاء التدريجي وبالتالي استبعاد المحاولات الخاطئة يفضي في النهاية إلى صواب مفترض بالمعنى المعكوس أي إلى أن احتمال الصواب أعلى في المحاولات القادمة.

المحاولات الخاطئة أساس تطور الوعي الإنساني عبر الزمن

ومن هنا فإنه يمكن القول بأن جميع أشكال التعليم الأخرى مشتقة ومبنية أساساً على هذا الأصل الأول، فالدراسات العلمية والاجتماعية بأنواعها هي عبارة عن طرح لصوابات مفترضه نتجت من إما جملة من التجارب العلمية المتراكمة، وبالتالي من عدد كبير من التجارب الخاطئة والتي كانت تؤشر بالتدريج اتجاه التجربة الأصح في كل مرة، أو من تجارب مجتمعات غابرة أو معاصرة وقراءة أسباب التخلف والانحطاط التي عصفت بها، ويبدو أن مقاربة الواقع بجملة مبادئ وأدوات عقلية مستنتجه من منظور معين للعالم الطبيعي وللواقع الاجتماعي ثم الاصطدام بألم الخطأ ومن ثم العودة من جديد بأدوات عقلية معدلة، هي العملية الأصلية لتطور الوعي الإنساني.

لكن مالذي يعنيه “حدث” التعلم من خلال الخطأ؟ ومالذي يحصل بدقه في هذه الحالة ونسميه “تعلماً”؟

الخطأ هو بطبيعة الحال نتيجه غير مرغوبه, وحقيقة وقوعه على كل حال تؤشر إلى أنه لم يكن متوقعاً. والتوقع هنا يقوم أساساً على افتراض أن المنظور الحالي للعالم وللواقع الاجتماعي سليم وبالتالي ستكون الآليات المستخدمة فعالة في إنتاج النهايات المطلوبة، تناسب النتائج مع التوقعات يعني أن التصور سليم ولا يحتاج إلى مراجعة وبالتالي يمكن الاستمرار بنفس الأدوات العقلية واعتمادها للمحاولات القادمة، هذا التناسب يقع في أساس الاستقرار النفسي للإنسان، فطالما استجاب الواقع للتوقعات فالثقة تزداد بالمنظور وبالآليات العقلية المستخدمة.

لحظة اكتشاف الخطأ

الخطأ هنا يعني أن المخطئ اكتشف أن مكوناً ما من العناصر المكونة لرؤيته للعالم خاطئ وبالتالي يجب أن يتم استبدالة. عندما تمر بنا أحياناً لحظات نختبر خلالها شيئاً من الالتماع الذهني ونشعر بإضاءة خاصة يرافقها شيء من النشوة وكأن الأمور أصبحت الآن أوضح، هذه الحالة التي نشعر معها بالدهشة لأن شيئاً ما في تكويننا ظنناه صحيحاً لمدة طويلة واتضح في الناهية أنه خاطئ وبالتالي يجب أن نتخلى عنه، وعملية استبدال المكون الصحيح بالخاطئ هنا لا تحصل بصورة واعية وقصدية كما لو أننا ندرك أولاً ثم نقرر أن نستبدل القديم بالجديد وإنما ألم الخطأ وقوة الحقيقة التي صفعتنا به هي التي تنجز لنا هذه المهمة بشكل مباشر وبلا توسط.

ماذا يحدث عندما تتم عملية إدارك الخطأ وتصحيحه؟

وبالتالي يتضح أن التعلم هو -جوهرياً- إدراك المتعلم أن جزءاً ما من تكوينه أو جزءاً ما من ذاته كان خاطئاً، وإذا أراد أن يحيا ويستمر يجب أن يتخلى عنه، وإذا كانت الذات الإنسانية هي الواعية بذاتها وبواقعها في نفس الوقت، فإن موتاً جزئياً لهذه الذات هو مقدمة ضرورية لأي عملية تعلم حقيقية، وفي الواقع فإن قدراً من هذا الموت الجزئي يحصل بشكل مستمر للكثيرين في صورة تشبه أن تكون موتاً جزئياً فجائياً، ففي لحظات الالتماع التي ترافق سماعنا لخبر معين أو لمعلومة معينه ونشعر بعدها أن شيئاً ما قد تغير في فهمنا لقضية من القضايا، هده الحالات هي في الحقيقة هي مثال مباشر لعملية الاستبدال هذه لجزء من ذواتنا والتي تحصل وتتحقق بلا توسط، والموت الجزئي هنا ليس مجازاً بالقدر الذي قد يظن، فإن مستويات مثل هده “التضحية” تتفاوت بشكل كبير، فهي قد تبدأ من إدراك بسيط أن ترتيبنا لأثاث المنزل لم يكن هو الترتيب المناسب وهو إدراك ثمنه يحدد بالمجهود المطلوب لإعادة ترتيب الأثاث إلى إدراك أن التخصص الجامعي لم يكن موفقاً، وهنا يقاس الثمن بعدد السنوات المهدرة إلى إدراك أن اختيار الزوج وشريك الحياة كان خاطئاً، وفي مثل هذه الحالات غالباً ما تكون عملية التصحيح مؤلمة وقد تستغرق الحياة بطولها.

وقد تصل عملية الإدراك والموت هذه إلى حالة يتم فيها تدمير كامل لرؤية الانسان لنفسه وللكون وللحياة, وهي حالة إن حدثت قد تؤدي إلى عواقب نفهم معها أن مجاز الموت ليس مجازاً بالقدر الذي قد يظن، فمثل هذه الحالة من التضحيه على مستويات عاليه من التجريد قد تسلب من الإنسان معنى الحياة بالكامل وتؤدي الى الانتحار وبالتالي إلى تضحية مادية حقيقية.

ضرورة التجديد والتطوير في عملية التعلم والتعليم 

ومن هنا يتضح أن التحذير من القراءة كشكل مهم من أشكال التعلم والتعامل بقدر من التوجس اتجاه التعاطي مع الكتب بما يتضمنه هذا التعاطي من قدر من العشوائية بما يتعلق بالمحتوى المكتوب، يتضح أن مثل هذا التحذير والتوجس مفهوم تماماً، وفي الحقيقة فإن عكس هذه الحالة، أي تشجيع القراءة والتعلم التلقائي، هو غير مفهوم لأنه يشبه أن يطلب المجتمع من أفراده ويشجعهم أن ينخرطوا في نشاط قد يهدد هويته والأطر العامة التي حددت ابتداء وجوده. لأن الموت الجزئي الذي نشعر به أحياناً بصورة عشوائية كما هو مذكور أعلاه يتحول في حالة التعلم والقراءة الواعية إلى تضحية قصدية ومتعمدة تماماً، فالقارئ والمتعلم هنا نظرياً على الأقل يقدم على عملية التعلم وهو عامد أن يقدم التضحية المطلوبه بغض النظر عن النتائج المترتبة، والحفاظ على جملة مبادئ عامة يتحدد داخلها المقبول وغير المقبول، وتوريثها للأجيال القادمة بلا تعديلات جذرية هو سمة أساسيه لأي مجتمع ليحافظ على قدر من التوازن والثبات وبالتالي الهوية، والتعلم بالمعنى المذكور هنا يعني جوهرياً خروجاً عن هذا الإطار العقلي الموروث بدرجات تقل أو تكثر في بعض الحالات.

ولكن الأمر المهم هنا أن الثبات وعدم التغير في عالم الاجتماع كما في عالم الطبيعة هو علامة الموت، أما التضحية الواعيه فإنها إذا بغلت مداها فإنها تفضي إلى ولادة جديدة، وتمثيل الولادة الجديده هنا بكل ما يحمله من معاني يبدو منساباً تماماً لإيضاح المقصود، لأن كما هي الحال مع كل مولود فإن أملاً جديداً بالخير يولد معه مع كل الغموض الذي يلف المستقبل المتعلق به من عقوق أو صلاح من خير أو شر، فإن أحد من عالم البشر لا يستطيع ضمان صلاح الذرية أو فسادها، ومع أن الاحتمالين واردان دائماً فإنه لا أحد يمتنع من طلب الذرية والسعي لتحقيق شروط إنجابها، ونحن نعلم أننا إن أحطنا ذرياتنا بالرعاية المطلوبه والتوجيه اللازم مع فسح المجال لقدر من الاضطراب وعدم الاتزان الطبيعي في حالة الاطفال فإن العاقبة ستكون بالخير والبر للوالدين وللأقربين.

ومن هنا فإن التأسن والموت هو نهاية كل ثبات، والتضحية الواعية هي بداية كل ميلاد جديد.

قلنقرأ لنولد من جديد.

بقلم: حسن العازمي

 

أضف تعليقك هنا