أصولية بنكهة النفط ..!

في أكتوبر 2013، وفي إحدى الحلقات التليفزيونية عن “إستغلال الأطفال في السياسة”، لفت انتباهي أن أحد شيوخ الجماعات الإسلامية -وتحديداً التيار السلفي، وهو من محافظة المنيا- يركز في حديثه على أشياء من قبيل: “..تكوين (إيديولوجية) الطفل؛ يعني (عقيدة) الطفل وهي وظيفة كذا ..”؛ وفي نهاية الحلقة استشهد من التراث -وأنا أقول التراث- على زواج عائشة في سن السابعة، ثم عاد ليؤكد: “..نحن الآن نسير خلف (الإيديولوجيات ، هذه (الإيديولوجية الشرعية الإسلامية) .. يقول لي الإسلام هكذا.!”.

وحين يكون الرأي الراجح أن “الأصولية” في أغلب دول العالم هي أصولية دينية- ومع كامل التقدير- فإن تلك النظرة قد تبدو سطحية لمفهوم “الأصولية”، والتي تأخذ مستويين: أحدهما سياسي والآخر اجتماعي . الأول لا قواعد له سوي: “الواقعية” و”المنفعة”. أما الثاني فهو بالغ التعقيد.

ففي ربيع 2018 أشار “ستيفان روماتيه” سفير فرنسا لدى مصر أن عدد الناطقين بالفرنسية يقترب من ال700 مليون شخص حيث سيكون 85% من هؤلاء من سكان إفريقيا . كما يعتبر “الفرانكوفونية” معركة من أجل التعددية والتنوع الثقافي.

ويضيف: “لقد حشدنا جهودنا طوال فترة إرساء اتفاقية اليونيسكو حول حماية تنوع أشكال التعبير الثقافي وتعزيزها. حشدنا جهودنا ضد مخاطر التحويل اللغة الإنجليزية إلى لغة للمقياس وبالتالي ظهور لغة عالمية “Globish” تهدد خصائص الثقافية والوطنية والإقليمية ..”. وتصريح “روماتيه” يمكن وصفه بأنه ذو توجهات أصولية.

لكن مبدأياً؛ ما يجب الاتفاق عليه، أن “نزع العلمنة من العالم ..” – على حد تعبير “جورج ويجل” الكاتب والمحلل الأمريكي- قد جرى في أواخر القرن العشرين. وأنه حسب نظرية العلاقات الدولية البريطانية: فإن كل حضارة ترى نفسها مركزاً للعالم، وتكتب تاريخها وكأنه الدراما الرئيسية في التاريخ، وأن الهدف في النصف الثاني من القرن العشرين، لم يعد تحديث الإسلام بل “أسلمة الحداثة”. كما لم تعد القضية قضية تحديث بل قضية “أنجلة أوروبا” وفقاً لرأي “صمويل هنتجتون”.

ولن أبدأ بـ”الإسلام السياسي” الآن؛ وسأشير إلى ما يدعوه “هنتجتون” ب(الصحوة الأرثوذوكسية) وهو مدّ أصولي اجتاح جمهوريات الاتحاد السوفيتي الخمسة عشر، وعلى رأسهم روسيا، ما بين العامين 1988-1993م. رغم أن هذه (الصحوة) تلاها إعلان 30% من الشباب خاصة تحت سن الـ25 إلحادهم في العام 1994م.

وإذا تغاضينا عن أن النازية في الأساس هي منظومة عقائدية. سنجد مثالاً: هو أحد الجنود السوفييت -المسمين الذين أُسروا في العام ١٩٤١ م، يدعى “ولي قدير خان”؛ والذي انتقل إلى معسكر لأسري الحرب، ليجد عرضاً يغريه..! وينضم لأحد الفيالق الألمانية المرابطة في الشرق فيما عرف ب”جيش تحرير القوقاز”.

فالعقيدة كانت ضمن أدوات “الرايخ الثالث” الفعالة، وخاصة في صراع “هتلر” مع “ستالين” على موارد شرق أوروبا من الصلب، والمثال الثاني هو أحد الكتائب وهي (الكتيبة 450 مشاه) والتي كانت بالكامل من مسلمي القوقاز والبلقان، وكانت شارة الساعد الخاصة بهم مكتوب عليها بالتركية Biza-Alla-Bilen أي “الله معنا”.

وهو ما نصل من خلاله إلى أن”.. (الصحوات) قد تتضمن جماعات وحركات “أصولية” سياسية مدعومة من الخارج… إلا أنها كانت حركات ثقافية في الأساس.” والنماذج تبدو جلية في الحرب بين أرمينية وأذربيجان، والبوسنة والصرب، والشيشان والروس.

ووفقاً لنقطة الأساس الأخيرة؛ فقد كانت الأصولية الدينية سلاحاً في غاية الفاعلية، قد لا يكون الأوروبيون والأمريكيون قد تنبهوا إلى فاعليته، تحديداً في “الشرق الأوسط وشمال إفريقيا” و”إفريقيا جنوب الصحراء”؛ حتى لفت “أنور السادات” الأنظار إليه في محاولة درء المدّ الشيوعي في مصر، وخاصةً في الجامعات، من خلال السماح لأيديولوجية مضادة بأن تكون كفة ميزان أخرى.

فخلافاً لأهمية الشرق الأوسط الچيوسياسية -الجغرافية والسياسية- فإن أزمة النفط ١٩٧٣م دقت ناقوس الخطر حيال تحكم مجلس أمراء الخليج في أكبر احتياطيات النفط والغاز، فضلاً عن دول أخرى في الشرق الأوسط أيضاً مثل: ليبيا، وإيران، وبالطبع العراق. وهو ما جعل وجود جماعات الإسلام السياسي مهماً في التركيبة الاجتماعية -أكثر من السياسية- لبلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مهماً بالنسبة لاستراتيچية الولايات المتحدة في تأمين مصادر المحروقات.

لكن البداية الصحيحة ينبغي أن تكون من “آسيا الوسطى”، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي؛ حيث تغذت نظريات الإسلام السياسي -عن “الحاكمية”- بعنف حركته الأطماع السياسية للجارتين “باكستان” و”أفغانستان”؛ وما استتبعه من الانتصار المدوي على الجيش الأحمر.

فالدعم والتأمين والتدريب الأفغاني الذي حظيت به قبائل “البشتون” ـ المقيمين في إقليم تدّعي أفغانستان أنه ملكها ويجب أن يكون تحت سيادتها لا سيادة “باكستان” . وباكستان ترى في أفغانستان مساحة للتراجع وحديقة خلفية في أي نزاع مسلح قد يندلع في المستقبل مع الجارة اللدود الهند. وكذا تفكك الجيش الأفغاني إثر حرب أهلية قصيرة عام ١٩٧٩م، وتغلغل دعوات “أبو الأعلي المودودي”، وغيره من المنظرين المتأسلمين الباكستانيين، في قرى الأرياف الأفغانية، ثم الغزو السوفييتي ١٩٨٩م.

أقول أن هذه العوامل وغيرها أفرزت صراعاً فكرياً بارداً في الشرق الأوسط استمر في الثمانينيّات والتسعينيات، ما بين الخفوت تارة والاشتعال تارة أخرى، بين معسكرين رئيسين قد يكون لا ثالث لهما: أحدهما تواق للحداثة، فيما يبدو الآخر -وأكثريته كانت آنذاك من الشباب- منغلق مشوش الذهن ما بين الاندماج في الحاضر أو العيش مع الماضي.

كما أن أحداثاً مثل غزو العراق الكويت وما ترتب عليه، لفتت الأنظار داخل المجتمعات الشرق أوسطية لتدخلات مرفوضة، قد تكون أثارت حفيظة جيل الآباء الذي عاصر أعقد أوقات الصراع العربي الاسرائيلي وبقايا ذكريات الإمبريالية الأوروبية.

ومع توجيه الثقل والحشد – في الداخل قبل الخارج- للحرب ضد الاٍرهاب في أعقاب أحداث ١١سبتمبر ٢٠٠١ ، بدأ منحنى شعبية (الحلم الأمريكي) في الانحدار. هذا إلى جانب تفاصيل أخرى، مثل أيقونة “محمد الدُرّة”ـ والتي لا تزال حية في أذهان شريحة عريضة من أجيال الثمانينيّات والتسعينيات في الشرق الاوسط.

وفي كتابه؛ (ورشة عمل الإمبراطورية: أمريكا اللاتينية، والولايات المتحدة وصعود الإمبريالية). يوضح “جريج جراندين”، الروابط بين مكافحة التمرد في العراق وسابقاتها في “أمريكا الوسطى” ـ في “حروب الموز”. ورغم أن خبير أمريكي في “مكافحة التمرد CION”، يصف القوات الممولة والمدربة أمريكياً في أمريكا الوسطى على أنها (تصبح متوحشة). إلا أنه مع فشل الولايات المتحدة في هزيمة… العراقيين وحدها بدأ البنتاجون في مناقشة “الخيار السلفادوري”: استخدام قوات مليشيا محلية في السلفادور عرفت (بكتائب الموت) للقيام بالعمل القذر الذي لم تكن ترغب فيه، أو غير قادرة عليه.

وعلى كلٍ، فقد أدركت الولايات المتحدة أخيراً أن سقوط المركزية الكاثوليكية ـ امتداد العظمة الرومانية ـ كان السبب في ميلاد الديموقراطية والاشتراكية، في سياق القومية . تماماً كما قال “جورج دابليو بوش” في العام 2001 أنه يريد الشرق الأوسط “مزرعة ديموقراطية”.

ولذلك وضعوا نصب أعينهم “النموذج الأوروبي” في التحول للحداثة، ووضعوا في اعتبارهم أن تكون الإستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط هي دعم “التحول الديموقراطي” الذي يمكن الاعتبار أنه بدأ رسمياً، بانهيار الإمبراطوريات الإقطاعية بانتهاء الحرب الأولي وإعادة تشكيل أوروبا سياسياً في العام 1918م.
——
مصادر

  • آلان.ج.ب.تايلور؛ أصول الحرب العالمية الثانية..
  • اين جونسون؛ مسجد في ميونخ..
  • صمويل هنتجتون؛ صدام الحضارات ..
  • كريستيان بارينتي؛ مدار الفوضى ..
  • مجلة الدبلوماسي؛ العدد فبراير، مارس ٢٠١٨

فيديو مقال أصولية بنكهة النفط ..!

أضف تعليقك هنا