إلى لقاءٍ مستحيل

في المحطة

كانت المحطة تعج بالركاب إلى حين أتى القطار، ولم يبقى أحدٌ سواي أنتظر القطار المقبل الذي سيأخذني إلى وجهتي. أخرجتُ كتاباً من الحقيبة الصغيرة التي كنتُ أحملها معي وجلستُ أقرأ بتمعن؛ أكثر ما كان يبغضني في ذلك الصمت المدقع هو صوت تكات الساعة الكبيرة المعلقة على منتصف الحائط في القاعة .. تك .. تك .. تك ..

ذلك الصوت كان دائماً يصيبني بالتوتر، إذ أنه كان يذكرني بقاعات الامتحانات وعيادات طبيب الأسنان. كان الوقت يمر ببطئ، ومع تقدمه كانت المحطة تستقبل المزيد من الركاب المسافرين، الذين كانوا يدخلون مسرعين هرباً من البرد القارس في الخارج، وهم ينفضون حبات الثلج العالقة على معاطفهم وقبعاتهم.. إلا هي دخلت كأن شبحاً كان يطاردها، كان شعرها الأسود المنسدل على كتفيها مبللاً بحبات المطر، لكنها كانت مخدرة تماماً عن الشعور به، كانت نظراتها تائهة، وعيونها السوداوتان تجولان المكان بارتياب  سمعتها تسأل الموظفة التي في المكتب المجاور عن موعد القطار .. لقد تبقى له نصف ساعة!

أنا و الفتاة في المحطة

للصدفة جلست الفتاة بقربي، نظرتُ إلى يديها الحمراوين لشدة البرد. ضمتهما بين قدميها وهي ترتجف من البرد؛ أثار وضعها فضولي الصحفي، لقد كانت تلك الفتاة قصةً متجولة، لكنني رغم ذلك رحتُ أراقبها دون أن تشعر. كانت تنظر كل قليل إلى ساعة يدها ثم إلى هاتفها المحمول. كانت ترتبك في كل مرة يصل فيها اشعار على هاتفها، تخرجهُ يسرعةً من جيبها ثم سرعان ما تعيده وملامح الخيبة تعلو على وجهها.

كان قد تبقى على قدوم القطار دقائق، بدأت الناس تتجه نحو الخارج وهي تتلفح بمعاطفها وقبعاتها، أغلقتُ كتابي وأعدتهُ إلى الحقيبة. كان صوت تكات الساعة قد اختفى مع ضجيج المسافرين وأصوات النداء للرحلة القادمة. وضعتُ قبعتي على رأسي وأحكمتُ لف الوشاح الصوفي على رقبتي ثم خرجتُ.

كانت قد سبقتني في الخروج، رأيتها وهي تتكلم على الهاتف في أحد الزاويا المنفردة، كان يبدو عليها الانفعال والغضب؛ توقف القطار وكانت آخر من صعد إليه ،لحسن الحظ جلست في المقعد المجاور لمقعدي ثانيةً. انطلق القطار في رحلته بدأت العالم يخلع معاطفها وقبعاتها وتهيئة الجو المناسب لرحلةٍ كانت ساعاتها المقدرة تتجاوز السبع ساعات وإحدى عشر دقيقةً.

أخرجتُ الكتاب مجدداً من الحقيبة بعد أن هيئتُ نفسي لهذه الرحلة الطويلة، ورحتُ اقرأ فيه .. كان تركيزي مشتتاً بين ما كنت اقرآ وبين الفتاة التي كانت تكتب رسالة تلو أخرى .. شعرتُ بحاجةٍ ماسة إلى كوبِ من القهوة، ذهبتُ إلى القاطرة الأخيرة حيث كان مقهى القطار اشتريتُ لتفسي كوباً من القهوة وعدتُ مجدداً إلى مقعدي؛ لم تكن حينها موجودةً بيد أن حقيبتها كانت ما تزال متربعةً على مقعدها.

عادت بعد عشر دقائق تقريباً، كان وجهها يبدو شاحباً والدموع قد ملأت مقلتيها، سألتها بدافع الاطمئان إن كانت بخير أجابت بصوتٍ هامسٍ بأنها تعاني من دوار الحركة وأن رحلات القطار تصيبها بالغثيان.

رحتُ أتأملٍُِ سواد عينيها الباكيتين من خلال زجاج النافذة الذي بجانبي؛ شعرتُ بحرارة أنفاسها المتصاعدة مع رائحة عطرها التي كانت تشبه رائحة الياسمين.

رسالة الفتاة

كان هناك عشرات المسافرين في القطار، وكانت هناك العشرات من القصص خلف كل وجه من هذه الوجوه التي كان بعضها مبتسماً وبعضها عابساً، وبعضها غافياً .. وكان في وجه تلك الفتاة قصص بعدد قصص كل وجوه المسافرين. راحت تقلب مجدداً بهاتفها المحمول تتأمل صوراًِ لشابٍ ما .. ثم عادت تكتب .. استطعتُ من خلال زجاج النافذة أن أتلصص على ما كتبته .. ” لا استطيع أن أتحمل فكرة أننا لم نعد سوياً، رغم أن هذا كان قراري، رغم أنني فعلت كل ما بوسعي لأجل أن نفترق .. أشفقُ على نفسي كثيراً، لقد اشتقتُ إليه، لكنه يتعامل معي بجفاء وقسوة.. أراكٍ قريباً!”.

بدء الحديث مع الفتاة

راحت الفتاة تبكي بشدة بعد أن انتهت من كتابة الرسالة؛ أخرجتُ في الحال منديلاً من جيبي وأعطيتها إياه شكرتني بخجل. وضعت المنديل على وجهها ثم عادت للبكاء مجدداً، شعرتُ بالرغبة في معانقتها، لكنه كان تصرفاً عبثياً ومجنوناً في الوقت نفسه.

بدأ حوارنا عندما هدأت، سألتها عن وجهتها ومن أين أتت، ثم عرفتها بنفسي :” صحفي ورئيس تحرير جريدة الكلمة، ابلغ من العمر ثمانية وخمسون عاماً، أب لثلاثة فتيات، وجد لفتاتين ..”.

دعوتها لتناول فنجان قهوة في مقهى القطار، قبلت الدعوة بابتسامة، جلسنا على أحد الطاولات في المنتصف؛ كان مذياع المقهى يبثُ موسيقا بيانو هادئة ومريحة؛ كان الظلام في الخارج قد غطى الشوارع، فلم نعد نلمح في الخارج سوى لمعان الثلوج على أضواء المحطات التي كنا نتوقف عندها.

” لقد خانني، اعتقدتُ في البداية أنني سأكون قويةً كفاية لأتخطى نزوته وأسامحه، لكن الحياة بيننا أمست لا تطاق، كان الشكُ المرض القاتل الذي تسلل إلى حياتنا بعدها؛ رغم أننا تزوجنا عن حب، هذا الحب الذي أقسمنا عليه سويةً حتى الأبد. لقد حدث هذا منذ عامين، أصبتُ بعدها بالاكتئاب، أجهضتُ مرتين .. وفي المرة الثالثة فقدت الجنين في الشهر الرابع. اعتقدنا أننا إن أنجبنا طفلاً فإننا سنتخطى ما حدث، لكنني كنتُ جلاداً قاسي الجكم، كابوس الخيانات لم يفارقني لحظة، تغيرنا كثيراً، حتى أصبحت حياتنا في الفترة الأخيرة تشبه الجحيم، عندها طلبت منه أن ننفصل .. عارض الفكرة في البداية وطلب مني أن نعطي هذا الزواج وهذا الحب فرصةً أخيرة .. لكنني رفضت”.

عادت الدموع لتطفو من عينيها، وعادت إلي الرغبة في معانقتها .. كيف لهاتين العينين اللامتعتين أن تنطفئا، كيف لهذا القلب المشع أن يبرد جمره، الخيانة قاسية .. لكن المحب يغفر، وأي غفران هذا الذي سيواجه طعنة الخيانة. كلنا خائنون، لنعترف بهذا الذنب الذي يقتلنا كالسم ببطء . .

تابعت حديثها المبلل بالدموع:

” انفصلنا منذ ستة أشهر، عاش كل منا في بيت منفصل بعيداً عن الآخر، كان في البداية يأتي بأي حجة ليزورني ويطمئن علي، حتى فقدته مع الوقت؛ لقد كان يعلم بأنه خسرني حتى الأبد، وكنت مستعدة لمواجهة اليوم الذي سيمضي كل منا في طريق ونعود كما التقينا أول مرة غريبين .. كنتُ أخافُ من اللحظة التي سيخبرني فيها بأنها التقى بامرأة أخرى وأنه سيكمل حياته معها، رغم أنني اخترت بكامل إرادتي ألا أكون تلك المرأة، لكنني ربما أردتُهُ بنيةٍ أنانيةٍ ونرجسية أن يبقى سجيناً بحبي، أسيراً للحزن .. يدفع ثمن خيانته حتى آخر لحظة من حياته؛ كنتُ مطمئنةً في لحظات انكساره ببعدي، سعيدةً برؤيته ينهار في كل مرةٍ يصارحني فيها برغبته في العودة إلي وأنا أكابر ..”.

نزلت في المحطة التالية، وبقي صوتها معلقاً في ذاكرتي، بقيت ملامح الخيبة مرسومة على زجاج النافذة حيثُ كنتُ أتأمل ملامحها لساعاتٍ في بداية الرحلة. شعرتُ عندما أصبح مقعدها خالياً بالوحدة، ضممتُ حقيبتي وكتابي ورحتُ أتأملُ ملامح الركاب الجدد. أختلق لكل منهم قصة تشبه قصتها .. كان هناك شاب وشابة يجلسان في المقاعد الأمامية، كانت الفتاة تغفو على كتف الشاب .. تستيقظ، يتبادلا القبل، ثم تعود هي لنومها الدافئ ويعود هو لمتابعة الفيلم ..

خيانتي..

أخرجتُ هاتفي المحمول كتبتُ رسالة لزوجتي :” لنفترض أنني خنتكُ هل كنتِ ستغفرين لي؟”!؛ مسحتُ الرسالة قبل أن أرسلها، يا إلهي ما هذا الجنون الذي أنا به الآن .. لكنني خنتها؛ لم تكن مرة واحدة فقط، كانتا مرتين، لقد كان هذا من زمن بعيد مضى، في المرة الأولى كان لقاءً عابراً مع حبِ قديم، لقد كانت نزوة شيطانية، ساقتني المرأة إلى منزلها، أغوتني ..

لكن في المرة الثانية عندما كشف الأمر ونكرته كان مع امرأةٍ لن يكررها الزمن؛ “ماريا” أو من أسميها “ريتا” في القصص التي أكتبها أحياناً، لقد كان حباً جامحاً، كنتُ في الخامسة والثلاثين من عمري؛ عشقتُ “ريتا” عشقاً لا مثيل له، بل وربما أفضل أيام حياتي كانت معها؛ عندما واجهتني زوجتي بخيانتي نكرت واعترفت بنفس الوقت؛ كنا حينها نمرُ بأزمة منتصف الزواج، كنتُ أباً مثالياً رغم هذا .. وكانت أماً مثالية إذ لم تدع هذا الأمر يخرج يوماً عنا.

أما عن “ريتا” فبعد علاقةٍ دامت أكثر من سنة ونصف، اختفت .. بحثتُ عنها ملياً لكن لم أجد لها أثر. لكن الأثر الذي زرعته بداخلي ما يزال موجوداً حتى هذه اللحظة، حتى أنني مازلتُ أكتب لها وعنها في جميع قصصي وأنا موقنٌ بأنها تقرأها وتشعر بنشوة الانتصار وهي تدرك تمام الإدراك أن كل هذا الحب والإبداع والشغف عنها هي!

توقف القطار أخيراً في المجطة الأخيرة، ارتديت معطفي ووشاحي وقبعتي وغادرتهُ تاركاً آخر قصة كتبتها عن “ريتا” مرميةً على الكرسي الذي كانت الفتاة تجلس عليه؛ احتفظتُ بكوب القهوة الذي شربت منه كذكرى، لأنني شعرتُ أن ذلك اللقاء لم يكن مجرد صدفة، بل كان إشارةً قدريةً لي كي أتجاوز “ريتا” بعد ثلاثة عشر عاماً مضت!

“إلى ريتا” ..

إلى رائحة عطرك التي ماتزال معلقةً على الوشاح تدور معي أقطار الكون؛ إلى سكونكِ وهمساتكٍ .. إلى صخب عينيكٍ وجنونكٍ، إلى كلماتكِ التي بقيت معلقةً في ذاكرتي، والتفاتكٍ التي لم تغادرني يوماً، سامحيني على أن رغبتي الأخيرة في معانقتك لم أتجاوزها يوماً. أحبكٍ أينما كنتِ .. وسأبقى.

مع محبتي .. إولى لقاءٍ مستحيل”.

فيديو مقال إلى لقاءٍ مستحيل

أضف تعليقك هنا