ثقافة المهزوم والمنتصر

في كل مراحل التاريخ المختلفة هناك صراع بين مختلف الحضارات والثقافات، ترتفع بعضها أحياناً وتعلو فوق الحضارات الأخرى، ثم تسقط بعدها سقوطاً مدوياً، وتحل محلها حضارة أخرى في طور نموها وتقدمها فتعلو وترتفع، ثم يحين وقت نهايتها، وهكذا دواليك، وهذا واضح جداً في كل فترات التاريخ منذ قبل الميلاد حتى حاضرنا المعاصر.

الحضارة المنتصرة وجذبها للناس

وفي كل الأحوال ، فإن الحضارة المنتصرة تجذب الناس لأفكارها ومذاهبها ، يسعى وراءها عامة الناس والمثقفون يحاولون تقليدها والسير على منوالها ، وهذا لا يعني بالضرورة أن تلك الأفكار والمذاهب هي الصواب المطلق وطريق التقدم والحضارة الوحيد ، وأن ما سواها من أفكار ومذاهب ( وحتى لغة ) هي أساس التخلف والرجعية والتأخر ، ولكن هذا ما يحدث دوماً ؛ فإن للمنتصر منطقاً يبدو للناظرين لامعاً براقاً ، حتى وإن كان خاوياً من الداخل ولا يدعوا إلى شيء ذي قيمة. وهذا ما يمكن تبريره ببساطة شديدة.

الحضارة المهزومة والمنحدرة

تلك الحضارات والثقافات المهزومة والمنحدرة ، لو وجدت حقاً من يدعوا إلى أفكارها ويؤمن بمذاهبها من أبنائها لما سقطت ولا انحدرت ؛ لذلك عندما ينظر الناظر إلي طرفي النقيض ، في ناحية حضارة قوية منتصرة مرفوعة البناء ( ولا يهم إن كان البناء قد بني على أرض صلبة أو على رمال متحركة أو على لا شيء.) ، وفي الناحية الأخرى حضارة ضعيفة مهزومة لم يبق من بنائها إلا أطلال وآثار ( لا يهم إن كان هذا البناء في فترة ما قوياً وعلى أسس صحيحة وراسخة في الأرض وآية من التكامل والجمال ) ، فإن الناظر يولي وجهه شطر الطرف الأول ، ويتغافل وينسى تماماً وجود الطرف الثاني. وهذا ما يحصل في عصرنا الحالي.

نظرة في التاريخ تبين لجوء المنتصر أحيانا لنشر ثقافته وفكره بالسيف على الشعوب المهزومة

وأحياناً يلجأ القوي المنتصر إلى استخدام القوة والقهر على الشعوب المهزومة ؛ ليفرض فكره وثقافته ولغته بالسيف ، وهذا مشاهد على مر التاريخ.

في الامبراطورية الرومانية القديمة

في الإمبراطورية الرومانية القديمة ، وعند انتشار المسيحية فيها ، قوبلت بالرفض الشديد ، والقهر والتعسف مع معتنقيها ، وبلغ هذا مداه في عصر الإمبراطور دقليديانوس ، وعرفت فترة حكمه في التاريخ بعصر الشهداء ؛ بسبب انتشار المذابح والقتل بين المسيحين ، وأرخوا بداية التقويم القبطي من بداية عهده ؛ تخليداً لذكرى هذه الفظائع.

وحتى مع اعتراف الإمبراطور قسطنطين بالمسيحية ديناً رسمياً للإمبراطورية ، لم تهدأ حدة الظلم إلا قليلاً ، فبدأت بعدها جولة أخرى من الصراع المذهبي بين الإمبراطورية الرومانية وكنيسة روما من جهة والمسيحيين المصريين وكنيسة الأسكندرية من جهة أخرى. واستمر الوضع هكذا والمصريون في قهر حتى الفتح الإسلامي لمصر ؛ فعندما دخل عمرو بن العاص مصر، كان البابا بنيامين ( أسقف الكنيسة المصرية ) هارباً من بطش الروم ، لاجئاً إلى دير في الصحراء ، فأمنه عمر ( رضي الله عنه ) وأعاده إلى منصبه.

في فترة مكة من السيرة النبوية

وفي فترة مكة من السيرة النبوية ، سامت قريش المسلمين سوء العذاب ، قتلتهم ، وعذبتهم ، وقاطعتهم اقتصادياً ، وجوعتهم حتى أكلوا ورق الشجر ، وطردتهم من أرضهم ، وطاردت الهاربين بدينهم من بطشهم ، كل هذا لا لشيء إلا بسبب اختلاف دينهم عن دين قريش الوثنية.

واستمر هذا الوضع مدة ثلاثة عشر عاماً هي فترة الدعوة الإسلامية في مكة ، إلى أن إذن الله تعالى للمسلمين بالهجرة إلى المدينة المنورة ، وقصة بلال بن رباح مع أمية بن خلف ، وآل ياسر مع أبي جهل وقتله لسمية زوجة ياسر ، وحصار المسلمين في شعب أبي طالب حتى أكلوا ورق الشجر جوعاً ، وغيرها وغيرها ، كل هذه القصص شاهدة على مر الزمان على أفعال مشركي مكة في حق المسلمين. (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)[سورة اﻷنفال 26]

في العصر الحديث

وفي العصر الحديث ، فعل الاستعمار في البلاد المحتلة الأفاعيل ، فرض لغته وثقافته على الشعوب المهزومة بالقوة والسيف ، ومن يرفض أو يعترض فليس له إلا القتل أو الاعتقال أو النفي. وما أفعال الاستعمار الفرنسي وتأثيره على دول المغرب العربي منا ببعيد.

في الحاضر الحالي

في حاضرنا الحالي في مجتمعنا الشرقي ، شاع بين الناس التآثر الشديد بثقافة الغرب وفكره ولغته وآدابه ، وتعمدوا تقليدهم في كل شيء تقليداً أعمى دون حكم بالعقل والمنطق ، وأهملوا تماماً ثقافتنا وفكرنا وآدابنا ولغتنا العربية العظيمة ، وصار كل ما هو غربي دليلاً على الثقافة الرفيعة وعلى العلم وعلى الرفعة والسمو ، وكل ما هو عربي دليلاً على التخلف والتأخر والجهل والرجعية. ( ولا أنكر بكلامي هذا أن العرب حقاً متخلفون ومتأخرون وفي ذيل الأمم، وأن الغرب هو من يحكم على عالمنا المعاصر ويسيطر عليه علمياً وتقنياً ). ولكن هل سبب تأخرنا نحن وتقدمهم هم نابع من تفوق لغتهم على لغتنا وثقافتهم على ثقافتنا ؟ أم السبب غير ذلك ؟

ماهو السبب وراء تراجع بعض الحضارات وتقدم بعضها الآخر؟

ارجع معي في الماضي قليلاً ، إلى أوروبا في العصور الوسطى ( عصور الظلام كما تُسمى ) ، إلى فترة انتشر فيها الطاعون وقتل ملايين البشر ، حتى كاد أن يبيد القارة بكاملها ؛ بسبب انتشار الفئران في البلاد بسبب شدة قذارة البيئة وانتشار فضلات الإنسان في كل مكان ، إلى فترة انتشر فيها الجهل والامية حتى كان ملوك وأمراء أوروبا لا يستطيعون كتابة أسمائهم ، إلى فترة ساد فيها الدجل والخرافات وانتشر في أرجاء أوروبا ، ارجع معي إلى أوروبا العظيمة ، إلى أم الحضارة ، وانظر وتعجب.

وانظر معي في نفس الفترة  الزمنية إلى الشرق ، إلى العرب الهمج المتخلفين الرجعيين ، انظر كيف سادوا العالم ، كيف بلغت حضارتهم الآفاق ، كيف كان تقدمهم في مختلف العلوم ، كيف كان فكرهم راقياً وعظيماً ، كيف انتشرت الخدمة الطبية ومكافحة الأمراض حتى وصلت الرعاية للحيوانات ، كيف كان التعليم منتشراً ، كيف انتشرت المدارس ، كيف فعلوا كذا وكذا وكذا. وياللعجب ! لقد كانوا عرباً مثلنا ،  لهم نفس لساننا ، لهم نفس أدياننا ، لهم نفس ثقافتنا. العيب ليس في اللغة ولا في الثقافة ، إنما العيب فينا ، والتخلف نابع من داخلنا.

استقيموا يرحمكم الله!

فيديو مقال ثقافة المهزوم والمنتصر

أضف تعليقك هنا