أما بعد ..

تزعجني محاولاتهم الدؤوبة التواقة للتسلط؛ إما بالتحريف أو بالتدليس. لكن الغريب أنهم لا يدركون إلى أي مدي توسعت فطريات مقدساتهم في الوهم والإيهام ومن ثم التكريس المقدس للعنف . بينما أشفق بشدة، عل الكثيرين ممن يتعاطون “فيتامين الضعفاء” كما وصفه أحد الكتّاب الأمريكيين

أتدري ..! إني استشعر الخطر محلقا فوق الرؤوس من حينٍ لآخر؛ وإني علي يقين بماهية رد فعلك حين تعلم سببه. لكن رد الفعل هذا ، ورغم كل شيء، منطقي ..! لكن الخوف من الفوضي والعنف له مايبرره -بالنسبة لي على الأقل. فهو نابع من نماذج قد تكون حية حتى اللحظة في كل ركن من أركان الكوكب، تشهد كل يومٍ على المعاناة التي يتركها “العم سام” في سعيه للتبشير بالديموقراطية الأمريكية .

“فرق الموت” في السلفادور

ففي أميريكا اللاتينية، وعن نموذج مثل السلفادور؛ تظل ذكرى “فرق الموت” حية حتى الآن؛ فقد تشكلت تلك الفرق وأبرزها فرقة “أتلا كاتل” -كحرس وطني- حين تم إرسال 15 خبيراً من أصحاب “البريهات الخضراء” -إحدى فروع القوات الخاصة الأمريكية – المتخصصين في مكافحة حرب العصابات إلى السلفادور .

فبدأت كتبية “أتلا كاتل” أعمالها بذبح ألف شخص من المدنيين تقريباً .. ويصف مدربوها أعضاءها بأنهم متوحشون تماماً، وأضافوا: كنا نجد صعوبة بالغة في إقناعهم بالاحتفاظ بالمساجين على قيد الحياة بدلاً من إحضارهم أعضاء وأجزاء.

ووصف أحد الذين فروا من أفرادها ـ وحصل على اللجوء السياسي في تكساس عام 1990 ؛ أساليب تلك الفرق :
كان على المجندين أن يقتلوا الكلاب والنسور بلي عنقها، وأن يشاهدوا التعذيب وقتل من يشتبهون في انشقاقهم بنزع أظافره وذبحه وتقطيع أوصاله ، ثم العبث واللهو بتلك الأوصال ..

ويروي القس الكاثوليكي “دانيال سانتياجو” : لا تكتفي فرق الموت بقتل المواطنين في السلفادور ـ بل تقوم بفصل أعضاء الرجال الذكورية .. ولا يكتفي “الحرس الوطني” باغتصاب النساء ، بل يقومون بتقطيع أرحامهن .. ولا يشبعهم قتل الأطفال ولكن يقومون بسلخهم على الأسلاك شائكة حتى يتساقط اللحم عن العظم .

ويتحدث القس “سانتياجو” أيضاً عن قروية عادت إلى منزلها لتجد أاطفالها الثلاثة وأختها وأمها جالسين حول المائدة ورأس كل منهم أمامه ويداه ممسوكتان برأسه المفصولة .. وعندما فشلت الفرقة في الإبقاء على رأس الطفل وعمره عام ونصف العام في مكانه ؛ قامت بتثبيت اليدين والرأس بمسامير .. ووسط المائدة تم وضع إناء كبير من البلاستيك مليء بالدم ..

هل تتشابه “فرق الموت” و المليشيات الشيعية؟

فهل تتشابه وحشية “فرق الموت” تلك ، مع المليشيات الشيعية التي ولدت في عراق ما بعد صدام ..؟ أو وحشية الجهاديين-التكفيريين وخاصة تنظيم “داعش” الإرهابي، والذي أعلن عن مولده في الأساس بمذابح جماعية وعنف، مشابه لبداية فرقة اتلا كاتل السلفادورية ، لكن في قالب “صراع مغلف بالدِّين والقداسة” وفقاً لتركيبة الشرق الأوسط ..؟

منع انتشارنظام “فيديل كاسترو” في أميريكا اللاتينية

وعن نموذج آخر ، وفي أميريكا اللاتينية أيضاً ؛ وبعد الفشل في غزو وتحطيم نظام “فيديل كاسترو” في “كوبا” حاولت واشنطن منع انتشار “الفيروس” ـ على حد تعبير هنري كسينجرـ الذي قد لا يعدي المنطقة فحسب، بل سيعدي أوروبا. فقد تدخلت الولايات المتحدة للتأثير على الانتخابات في دولة “تشيلي” في العام 1964؛ لمنع فوز الشيوعي “سلفادور الليندي”، وعملت بجدية لإقناع المحافظين بالانضمام للتحالف المسيحي الديموقراطي المعارض للماركسية .

وساهمت في تمويل حملة للديموقراطيين بمبلغ 3 مليون دولار وأدت المساعدات مفعولها وفاز المرشح الديموقراطي “إدوارد فري” في 1964 . لكن في العام 1969 ضرب جفاف شديد شيلي؛ وفقدت ثلث محصولها مما دفعها لاستيراد المواد الغذائية، وارتفعت نسبة التضخم، وأضرب العمال في مناجم النحاس مطالبين بالزيادة الموعودة. ورغم إنفاق واشنطن 8 ملايين دولار دعماً للمرشح البديل للحزب الديموقراطي المسيحي في انتخابات 1970 فاز “سلفادور الليندي” .

تقرير “جون آندرسون”

لكن ما يهمني هو تقرير قدم أمام لجنة الاستماع في مجلس الشيوخ الاميريكي في العام ١٩٧٢، يكشف فيه الصحفي الأمريكي “جون آندرسون” ، دور وكالة الاستخبارات المركزية “الـ CIA ” وشركة “ITT ” الأمريكية للتلغرافات والتليفونات؛ ضد حكومة “الليندي” .

والمثير فيه كان في الوسائل المستخدمة ومنها: الحد من تدفقات الاستثمارات المالية ل”تشيلي” وكان “الليندي” حريصاً على سداد الدوين الخارجية حتى يحتفظ بالسمعة الطيبة. وتشجيع الوكالات الأمريكية والصحف على الهجوم على حكومة “الليندي”. وعملت الشركات الأجنبية المنتفعة بالمناجم على عرقلة شحنات النحاس المجهزة للتصدير بمجرد خروجها من المناجم وحتى الموانئ لأطول وقت ممكن في دوامة بيروقراطية من الإجراءات التي لا تنتهي .

وعلي جانب آخر حرضت المعارضة الديموقراطية على التظاهر ضد “برنامج التأميم” الذي أطلقته الحكومة . بعد أن تم تأميم ماتبقى من صناعات النحاس والنسيج وقطاع البنوك. فاستمالت عمال النحاس والشاحنات -أهم صناعتين في شيلي – ودفعتهم لإضرابات مفتوحة ضد سياسات التأميم. فأدت المظاهرات الطويلة لشل الاقتصاد “التشيلي”.

فهل يتشابه نموذج “تشيلي” مع الضغوطات التي مورست علي المملكة الاردنية حين اعترضت على الموافقة على ما عرف إعلامياً ب”صفقة القرن” مؤخراً21؛ أو يتشابه مع أساليب الحصار الاقتصادي والاحتجاجات التي تصاعدت حدتها في ايران في الصيف الماضي ..؟!

رفض “نيكاراجوا”  للخضوع

وعن نموذج ثالث ؛ وفي “نيكاراجوا” ؛ التي رفضت الخضوع . ومنذ أن تأسس “الحرس الوطني” هناك في 1927 بقيادة “اناستاسيو سوموزا” الذي اعتلي سدة الحكم في 1932 . وكان حليفا استراتيجيا لواشنطن، فسمح لها باستخدام أراضي “نيكاراجوا” لغزو متمردي “جواتيمالا” عام 1954؛ وغزو “كوبا” 1961؛ وساهمت قوة صغيرة في احتلال “جمهورية الدومينيكان” 1965؛ وعرضت إرسال قوات في الحرب الكورية والفيتنامية ..

وبعد ثورة “الساندينستا” الشيوعية على حكم “سوموزا” عام في العام ١٩٧٩ ؛ وعد “رونالد ريجان” بقلب نظام نيكاراجوا الثوري . وتحدث رجاله عن “تقويض استقرار” نيكاراجوا. وحين تولى الرئاسة عام 1981 أوقف على الفور القروض لنيكاراجوا، ورفض تنفيذ صفقة قمح اتفقت عليها البلاد مع إدارة كارتر. وعلى طول حدود “الهندوراس” و”كوستاريكا” مع “نيكاراجوا” أقام مقاتلي “الحرس الوطني” -الذين اتخذوا اسم “الكونترا” لقبا جديداً لمهمتهم كثوار متمردين- قواعدهم التي سرعان ما دخلوا منها إلى اراضي “نيكاراجوا” عام ١٩٨٣ ليبدؤوا حرب عصابات طويلة .

فقد أصدرت المخابرات المركزية كتيبا لضباط “الكونترا” حددت مهامهم في اغتيالات منتقاة للمسؤولين وخاصة للمعارضين للتوقيع بين التيارات السياسية ؛ والهجوم على المدارس والمستشفيات ومخازن الطعام والمؤسسات الاقتصادية والتعاونية وزرع الألغام واستهداف البنى الأساسية للمدن .

وحتى عندما أوقف الكونجرس التمويل للكونترا، التفت الإدارة الأمريكية على القرار وستخدمت أرباح الصفقة السرية لإيران (فضيحة إيران-كونترا) والتي تمت مقابلا للمساعدة في إطلاق سراح لرهائن أمريكيين في لبنان.

فهل تجد الأمر متشابهاً في موقف الإدارات الامريكية من سوريا واعتبارها من “محور الشر” كما وصفها چورچ بوش” الأب وأسلوب حرب العصابات التي “الجيش السوري الحر” وما انشق عَنْهُ بعد انحلاله من مليشيا وفصائل لا تحصى ولعبهم دور “الثوار المتمردين” في الأزمة السورية ..!؟

نموذج دولة “بنما” 

وفي نموذج أخير ، وهو دولة “بنما”؛ وبعد مصرع الجنرال “عمر توربيجو” عام 1981؛ واعتلاء “مانويل نورييجا” رجل العصابات وتاجر المخدرات المطلوب دولياً، سدة الحكم في العام 1983. وبعد أن كان تقرير لأحدى لجان الكونجرس في العام 1983 يصف دولة “بنما” بأنها مركز لتجارة المخدرات وغسيل الأموال .

تجد أنه مايو 1986 أشاد مدير وكالة مكافحة المخدرات بسياسة “نورييجا” في مكافحة المخدرات؛ كما أشاد مرة أخرى؛ بعد عام بالتعاون الوثيق بين الولايات المتحدة وبنما في هذا المجال ..! وأوقف المدعي العام الأمريكي “أدوين ميس” تحقيقات تجريها وزارة العدل الأمريكية عن نشاطات “نورييجا” الإجرامية. وفي أغسطس 1987 عارض “إليوت إبرامز” ـ خبير شؤون أمريكا الوسطى وبنما في وزارة الخارجية ـ قرار الكونجرس الذي يدين “نورييجا”. والطريف أنه بعد تزوير الانتخابات في العام 1984 زاره وزير خارجية الولايات المتحدة آنذاك “جورج شولتز” وهنأ “بنما” بالديموقراطية الجديدة التي حققها “نورييجا”.

لكن النقطة المفصلية هي أنه وحين أبدى “نورييجا” التردد في مساعدة مليشيا “الكونترا” المعارضة لحكومة “الساندينيستا” الشيوعية في “نيكارجوا” ؛ حيث كانت “بنما” إحدى قواعد التدريب وتسليح “الكونترا”. وكذلك حين أبدى تأييده لمعاهدة “الكاونتادورا”؛ والتي أدت إلى إحلال السلام في “نيكاراجوا”، على خلاف رغبة واشنطن .

شُنت الحملات الإعلامية، وكتبت “الشعارات على الجدران” ضده، وتصاعدت معارضة البيض “الأقلية” له؛ وتم تصفية الجنرال “هيريرا” وصيفه الأمين؛ وفرضت واشنطن عقوبات دمرت اقتصاد “بنما”. ودعمت انقلابا عسكرياً فاشلا مما اضطرها لغزو “بنما” في العام ١٩٨٩؛ وأقسم الرئيس الجديد “أندريه جبيلرمو” أحد أبرز معارضي “نورييجا” اليمين الدستورية في قاعدة عسكرية أمريكية في “بنما”. وتم إعادة بناء الجيش مع الإبقاء على بارونات المخدرات كبديل عن الحرس الوطني ..!

فهل يختلف ما تم مع نورييجا مع ما يجري من ضغوطات اليوم مع “رجب طيب أردوغان” حين تناقضت مصالحه مع مصالح واشنطن. وبالتحديد، في خصوص الوفاق مع روسيا والوضع في سوريا..!؟

وعلى أية حال؛ ما أخشاه ياعزيزي وتحدث عنه الكثيرون ياعزيزي، هو أن “النَّظَّام العالمي الجديد” الذي أعلن عنه “چورچ بوش” الأب في ١٩٩١، لم يكن مجرد خطاب عابر من منتصر في الحرب سواء كانت مباشرة أو باردة بالوكالة، بل خطاب من إمبراطورية أرادت أن تُرسخ لنظام كوني سيمتد لنهاية الزمان – على حد تعبير الأميريكيين أنفسهم. والعراق كانت نموذجاً حياً للتعامل مع “الدول المارقة” عن هذا النظام بعد أن تم تدميرها بشكل تام في ٢٠٠٣م ، وما أعقبها من سنوات الحرب الأهلية التي تصاحب الملاك الأمريكي أينما حل.

*مصادر
مجموعة كتاب ؛ الإمبراطورية الأمريكية ، صفحات من الماضي والحاضر ..
روچيه جارودي ؛ الولايات المتحدة الأمريكية ، طليعة الانحطاط..

فيديو مقال أما بعد

أضف تعليقك هنا