الإنتماء الأول

الانسان عندما يكبر

تخيَّل أنكَ أصبحت شيخًا مُسِنًا، تُوُفِيَ أُمُك وأبوك، أصبحت جَدًا لكَ أولادٌ وَأحفاد، ذات يومٍ وقعتَ في مأزقٍ فظيع، حَمَلكَ على البُكاء والصراخ والعويل -رغم كِبَرِ سِنك وحكمتك- إلا أنكَ ما لبثتَ حتى فاض الكيل بمكيالين…
أنتَ لا تحتمل ما يحدث لك، قبل أن تصرُخ وتتحسّر وتتأوَّه، ستستنجِد وتطلُب العون، ستُنادي بكُلِ ما أتاك الله من قوة بأعلى نبرة من صوتك.. (أُمي…)، ستُنادي الأمان، ستنادي مَن تعلَم أنها لَن يمنعها شيء عنك، تعلَم أنها لَن تتأخر، ستسمعك ولو لَم تكُن معك.. إنها بجانبك ولو لَم تَكُن جسدًا، هي لا تُفارِقُك.

لَن تُنادي (أخي) ولا (صديقي)؛ فرغم كُلّ شيء، كُل المشاعر، كُل الحُب… لكن لأخيك حياة وزوج وربما أطفال إذا قُورِنتَ بِهِم لاختارهم رغمًا عنه، وكذا الصديق، لَن تُنادي (زوجي) ولا (حبيبي)؛ فَالزوج وإن أحب قد يخون، قد يهجر، قد يتزوجُ أُخرى وأُخرى وأُخرياتٍ إن كان ذكرًا..
وَلَن تُنادي (بُنَيّ)؛ فَمهما كَبُر وشَبَّ وَقوي سيظلُّ لك فقير حِماك، لَن تُنادي (أبي)؛ إذ أنه ليس أول مَن شعرت معه بالأمان، لَم يكُن المتاح دائمًا، كثيرًا ما انشغل بك عنك..

الأم هي الملجأ الوحيد

أما عن الأم فهيَ أولُ تجسيد للأمان شهده كوكبك الباطن وجسدك الظاهر، أولُ صِلةٍ لَكَ بالله وبالحياتين، بابُك للدُنيا وأكبُر أبوابِك للجنّة. مهما قَسَتْ الأمُ وبَعُدَتْ، ستظلُّ نبضة مِنك تَلُوذُ بذاك الغشاء النابض، ذاك الحصن الحاضن والدِرعُ الهَيّنُ اللَّيِّنُ لَك، أصلُبُ مِنَ الصُلبِ لِمَن حاول الإقترابَ مِن ساكِنه (أي أنت).. ذاك الرَحِم الرحيم هُوَ الأكثر أمانًا لكَ أبد الدهر، وإن نظرتَ لأكثرِ أوضاعِكَ رحمةً بين يدي الله -تعالى-، ستجِده وَضْعَك في رَحِم أُمِك، انظر لهذا الجنين ذو التسعة أشهر في الرَحِم، وانظر إليه ساجِدًا حين بَلَغ التسعين. انظر كيف تنامُ حين تكون خائفًا، أو تشعرُ بالبرد، أو الحنين، أو.. أو.. أو..

ستنام على جانبك الأيمن ضامًا رُكبتَيكَ إلى صدرك لتحتضنهما بِكِلا ذراعيك، أو تضم عليهما كَفَّيكَ إلى قلبك؛ لإن هذا هو الوضع ذاته الذي كنت تستغرق فيه تلك المشاعر المقدسة حيثُ الحنان والدِفئ والوطن والسلام والأمان وكل جميل؛ لهذا فإن تَكَوُّركَ كالجنين في رَحِم أمه يعطي لك شيئًا من هذه المشاعر، يَهِبُكَ أملًا وحنينًا وإيحاءًا بكل ما تفتقر إليه، هيَ روابِطٌ نفسيّةٌ مُتأصِلةٌ في النفس البشرية مُنذ أحياها الله؛ لذا سَتظَلَّ بِكُلِّ ما فيك وكل ما لَكَ نُطفَة تنبُضُ بقلبِ أُمِها وفي قلب أمِها…

مُستوحىَ مِن:

* كتاب (علاقات خطرة) لد.مُحَمَّد طه، الفصل الثامن (أنا بعشق البحر)
* مشهد مأسوي من قصة درامية وقع البطلان في مآزِق متتالية فلم يستنجد أحدهما سوى بأمه رغم موت أحداهما ومقاطعة الأخرى لإبنتها (البطلة)

فيديو مقال الإنتماء الأول

أضف تعليقك هنا