السلطان والشاه ؛ والثيران البيضاء ..

*علي سبيل التقديم ..

كان التأكيد على الهوية التركية ـ بالقبول بالقول المأثور لمصطفى كمال اتاتورك : سعيد هو ذاك الذي يصف نفسه بالتركي . والذي إرتكز في ترسيخه في جمهوريته العلمانية علي ثلاث وسائل كانت الأكثر فعالية وهي :
1)إغلاق المدارس والجميعات الدينية .
2)استبدال الرموز الشكلية للطبيعة الإسلامية أو حتي الشرقية بأخرى أوروبية مثل يوم الأحد كأجازة رسمية بدلاً من الجمعة؛ والتقويم الجريجوري بدلاً من التقويم الهجري .
3)استبدال النظام القانوني البائد بالنظام المدني السويسري .

ففي الستينيات كانت الدولة التركية قد انشغلت بأنسبائها في الغرب ؛ والذي انتهي ، علي سبيل المثال لا الحصر ، في قبرص ؛ باحتلال الجزء الشمالي من الجزيرة في العام 1974 . ولأنه لا يمكن السماح لخلق دول من شأنها أن تحطم تماسك الأناضول الإقليمي ، وبإحباط الطموحات القومية الأرمنية والكردية ؛ لم يكن من المتوقع أن يكون هؤلاء أعضاء متحمسين للدولة .

وقد حاول دستور 1961 الإلتفاف حول تلك المسألة بالقول أن كل مواطن في الدولة التركية هو تركي ؛ وصيغت تعابير ملطفة مثل “الأتراك الجبليين” ثم “المواطنين الشرقيين” للإشارة إلى الأكراد . فمن شأن تجمع الكثيرين من الأكراد في بقعة جغرافية واحدة أن يجذب الأنظار إليه باعتباره مجموعة متميزة .

وعلي العموم ؛ كان ما يبرز للوجود في تركيا هو مشكلات موارد واهمها مشكّلة المياه . وأخري تتصل بقضايا العرقية والقومية والإقليم ؛ مثل مشكلة الأكراد ، والتوازن العسكري في المنطقة ، ونمو الجيران ، وخاصة في المجال الحيوي في الجنوب والشرق – العراق وسوريا وإيران . ثم مسألة الدين والعلمانية من ناحية أخرى ، والتي حسمت لصالح الإسلام السياسي ، والذي وصل بالرئيس الحالي في نهاية المطاف ليكون رئيس “حتي الموت” ربما .

*إيران ؛ الشريك المتناقض 

وبعد اندلاع الثورة الإيرانية في 1979 كان احتمال نشوب حرب لم يقع بسبب الموقف الحكيم من الجانب التركي باعتراف بالثورة الإسلامية مع شجب احتلال طلاب إيرانيين للسفارة الأمريكية في أكتوبر 1974 ؛ والإجراء الحكيم من حكومة “سليمان ديميريل” الذي وقف حائلاً أمام طوق العزلة المفروض علي الجانب الإيراني أثناء حرب الخليج الأولى .

والأخيرة بالأخص ضمنت عدم ظهور الخلافات الكامنة بين إيران وتركيا . لأن طهران أدركت أن ستؤثر علي دول الخليج لا تركيا . ومع استمرار الحرب الأولى تاكدت تلك النظرة وظهرت أهمية تركيا كخط من خطوط التموين لإيران بعد العزلة التي فرضت عليها من قبل دول الخليج ؛ وبدلاً من أن تغامر الأخيرة وتشعل حرباً إيديولوجية أخرى رسخت لقيام روابط اقتصادية وثيقة بين دولتين متناقضتين إيديولوجياً .

وكانت إيران تدرك أهمية قضية أمن الحدود بالنسبة لتركيا لا سيما بعد انتفاضة حزب العمال الكردستاني في تلك الأثناء . ولهذا فإن “المطاردة الساخنة” للأكراد التي فعلتها اتفاقية أمنية بين العراق وتركيا في العام 1984 أثارت حفيظة إيران حيال هذا التقارب . ولكن الأراضي المغلقة القائمة في شمالي العراق من قبل المعارضة العراقية الكردية لا نظير لها في إيران .

وتاريخياً ؛ كان التراث العثماني بالنسبة للعلاقات الإيرانية التركية أكثر حدة وخبثاً . وتستند العلاقات التركية الإيرانية المعاصرة إلى تاريخ طويل من الصراع في سبيل الهيمنة الإقليمية . فالتركي والفارسي معاً يحسان بالتفوق في المنطقة ، مما يضعهما بالتالي في وضع تنافسي أكيد .
إن تراث من التفاعل العثماني الفارسي ليس سلبياً بوجه عام ؛

فأولاً الطبيعة المتوازنة للعلاقات التاريخية توفر أساساً لعلاقة معاصرة متوازنة طالما أن كل من الجانبين يأخذ بعين الإعتبار مصلحة الجانب الآخر . والنجاح في قيام الدولة العثمانية منذ القرن السادس عشر ، ونشوء الدولة لصفوية في الوقت ذاته ؛ دليل على الإستقلالية الذاتية لكلا الجانبين . ولذلك ومنذ تفكك الإمبراطورية العثمانية دخل الطرفان في علاقات وتحالفات قائمة على التلاقي الإستراتيجي ، أولهما سنة 1973 “ميثاق سعد أباد” وثانيها عام 1955 “حلف بغداد” . وخلقت ثورة 1979 تعقيداً وعلاقة أقل يسراً .

ثانياً من وجهة النظر السياسية الأكثر عملانية ، إن توازن القوي التاريخي الواسع بين الكيانين العثماني والفارسي ضمن بقاء مشاكل الحدود في حدها الأدني والواقع أن الحد العثماني الفارسي هو الأقدم في التاريخ الحديث .
إن متانة الحد التركي الإيراني يوفر الدعم لبلد ألف العلاقات الصعبة مع جاراته من كل جانب .

*العراق ؛ قلق مشترك ..

وقعت معاهدة لوزان 1923 وتم الإعتراف بحدود الجمهورية التركية ؛ بعد إمتناع حركة الضباط الجمهوريين الجمهوريين على قبول تسوية “سيفر 1920”. واستمرت المفاوضات التالية التي استمرت 9 أشهر حول “الموصل” المليئة بالنفط والتي انتهت في يونيو 1926 بخضوع الموصل للسيادة العراقية .

وربما كان العراق غير مرتاح لعضوية تركيا في الناتو ، لكنه موافق علي علمانية الدولة الكمالية . وقيام نظام أكثر تقبلاً للاتسامح في أنقرة يعتبر سلبياً في بغداد التي دأبت على التسامح مع المجتمعات غير الإسلامية في العراق .

العراق بوجه عام مطوق باليابسة , خطوطه التموينية ، حتى حيث له منفذ على البحر ، بمحاذاة الخليج ، طويلة ومعرضة للخطر . وعلى بغداد بالتالي أن تعتمد على بلدان أخر لسلامة خطوط تموينية ومواصلاتها . وتركيا بالنسبة للعراق هي الجسر البري المباشر لأوروبا ، وبديلها مكلف للغاية .

وقد تعمقت الروابط السياسية بين العراق وتركيا بفعل القلق المشترك حول الأكراد . تخلى العراق عن مساحات كبيرة من الشمال للمقاومة الكردية ، وحصر سيطرته في المناطق ذات الأهمية الإستراتيجية في الشمال “السليمانية” الكردية ، ومناطق إنتاج النفط حول كركوك ، وأنابيب النفط والطرقات الرئيسية في الشمال التي تصل العراق بتركيا .

وبقي قسم كبير من المنطقة الكردية في شمالي العراق مسرحاً محتملاً لحزب العمال الذي انتفض عام 1984 ؛ وأقر العراق بمخاوف تركيا حيال الأكراد ونجاحاتها في الجنوب الشرقي في تركيا وعلى الحدود الشمالية للعراق فأقرا الجانبين المطاردة الساخنة . وبالتالي عمدت القوات الملحة التركية إلى استخدام الإتفاقية بين حين وآخر لإبقاء حزب العمال في وضع دفاعي .

وفي أثناء مفاوضات بين جلال طالباني والحكومة العراقي عام 1984 زار وزير الخارجية التركي العراق وهدد بإغلاق خط التموين التركي ؛ وكان لأنقرة مصلحة في إبقاء الوضع كما هو عليه لكي لا تكون وحيدة حيال موقفها من الأكراد .

ولهذا ؛ وحين أثيرت التساؤلات عن مستقبل تماسك العراق عام 1985 وفي 1986 في أوج الحرب الإيرانية العراقية وكذا في العام 1990 . وفي الحالتين وقفت الحكومة التركية على الحياد تماماً خاصة في مسألة “الموصل” .

ولهذا أيضاً ؛ وبعد وقف إطلاق النار بين الجانبين العراقي والإيراني في أُغسطس ١٩٨٨ ؛ وبعد ان ركزت الدولة العراقية جهود ضبط الاضطرابات ضد الأكراد ، وفرار 60000 ألف شخص نحو الشمال ؛ وكان الحل التركي “الغير مقنع” هو السماح للأكراد باللجوء مع عدم منحهم وضع اللجئين الرسمي .

ولكن حتى تلك الحادثة لم تغير من ملامح العلاقات ؛
واضح أن تركيا والعراق خاضعان لقيود مختلفة جداً في صياغة الموقف من الخطر الكردي وهو في كل حال من الأحوال في الدولتين .

*سوريا ؛ الجارة المسلحة 

كتبت إليزابيث بيكارد : إن الحدين بين الكتلتين الشرقية والغربية .. يمتد بصورة أو بأخرى على الحدود التركية السورية . في الخمسينيات ولا يزال الترقب من الجارة المسلحة ..!

ولقد كانت عبقرية كاترينا الإمبراطورة الروسية واضعة السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط تفوق الوصف ؛ بعد أن أكدت ان روسيا يجب ان تحصل علي منافذ علي المياه الدافئة ..

ولأن العراق وسوريا ظلتا متبنيتان للعقيدة العسكرية السوفيتية ؛ كانت المليارات والمعدات والعقول السوفييتية تتدفق لتقيم جيشين ظلا من اكبر جيوش المنطقة ؛ كما فعلتها في افريقيا جنوب الصحراء وسلحت اثيوبيا في عهد الكولونيل “منجستو” ، وغيرهم .

وبالنظر للنخبة السورية ؛ كان منظري سوريا الكبير الَذِي يضم محافظات الجمهورية القائمة وبعض الاراضي التي تدعي سوريا انها تتبعها في الشّمال التركي -ومنها أضنة ؛ ولبنان وفلسطين . لكن ولأن سوريا الولاية قبل كل هذا كانت واقعة تحت الإنتداب الفرنسي فإنها لم تتمكن من منع مساومة الفرنسيين التي تنازلت بموجبها عن لواء الإسكندرونة الساحلي شمال اللاذقية ؛ وانتزاع استقلال الجمهورية اللبنانية الحالية .

وفي الحقيقة فإن الرأي الراجح ، أنه في حالة تخلي تركيا عن هاتاي “الإسكندرونة” فإنها ستعود إلى سوريا ؛ لكن مثل هذا الحدث مستبعد إلى حد كبير . فإذا ما أعيدت هاتاي إلى السيادة السورية فإن الأتراك يخشون أن يكون ذلك بداية مطالبة باستعادة منطقة اوسع . والظاهر أن الإسكندرونة لا تمثل غير رمزاً مستتراً وراءه ، على مايبدو ، مطالبة من قبل الدولة السورية بأرض تركية أوسع .

لكن دمشق كانت تستخدم أوراق عديدة في صراعها البارد مع تركيا ؛ فمنذ أوائل السبعينيات دعمت جماعات المعارضة التركية مثل الجيش السري لتحرير أرمينية ؛ والمجموعات المسلحة لحزب العمال الكردستاني . ورداً علي ذلك آوت تركيا قيادات جماعة الإخوان المسلمين السورية .

وخلال الثمانينيات أيضاً ، نشأت قضية أخرى جوهرية تفسد العلاقات الثنائية ؛ وهي قضية نهر الفرات ، فتركيا تريد، وهو حقها بموجب القانون الدولي ، أن تستخدم مقادير أكثر من مياه نهر الفرات ، في مشروعات الري والكهرباء .

وفي تموز 1987 تم توقيع بروتوكولين مع رئيس الوزراء التركي “تورجوت أوزال” ؛ ضمنت تركيا حداً أدنى 500 م3 في الثانية وتعهد بوقف الأنشطة المعادية . لكن حزب العمال إستئنف أعماله في أوائل 1988 .

وفي العموم ، وقد تندهش من كون أن الاستراتيجية الجانب السوري في الشمال تمثلت في “جعل تركيا ضعيفة ” لانتزاع التنازلات منها في الأوقات المناسبة ؛ولحين هبوب مناخ إقليمي موات لاسترداد الأراضي المستولى عليها من سوريا -من وجهة النظر السورية – في لبنان وفلسطين والأناضول .

*وختاماً ..

إن الثورة العربية الكبري قضت على زعم أن العثمانيين أن النزاع هو بين دار الإسلام ودار الحرب .

وفي اعقاب إنشاء دولة تركيا الحديثة ، كان قادتها ، كما أكد رئيسها الأسبق “جلال بايار”، بقوة : ” إننا غير مستعدين.. لإعادة إنشاء علاقة وثيقة مع أمة طعنت الأمة التركية في الظهر ..” .

لكن وبصرف النظر عن ما سبق فقد أكون محقاً حين أقول أن نبوءة “فيليب روبنس” قد تحققت حين قال أنه أياً كانت السّياسة التي تنتهجها تركيا -حيال الشرق الأوسط – على المديين القصير والمتوسط ، فإنها لن تخفف المخاوف البعيدة المدى .
وقد صدق ..!

فيديو مقال السلطان والشاه ؛ والثيران البيضاء 

 

أضف تعليقك هنا