ذكريات و وطن الممحي / قراءة في رواية مدينة الظلال البيضاء لأنور رحماني

بقلم: محمد عبد

الروائي الجزائري أنور رحماني

تعرفتُ على الروائي الجزائري أنور رحماني من خلال يومياته (يوميات جزائري فوق العادة) التي كان ينشرها على منصة مدونات عربية فأكتشفت أنه كاتب مثابر ومفكر مثقف صاحب رسالة فكرية أنسانية قيمة فشدني ذلك لقراءة روايته الاولى (مدينة الظلال البيضاء) والتي نشرت الكترونياً بسبب رفض دور النشر

يمكنني ان اعتبر هذه الرواية بانها اول نص ادبي ناجح يتعرض لموضوع المثلية الجنسية بشكل صريح في جرأة ومصداقية لم تتوفر الا في قلم المبدع أنور رحماني والذي عرفنا عنه هذه السمة التي يفتقدها كثيراً من كتابنا العرب للأسف الشديد غير أن الكاتب لا يمكن ان يعد كاتباً ناجحاً ما لم يملك قلماً جريئاً.

رواية “مدينة الظلال البيضاء”

أن (مدينة الظلال البيضاء) هي واحدة من الروايات العربية المظلومة وتكمن مظلوميتها في انها تعرضت لموضوع مثير للجدل وشخصت حالة جديدة بالنسبة للقارئ العربي، اذ عالجت قضية المثلية الجنسية او الشذوذ الجنسي في شخصية قل نظيرها وكما نعرف أن الادب العربي على امتداد تأريخه الطويل لم يغفل عن هذا الموضوع أبدا ولم يتجاهله وخصوصاً في الشعر، لكنه اي الأدب العربي لم يكن متعاطفاً معه بالشكل المطلوب وأنما تناوله من زوايا ضيقة فحسب
لقد عبر الكاتب عن افكاره بلغة شعرية عالية التقنية وهي افكار طبيعية ليس فيها شيئ غير مألوف.

اهداء الرواية

كان اهداء الرواية الى الشهيد جان سيناك (1926_ 1973) الكاتب و الشاعر والمناظل الثوري الجزائري او جان بيار كما سيكون اسمه في الرواية وهو ذو ميول مثلية الجنس كما يعرف عنه ولكن تتجسد شخصيته بحلة جديدة ابدع الكاتب في توظيفها توظيفا دقيقا ورغم اصوله الفرنسية الا أنه يشعر بنتمائه لوطنه الجزائر.

كان البطل قد شارك بالثورة التحريرية مع حبيبه المجاهد خالد الذي استشهد فيها وتركه بلوعة الأشتياق
يبدأ الراوي بمشروع نصه الواقع في (عشرة فصول ضمن 214 صفحة) من خلال منادات الى مدينته (الجي) التي تعيش بداخله، اذ يقرر محادثتها كصديق قديم له ثم ينتقل الى صيغة الجمع ليقول : (نحن الذين لا وطن لنا …) وهو تعبير يفلج القلب عندما يصّف نفسه بهذه الأقلية المحرومة من العيش والتي سلط عليها الضوء في هذه الأثناء.

لمحة عن الرواية

وبسبب رائحة الماضي الهائجة يبدأ الراوي البالغ من العمر سبعة وسبعون سنة بالتحسر على طفولته الضائعة وينتابه الحنين لعشقه الذي لامس ذكرياته واوجاعه أذ تتمثل فاجعة هذا العشق في أن حبيبه مات شهيداً للوطن، للحب. ثم يعرف نفسه للقارئ ويصف عودته لبلاده الام بعد أن كان مغترباً في فرنسا بلغة شعرية فائقة الجمال وهو يسرد ماضِِ كان هادئاً وباعثاً للطمأنينة ومن الصعب استعادته مجدداً
يلتقي بصديق طفولته (محمد) في بيته القديم والذي أصبح هو الآخر عجوزا مثله وهنا تحديدا تبدأ موجة من الأحداث المتسابقة مع الزمن من خلال تصفح ألبوم صوره يبدع الروائي أيما ابداع في سردها.

ثمة صراع داخل نفسه يخلق في الرواية جواً مشحوناً بالبؤس صراع بين الأنا وذاتها _او بين الأنا المذكر والانا الأنثى في تعبير آخر_ بين (جان) الذي يعيش في الواقع والعلن و (سارة) التي تعيش في الحلم وتكمن في داخله المكبوت عنها طيلة الزمن تلك التي لم يكتشفها ويقدر وجودها غير (خالد) ولنطالع هذا المقطع من الرواية على سبيل المثال :
“قد لا يصدقني أحد أن قلت أن سارة التي بداخلي عشقت خالد لحد الجنون، وكانت تشتاق له كأي أنثى تشتاق لزوجها القوي والصاخب
اما جان بيار الذي كان يطفو من فوقي احب خالد كأب، غادر وعاد في جسد جديد، وبين سارة وجان كنت انا لم اجد أسما جديدا لي بين تلك المفارقات الكبيرة التي أنتابت كينونتي، ولكني وجدت أنسانا حملني فوق أكتافه واحمله في قلبي …” [صفحة 123]

انتقدت الرواية من قبل البعض على ان فيها تطاولا على الذات الالهية

الا أنني ومن خلال قرائتي المتمعنة لها لم اجد فيها اي من تلك الاشياء فليس ثمة تطاول كل ما في الامر ان الراوي (في الفصل الثامن) يلتقي على البحر برجل يغني لأديث بياف شخصية غامضة نوعا ما ويصفه بالبداية بالجنون والتشرد وعلى انه شخص يدعي انه الله ويقوم بوصف هذا اللقاء بطريقة ساخرة وربما بواقعية مفرطة فقد تحدث مثل تلك الاحداث مع اي احد يلتقي بشخص مجنون وعلى سبيل المثال أذكر ان احد جيراننا كان مجنوناً فتارة يدعي انه الأمام الحسين ويدعي أنه المهدي المنتظر تارة أخرى وكنت اذا جالسته حدثني حديث تقشعر له الابدان …
أن الرواية ايضا انتقدت الثورة الجزائرية بشكل صريح وطرحت عدة تساؤلات حول ذلك اجد أن أجمل تعبير وضعه انور في النص قوله :
“يقال أن الثورة تأكل أبنائها ولكنها أكلت المهبل الذي ولدوا منه..”

يقول الكاتب هنا أيضا معبرا عن ازمة الوجود :

“غريب أن تكون بلادك بحجم قارة في حين يراها شعبها غرفة صغيرة لا تتسع سوى لجنس واحد، لفكر واحد، لدين واحد، للغة واحدة، لموت واحدة ولا حياة.”
أنصح بقراءة هذه الرواية التي تنتمي لأدب جرئ وصريح وأتمنى أن نجد نظيرا لمثل هذه النصوص .

بقلم: محمد عبد

تعرفتُ على الروائي الجزائري أنور رحماني من خلال يومياته (يوميات جزائري فوق العادة)  فأكتشفت أنه كاتب مثابر ومفكر مثقف صاحب رسالة فكرية أنسانية.

 

أضف تعليقك هنا