كيف ينهض السودان في الألفية الثالثة ؟ مفاتيح وأسرار النهضة الحديثة لدول العالم الثالث في القرن الحادي والعشرين

– (إن الدول التى تبدأ فى التنمية الاقتصادية حديثا، تبدأ من حيث انتهى الآخرون ، وهى بذلك توفر الوقت والمال والجهد ، من خلال الاستفادة من خبرات الدول المتقدمة وانجازاتها العلمية والتقنية واتباعها الخطوات نفسها التى اتخذتها هذه الدول فى المسار الصحيح) . المؤرخ الاقتصادى ألكسندر جيرتشينكرون .

– (دعهم يضحكون. لو لم نقم بهذه الجهود لأصبحت شوارعنا قذرة وشخصياتنا وقحة) لي كوان – مؤسس نهضة سنغافورة.

تأخر السودان عن الدول المتقدمة

قبل سنوات كتبت مقالات بحثية كان عنوانه لماذا (تفشل حكوماتنا) وكان محاولة لتشخيص العلة والداء في سبب تأخر السودان عن اللحاق بركب الدول المتطورة رغم أن يحمل كل مقومات النهضة والتنمية كما يعرف ويفهم كل سوداني من خلال مايكتبه المؤرخون والمثقفون السودانيون . وهذه محاولة لتتبع الطريق نفسه بوصف العلاج بعد وصف الداء وذلك بتقديم رؤية تتماشى مع بيئة السودان وتخرج أفضل ما فيه استنادا على تجارب ناجحة لعدد من الدول في العالم .

إن النهضة والتنمية لم تعد اليوم أسرارا وليست شفرات ! إنما هي (وصفات علمية دقيقة ) من يلتزم بها يحصد النجاح ومن يلتف عليها محاولاً استخدام مناهج (الترقيع ) و(الطوارئ) و عقلية ( المطافئ) دون إكتشاف سبب الحريق ومنعه فسوف يحصد الثمار فجّة ولن يجني من الحصاد غير الريح !.

وبحكم تخصصي في العلوم السياسية ودراستي للإقتصاد ومهنتي في مجال التنمية البشرية والتدريب لعقد من الزمن فقد بدأت الصورة تتضح لي تماماً عن الدواء الناجع لمشكلاتنا وليست هذه هي عصا موسى ! ولكن الأهم هل لدينا فعلاً الرغبة والإرادة لقيادة السودان لركب الدول المتقدمة ؟

 

 

(1) الإنسان هو الأساس

دعيت قبل فترة لتقديم محاضرة بعنوان ( الإستقلال : أفكار تنموية في منتدى النهضة والتواصل الحضاري بالخرطوم والحق أن العنوان الهمني بدقته حيث عانق مفهوما جديدا وطرق بابا لا يطرق حين نقاش الإستقلال الذي يحشر في زاوية النقاش السياسي المحض دون استبانة العمق الحقيقي المتمثل في الإنعتاق الإقتصادي والثقافي من هيمنة الإستعمار حتى لاتخرج جنوده وتبقى افكاره ويحكم تلاميذه كما يقال ! ولكم أعجب من مناداة بعضهم بعودته للسودان !! فذلك خطل لا شك فيه سأعود بالكتابة فيه يوما إن شاء الله .

الإنسان هو مستودع الرسالة والإبتلاء الأول وهو الذي خاطبته الكتب السماوية بالتكاليف الشرعية قياما بواجب الإستخلاف والعمارة ولن يكون هناك تقدم ولا تنمية لأي فكرة تهمل الإنسان ! إن عناصر التنمية من موارد مادية وإدارة حسنة وغيرها بدون الإنسان المتعلم المثقف الواعي لن تقدم لنا شيئا ! بل بالعكس إن توفر الموارد بيد شعوب لم تنل حظها من التعليم والوعي كان وبالا عليها حيث أكلتها المطامع والصراعات حول الثروات مثل دول حوض نهر النيل الكنغو ورواندا وبورندي وغيرها كثير فمن غير الصحيح تخيل التنمية بالموارد المادية لوحدها مهما كانت كبيرة ومتوفرة.

“تأخر السودان ” ماهو السبب وماهو العلاج ؟

ستون عاما ونيف منذ الإستقلال والسودان جرب كافة النظم والأيدلوجيات السياسية والإجتماعية ولم يخرج بشئ ! في كل حقبة تبدأ بعض الإنجازات ثم ترتد حلقة الفشل الجهنمية بأسوأ ما يكون ! فماهو السبب وماهو العلاج ؟ .إن الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ الإستقلال ركزت جهدا كبيرا لقضيتين أساسيتين هما الأمن وإدارة الهياكل الإدارية ! في بلد شاسع كالسودان تستوعبك المساحة عن من في هذه المساحة ! فالسكان ينتثرون على ملايين الكيلومترات بشكل غير منتظم ليس حول النيل مثل مصر ولكن حتى في الصحارى والغابات والجبال ستجد الشعب السوداني يعيش هناك ويتنظر من حكومته المركزية توفير لقمة العيش الكريم له !

ولكم تعجبت حين بحثت في بعض مراجع وكتب حقبة ما قبل الإستقلال فوجدت مشكلات من مثل مشكلة المياه ! (مرحّلة ) منذ أكثر من سبعة عقود ونيف حتى اليوم ! وهاهو السير جيمس روبرتسون السكرتير الإداري العام للسودان سابقا في كتابه ( السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الإستقلال يقول (  وخلافا لأغلب المراكز التي كنت قد عملت فيها كانت المشكلة الرئيسية في كردفان هي ندرة المياه رغم المجهودات الكبيرة التي بذلت لإيجاد موارد جديدة منها .

( السير جيمس روبرتسون – كتاب السودان من الحكم البريطاني المباشر إلى فجر الإستقلال ص 78 ) ! وها هو والي ولاية شمال كردفان احمد هارون يقول (إن الولاية تسعى بجدية لحل مشاكل المياه قبل حلول 2020م، وهو الموعد المحدد لنهاية مشروع (زيرو عطش)، المعلن من قبل الحكومة الاتحادية. وأكد إنشاء العديد من المشروعات الخدمية الفترة الماضية.)  ! خلال حديثه لوسائل الإعلام العام  2016  !!!!

وغني عن التعريف أن جزء مقدر من أسباب مشكلة دارفور هي ( المياه ) ! حيث يقول الكاتب د. هاشم حسين بابكر (بحكم عملي في الهيئة القومية للمياه الريفية والتي لم يتبق منها إلا ذكراها، كنت دائماً أكتب عن دور المياه في الأزمة الدارفورية وكيف أن المياه كانت العامل الأساسي في تطور القضية من مطلبية الى امنية والى سياسية حتى استعصت وفتحت الطريق أمام التدخلات الأجنبية التي لا تريد خيراً بدارفور وأهلها الطيبين الخيرين) كما ورد في موقع الراكوبة لمقال له العام 2011 .

ثروات السودان الضائعة

وإنك لتعجب وتحتار كيف بلد كالسودان تمر عليه أكثر من ستة عقود منذ الإستقلال ويقال أن فيه الالاف من العقول المثقفة المتعلمة التي بنت الخليج وكثير من الدول العربية يعجز عن حل مشكلة المياه لعدد كبير من ولاياته بل داخل العاصمة ! رغم وجود ثلاثة مصادر ثابتة للمياه هي النيل والأمطار الغزيرة التي تدمر كل عام بنيتنا التحتية ! والمياه الجوفية التي أثبتت الدراسات أنها حوض ضخم في سهول دارفور وكردفان ! إنك تتعجب وتسأل هل الحكومات في السودان تعمل فعلا ؟ ولا أريد الخوض هنا في حقيقة أن السودان منذ اتفاقية مياه حوض النيل يخسر سنوياَ أكثر من ستة مليارات متر مكعب لصالح الجارة مصر ! فتلك قصة أخرى يقف العقل مشدوها كيف حصلت ولماذا ؟.

السبب في كل هذا التفريط في حل المشكلات وإعادة انتاج الفشل ليس فقط الحكومات بل ( طبيعة الشخصية السودانية ) ! إنه الإنسان السوداني وهذه حقيقة لا يجب الهروب منها كالعادة ( للشماعة السياسية ) فقد سئمنا تجريب الرؤية السياسية بعيدا عن التنمية ويجب التوبة من هذا المنهج وبشكل نهائي لأنه أساس الخلل في التشخيص لمعضلات السودان . الشخصية السودانية وبكل ايجابياتها ينقصها الكثير من الصفات المهمة لبناء الحضارة رغم أن التاريخ يشهد لأجدادنا بعراقة الحضارة ! وذلك افتكاك آخر ابحث عن (مربط فرسه ) لليوم فلا أجده !

إن أهم الصفات التي يجب ان تتوفر للإداري الناجح تتمثل في  (الإلتزام ) و(العلمية ) و ( التطوير وحل المشكلات) هذه الصفات للأسف لم يتميز بها كثير ممن تصدى لمسؤولية حكم كثير من مناطق السودان بسبب المحاصصات السياسية التي لا ترشح بالضرورة أصحاب الكفاءة والمهنية وإنما ابناء الأعيان والعشائر والقبائل فلذلك اليوم يستخدم السودانيون ( الأندرويد ) بينما تشرب بهائمهم مع الإنسان من مكان واحد ! في كثير من مناطق دارفور وكرفان وغيرها من الحفائر ! وبعض المناطق الحضرية في قلب العاصمة والمدن تعاني من شح المياه وتلوثها والناس ينظرون ! والماء قد جعل الله منه كل شئ حي !.

هذا نموذج بسيط للفشل في إدارة مورد سببه ضعف القدرات الذهنية والإدارية للسودانيين الذين تولوا هذه المسؤولية وهذا نموذج مكبر ولكن لو ذهبت لصورة مصغرة ستجد نماذج الضعف والفشل في حل المشكلات ثقافة منتشرة حتى أصغر الوحدات الإدارية عندنا . ويهرب السودانيون دائماً للتاريخ حين تقول ذلك فيفتخرون بالخدمة المدنية التي تركتها بريطانيا ! ويراهنون أننا نملك العقول المتميزة بالخارج ! ولكن نظام الحكم في كل حقبة هو السبب ! إذن نعود لنفس الشماعة وهي النظام السياسي ! وسوف نسأل حينها من هم الذين لم يجدوا فرصة لحكم السودان وماذا قدموا !؟؟.

سلبية الثقافة السودانية

إن الثقافة السودانية في بعض جوانبها سلبية ولا تشجع العقل على النمو حيث تضخم جوانب الإلتزام الإجتماعي ضمن إطار القبيلة والعشيرة وتقزمها لصالح الوطن ! هذا غير السلوكيات البدوية المتفشية عندنا والتي يرتكبها حتى حملة أرفع الدرجات العلمية ! في سنغافورة خرج لي كوان مؤسس نهضة سنغافورة ليقول للعالم (    دعهم يضحكون. لو لم نقم بهذه الجهود لأصبحت شوارعنا قذرة وشخصياتنا وقحة) . حيث قام لي كوان  بحث الشعب السنغافوري على تعلم اللغة الإنجليزية والاجنبية وعدم إلقاء القمامة في الشوارع والتخلص من العلكة أو البصاق في الطرقات ، لذلك أصبحت سنغافورة بلد نظيفة ولامعة ،لأنه فرض بعض العقوبات المالية على من يقوم بهذه الأفعال السيئة. ولا أحتاج ان اكتب عن عشرات بل مئات السلوكيات الشخصية السالبة لنا كسودانيين فيما يخص هذا الجانب لأنه فعلا يحتاج (ثورة سلوكية ) مثل ما فعل لي كوان في سنغافورة !.

(2) مناهج التعليم ..أساس الإخفاق

لقد كان أول ما فعله لي كوان في سنغافورة هو الإهتمام بالتعليم ! وهو عين ما فعلته ماليزيا واليابان . لن نستطيع أن نقول على التعليم في السودان تاريخياً أنه غير جيد ! ذلك أن التعليم في السودان كان يمثل أفضل ما عندنا في فترات كثيرة فالسودان من اوائل الدول الأفريقية والعربية التي اهتمت بالتعليم غير أنه تراجع كثيرا مؤخرا فوصل لحالة مزرية تكاد تعصف بمستقبل السودان من ناحية الجودة والمناهج الدراسية. وبالمقارنة بالصرف الحكومي على التعليم عشية الإستقلال والذي بلغ 25% من الموازنة ! أي الربع تماماً كما اورد تيم نبلوك في كتابه القيم ( صراع السلطة والثروة في السودان ) فإن نسبة الإنفاق على التعليم لم تتجاوز 2.8 % العام 2015 ولم تزد كثيرا حتى اليوم ! وإنك لتعجب مرة أخرى كيف ننفق هذه النسبة الضئيلة على التعليم ونحن في 2018 وننفق ربع الميزانية ونحن في 1956 ! ..وهذا يشرح كل شئ !.

إن التعليم الجيد المتميز يحتاج لنفقات كبيرة فالتحدي اليوم ليس مجرد بناء المدارس والجامعات على اهميته بل التحدي اليوم ماذا تعلم ومن يعلم ؟ لقد أقامت سنغافورة مؤتمرا للتعليم الناقد أول انفصالها كدولة مستقلة وكان الهدف تأسيس مناهج مختلفة عن العالم تحفز الطالب على التفكير والاستنتاج وليس الحفظ والتلقين ! وهنا يمكن ان نفهم لماذا يتصدر الطلاب السنغافوريين اليوم مسابقات الرياضيات واليوسي ماس في العالم متفوقين على نظرائهم الامريكان واليابانيين !.

أما في دولة (غانا) في غرب افريقيا فإن نسبة الصرف على تعليم الكبار ضخمة حيث أن نسبة 5.71 من الكبار في غانا متعلمين وهي نسبة مقدرة في هذا الجزء من افريقيا لكن عدد الأميين في السودان بلغ أكثر من سبعة ملايين شخص حسب احصائيات 2015 ! وهو عدد ضخم يقارب ما نسبته 17.9 % من سكان السودان هم أميون ! أما من يحملون الشهادات الجامعية فغالبهم غير  مؤهل لسوق العمل ويفتقد لأبسط مقومات العلاقة مع اللغات الاجنبية والتكنلوجيا بل لديهم مشكلا خطيرة في الكتابة والقراءة بشكل صحيح !. إن الإعتذار بالمشكلات الأمنية عن الإهتمام بالتعليم لن يكون دليل براءة للحكومات السودانية فالمشكلات الأمنية منذ العام 1955 لاتفارق السودان ! فماهو الحل ؟!

إن بناء منظومة تعليم حديثة ومتطورة مع زيادة نفقات التعليم هو الحل الأمثل لبناء الإنسان السوداني وبدون ذلك ستخفق كل خطط التنمية والاستراتيجيات في تحقيق اهدافها.

(3) ضعف الإستقرار السياسي

السودان من أكثر البلدان تقلبا سياسيا فقد حكمت البلاد منذ الإستقلال عشرات الحكومات وتقلب السودان في ظل نظم ديمقراطية قصيرة وعسكرية ثم بيروقراطية بين عدة أنظمة وهياكل للحكم . وهذه اضرت للغاية بشخصية الدولة حيث لا تكاد تجد ملامح واضحة للدولة في السودان . إن استمرار الحكم ليس هدفا في حد ذاته بل هو وسيلة لغاية التنمية ومن هنا نعني بالإستقرار ليس ثبات منظومة حكم محددة لسنوات بقدر ما نعني ثبات الاحوال الإجتماعية والعامة بشكل يسمح للتطوير والعمل دون تقلبات وتجريب لا يصل لشئ !

إن (جرثومة الصراع السياسي) قد فتكت بالسودان وأضرت به ضررا بالغا . والساسة في السودان لايعرفون ( لغة المكاسب للجميع ) بل يعمدون لصيغ غالبها اقصائي تهميشي وتعتبر السلطة مصدراً من مصادر المكانة الإجتماعية في السودان مثل التسابق لنيل الدرجات العلمية العليا دون بذل حقيقي في البحث العلمي عند بعضهم ! وهما مشكلتان تقدحان في التكوين النفسي للشخصية السودانية كما اسلفنا فغاية المنى للكثير من الطامحين هو نيل درجة علمية رفيعة او سلطة عليا او مال وفير لينال حظوة وسط أهله ومجتمعه فيقدم ويسمع له ! وهذه سلوكيات بدوية محضة تحركها ثقافة زعيم القبيلة وابن زعيم القبيلة ! ولقد جنينا ثمارا مرة بسبب الصراع السياسي في السودان بل راح ضحيته الالاف من السودانيين في حقب مختلفة .

ورغم محاولات الحوار المتصلة هنا وهناك أحيانا إلا ان النزوع للخلاف وإقصاء الآخر وضعف ثقافة التكميل والتعايش أنتج قدرا خطيرا من الإنقسام في البلاد بحيث فقدنا جنوب السودان بكامله وتطالب مناطق أخرى اليوم سرا وعلنا بالحكم الذاتي أو الإنفصال بعد أم ملّ الناس الفشل وتكراره من النخب السياسية المختلفة دون تمييز . إن الحكم ليس غنيمة ! والسلطة ليست ثروة ولا وجاهة اجتماعية بل هي (خدمة للشعب ) و ( مسؤولية اجتماعية ) يحاسب عليه الله ثم الناس هذا مفهوم لم يرسخ في بلادنا بسبب ذيوع ثقافة تشجيع ( الفارس الجحجاح) وتقديس الكاريزما والتبعية في كل قطاعات المجتمع الدينية والإجتماعية .

ومن دون تفكيك عقلية التبعية وتقديس الأشخاص لا أمل في تخليص الشخصية السودانية من أوهام القدرة المتميزة المجردة لفلان من الناس على حل مشكلاتنا ومن ثم ابتدار الصراع لتمكين النبي المخلص هذا ! وهذه معضلة أخرى تحتاج كذلك ( ثورة في التعاقد الإجتماعي ) كتبت فحواها في مقال ( نحو عقد إجتماعي جديد بين الدولة والمجتمع في السودان ) قبل سنوات .

(4) الإدارة الرشيدة

وبمثل ما عانى السودان في السلطة السياسية عانى في إدارة الحكم فغالب الاخطاء في إدارة الشأن السياسي مردها لسؤ الإدارة لهياكل الحكم وسؤ اتخاذ القرارات ومرد ذلك لنفس العنصرين الذين ذكرناهما ( ضعف التعليم مع مشكلات الشخصية السودانية ) وعدم استقرار الانظمة السياسية ! وأعتقد هذان عاملان يكفيان لتدمير أي نموذج للإدارة ولو في أفضل بلد في عالم اليوم .

لقد فرط السودانيون في تسجيل ونقل ( السلوكيات الراشدة للإدارة ) التي ورثوها من زمن الإنجليز والتي كانوا يفتخرون بها ..والحقيقة انني ما وجدت تميزا كبيرا حتى للإدارة السودانية في ذلك الوقت لأنها تتحمل وزراً كبيراً من الذي نعانيه اليوم فقد قرأت مقالا قبل مدة أورد فيه كاتبه حامد الهاشمي أن م. دبليو. دالي و جين هوقان M.W. Daly and Jane R. Hogan في كتابهم القيم صور الإمبراطورية( Images of    Empire ) ترجمة بدرالدين حامد الهاشمي يقولان  (  تكونت صورة ذهنية عن مفتش المركز بأنه رجل قادر على أداء أي عمل يوكل إليه (Jack of all trades)، غير أن لا أحد يذكر أيضا أنه لا يجيد أي عمل معين إجادة كاملة (master of none).

بل قد يعد ذلك المفتش في بعض المناطق المتخلفة “أبا لشعبه”. ولم تكن تلك الصورة بعيدة عن الواقع كثيرا.) ! وقد انتقلت هذه الحالة ( السوبرمانية الأبوية) للإداري السوداني من المفتش الانجليزي ! فكثير من ساسة السودان أمس و اليوم ومدرائهم يظنون أنهم يفقهون كل شئ ! خاصة بعد تولي منصب رفيع ! والحقيقة أنهم (master of none) !.  ولقد دخلت عددا من المؤسسات الكبرى بالسودان كي ادرب موظفيها فيقولون لي بالحرف الواحد نهاية البرنامج : (المشكلة ليست فينا فقط يا أستاذ بل المدراء !) بل وجدت فعلا عددا كبيرا منهم لا يعرف ابجديات التخطيط ولا اتخاذ القرار لكنه لا يعترف بذلك ولا يسعى للتعلم بل يظن خبرته وسنه يكفيانه لإدارة شؤون أكبر مؤسسات الدولة وأرفع المناصب !

لكن الحقيقة أن القدرات الإدارية للسودانيين قديما كانت أفضل بكثير من اليوم , لكنه حتى هذا الأفضل لم يدون ولم يسجل بشكل علمي ولم يورث وينقل ليطور فيما بعد بالتدريب والتعليم بل مات مع أصحابه واندثر ! ومع كل نظام سياسي جديد كانت تبرز ثقافة مدنية لإدارة الدواوين الحكومية بشكل مختلف بحيث ضاعت تماما ملامح الخدمة المدنية السودانية حتى وصلت ضياع المستندات والأوراق الرسمية وانتظار المواطنين لساعات طويلة لقضاء حوائج بسيطة وإجراءات عقيمة لمباشرة أقل الإحتياجات .

إن الإدارة عنصر مهم وأساسي في عملية الإنتاج واليوم تتراجع في السودان ارقام الانتاج في المزارع والمصانع وتتدهور مؤسسات التعليم والصحة بشكل مريع وكله بسؤ الإدارة التي لا تقوم على أساس علمي واضح ولا رؤية تشبه العصر ونظرة واحدة لموضوعي ( الحوكمة ) و( الحكومة الالكترونية ) في السودان يمكن أن يجيب عن الحال والفارق بين الوعود والعمل الحقيقي لإصلاح حال الإدارة في السودان .

خاتمة :

اختم فأقول هذه محاولة (ثائرة ) لبدء علاج جديد برؤية جديدة لأزمات السودان وهي ليست حلا نهائيا ولا كاملا إنما محض اجتهاد برؤية حاولت فيها النظر بزوايا مختلفة عن الزوايا التقليدية .

أستطيع أن اجمل رؤيتي للبداية في نهضة الوطن بالتالي :

أولا: تحديث هياكل المجتمع بالتعليم الحديث المتطور والثقافة العصرية هو المفتاح الأساسي لأي عملية تنمية حقيقية ويستتبع ذلك التدريب والتأهيل بعد نهاية التعليم كشرط أساسي لخلق مورد بشري يناسب العصر .

ثانيا : إنهاء الصراع السياسي حول السلطة واستيعاب كافة مكونات الشعب السوداني دون عقلية المحاصصات بل على أساس رؤية  التكميل والمشاركة على مستويات متعددة ليس بالضرورة بينها السلطة السياسية فقط ! بل عملية إشراك بنيوية ثقافية تكون محصلتها السلام الاجتماعي والشعور بالهوية الواحدة وتنتج حب الوطن ورعاية مصالح الناس واحترام الدولة . ولن يكون هذا إلا بتأسيس نظام ديمقراطي سوداني تعددي حقيقي وقوي  يسمح للجميع بالتنافس وفق رؤية شراكة وطنية فاعلة .

ثالثا : إطلاق رؤية لتطوير الشخصية السودانية وتحديث عقليتها وذهنيتها والخروج بها من نطاق البداوة والقبلية لرحاب المواطنة الحقة والسلوك الحضري ولا يعني هذا ابدا التخلي عن الموروث الثقافي الأصيل ولا الشرع الحنيف بل استيعاب للأصالة ضمن المعاصرة بقوالب متوازنة ترسم ملامح السوداني المعاصر حقا .

رابعا : إعادة بناء رؤية الإدارة في السودان ولو بواسطة ( الهندرة ) أو إعادة البناء ! على أسس علمية حديثة واستكشاف التجارب العالمية في ذلك والإفادة من الخبرات الأجنبية في هذا المقام دون عقدة ثقافية او وطنية فالتواضع لتجارب الشعوب وآخر ما وصلت له  للغاية لإفتراع طريق جديدة .

خامسا : الإنفتاح الثقافي والفكري والاجتماعي مع الشعوب في العالم وتعزيز التداخل وعدم الخوف من الهجرة والإغتراب بالسودان مهم لإستفزاز التحدي للقدرات الوطنية ولإجتذاب أفضل المواهب والقدرات البشرية على أن يكون ذلك وفق رؤية منظمة متقدمة تهدف للإفادة من أفضل ما عند الآخرين .

ويبقى الأمل في أجيال جديدة مؤمنة بما لدى الوطن من موارد ضخمة وبما لديها من مواهب وقدرات ان تتحرك بإخلاص وإرادة وحب للسودان لتضعه في المكان الصحيح الذي يليق به وما ذلك على الله بعزيز.

فيديو مقال كيف ينهض السودان في الألفية الثالثة ؟ مفاتيح وأسرار النهضة الحديثة لدول العالم الثالث في القرن الحادي والعشرين

أضف تعليقك هنا