هل كل اليهود صهاينة ؟

من أشهر مقولات الجنرال الصيني ” سون تزو ” في كتابه ” فن الحرب ” : ” إن كنت تدرك قدراتك و قدرات خصمك فما عليك أن تخشى نتيجة المعركة ، و إن كنت تدرك قدراتك و تجهل قدرات خصمك فسوف تعاني بعد كلّ نصر من هزيمة ، أمّا إن كنت تجهل قدرات نفسك و تجهل قدرات خصمك فالهزيمة هي مصيرك المؤكّد ” .

لقد شاع الترادف بين مصطلحي اليهودية و الصهيونية في مختلف الأوساط الإعلامية و بين شتّى النخب العربية ، فلا تكاد تجد محللا سياسيا أو واعظا دينيا إلا و هو يخلط بينهما ، و سنحاول في هذا البحث كشف العلاقة بين اليهود و الصهاينة .

الصهيونية في الخطاب العربي التقليدي : 

مصطلح ” الصهيونية ” كما هو متداول يشير إلى حركة سياسية استعمارية تدعو لإقامة وطن لليهود في أرض فلسطين تأسست على يد هرتزل سنة 1897 م ، و هناك من يرى أنّ الصهيونية ليست إلا بعثا للنزعة العنصرية الحاقدة الموجودة في الدين اليهودي فهي قديمة قدم التوراة باعتبارها المصدر الأساسي للعقائد اليهودية ، و إليه يذهب المفكّر الفلسطيني اسماعيل راجي الفاروقي الذي يرى أنّ الصهيونية هي امتداد لروح العنصرية الكامنة في الخيط P – الذي ألّفه عزرا حسب نظرية المصادر – ،

فبعد الرجوع من السبي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد  وجد العائدون مدينتهم اورشليم قد دُمّرت و أملاكهم قد نُهبت و ديارهم قد سُكنت من قبل إخوانهم الفقراء الذين لم يُسبوا معهم ، فشكّل ذلك صدمة ولّدت حقدا و غضبا في نفوس المسبيين ، و انعكست على الرواية التي صوّر بها عزرا الأحداثَ التاريخية بدءًا من العقد الابراهيمي الذي نجده في التوراة عقدا ذا اتّجاه واحد ليس له أيّ تعليل بل هو العلّة الأولى لأفضلية اليهود على غيرهم من البشر ، و هذه الأفضلية أزلية لن تتغيّر مهما صدر منهم من فِعال دنيئة ، و هو ما يكرّس لنموّ العنصرية في الدين اليهودي ، يقول الفاروقي ” كونُ هذا التفضيل بلا سبب يجعل منه أساسا صالحا لبناء العنصرية ،فالعنصرية تقول أنا أفضل منك لأنّي أنا ” .

كما يصوّر هذا الخيط قتلَ موسى للقبطي على أنّه تمّ تحت سبق الإصرار و الترصّد انتقاما منه لمثيله في العرق ، بينما كان لداود الحظّ الأكبر من خيال عزرا ، فهو رجل فعل كلّ ما في وسعه من احتيال و تآمر لإرساء ملكه على أرض فلسطين تجسيدا للعقد الإبراهيمي ، و يرى الفاروقي أنّ العمل السياسي الذي قام به داود – كما وصفته التوراة – هو المكوّن الأكبر للحركة الصهيونية .

 الصهيونية ما هي إلا إفراز طبيعي لليهودية العالمية

و يؤكّد الخطاب العربي التقليدي على هذا الاستنتاج و يزيد عليه بأنّ الصهيونية ما هي إلا إفراز طبيعي لليهودية العالمية التي يسعى أتباعها لامتلاك العالم و استعباد أهله و لذلك فهم لا يترددون في استخدام كلّ أساليب الغدر و الخيانة ، يقول المؤرخ المصري أحمد شلبي ” .. كان اليهود مصدر الخيانات و المؤامرات ضد كل بلد نزلوا فيه ” .

و يظهر هذا الأسلوب الخطابي جليّا في كتاب ” المخططات التلمودية ” للمفكّر المصري أنور الجندي أحد صنّاع الوعي العربي إلذي تربو مؤلفاته عن مائتي كتاب في مختلف المجالات الثقافية ، و الصهيونية في نظر الجندي هي الواجهة الأساسية لأهداف الإيديولوجية التلمودية التي توجّه الفكر اليهودي ، منطلقُها السيطرة على فلسطين و إقامة دولة اسرائيل ثمّ الاستيلاء على العالم و إنشاء حكومة عالمية مركزها القدس ، و هي تستعمل لذلك كلّ أساليب الغزو الفكري لمحاربة الأخلاق و إشاعة الفساد

مؤامرات اليهود في التاريخ

و من أجل تنفيذ هذا المخطّط وظّف اليهود حسب الجندي دهاءهم و مكرهم و قاموا بعدّة مؤامرات في التاريخ تكلّل معظمها بالنجاح الباهر نذكر منها ما يلي :

– التسبب في حريق روما عن طريق بوبيا اليهودية زوجة الامبراطور نيرون .

– السيطرة على تجارة أروبا خلال العصور الوسطى .

– إعلان عصر التنوير و الإطاحة بسلطة الكنيسة ثمّ احتواءها عن طريق دمج العهد القديم و العهد الجديد .

– إنشاء الحركة الماسونية التي فجّرت الثورة في فرنسا ممّا أدّى إلى سقوط الملكية و قيام الجمهورية ، تبعتها بعد ذلك ثورات شعبية في كلّ من بولندا ، ألمانيا ، المجر ، رومانيا و تشيكوسلوفاكيا … ليتولّى اليهود بعدها رئاسة الحكومة في تلك البلدان .

– إنشاء الحركة الشيوعية عن طريق ماركس و تفجير الثورة البلشفية على يد لينين الذي أطاح بالقيصر .

– التخطيط للحرب الباردة بين المعسكر الشرقي و المعسكر الغربي حيث يقول عنهما المؤلّف ” هما صنوان ، مبعثُهما واحد و غايتهما واحدة و الفئة التي تقوم من وراء الستار واحدة ، أمّا اختلافهما الظاهر فهو ترتيب مؤقّت اقتضاه النجّاح حتّى إذا تحقّق النجاح كاملا اتّحدا للسيطرة على العالم ” .

– العمل على إسقاط الخلافة العثمانية بتأجيج نار الفتنة بين العرب و الترك عن طريق ” لورنس ” الصهيوني ، و ذلك اقتداءا منهم بأسلافهم فالمؤلّف يعتقد أنّ اليهود كانوا وراء الصراع القديم بين الأوس و الخزرج ، كما استطاعوا تأليب العرب و تحريضهم على غزو المدينة ( غزوة الأحزاب ) ، و دبّروا اغتيال عمر و عثمان و علي و أثاروا الخلاف بين الصحابة عن طريق عبد الله بن سبأ ممّا تسبّب في الفتنة الكبرى ، و هي حقيقة – حسب المؤلف – حاولوا التملّص منها بدفع عميلهم الكاتب طه حسين إلى التشكيك في وجود شخصية بن سبأ ، ممّا يدل على أنّ الجامعات العربية مخترقة صهيونيا .

افساد اليهود للفكر الإسلامي

كما يؤكد الجندي أنّ اليهود أفسدوا الفكر الإسلامي بإقحام الاسرائليات في كتب التفسير و الحديث ، و هم يسيطرون على وسائل الإعلام و التعليم و الثقافة .

و يختم المؤلّف كتابه بعبارة مركّزة تدلّ بوضوح على خصائص هذا النموذج التفسيري للحركة الصهيونية فيقول ” اليهود لا يسعون للسيطرة على العالم الإسلامي و حسب و إنّما للسيطرة على العالم كلّه ،و هم يجنّدون قوى منظورة و غير منظورة لتحقيق هذه الغاية ” .

و المُلاحظ في هذا الكتاب ( كتاب المخططات التلمودية ) أنّ مؤلفه أنور الجندي قد اعتمد على مصادر غربية معادية لليهود و السامية و مناصرة لنظرية المؤامرة ، أهمّها :

– ” اليهودي العالمي أكبر مشكلة في العالم ” لهنري فورد رجل الأعمال الأمريكي ، يذكر فيه كيف استطاع اليهود التسلّل إلى المنظمّات الأمريكية و السيطرة عليها .

– ” أحجار على رقعة الشطرنج ” لوليم جاي كار كاتب و ضابط في البحرية الكندية ، و عنوانه يقول كلّ شيء .

– ” حكومة العالم الخفيّة ” لشريب سبيريدوفتش ، يتكلّم عن وجود جماعة يهودية تحكم العالم بواسطة عملاءها و تطيح بكلّ من يخالفها و لها القدرة على إيصال أيّ حقير إلى هرم السلطة .

خلاصة هذا المبحث أنّ الصهيونية إن هي إلّا حركة يهودية خالصة تستمد مبادئها و مقوماتها من التوراة  و التلمود ، و عليه فإنّ كلّ يهودي ملتزم بتعاليم دينه هو بالضرورة صهيوني ، و سنقوم في المبحث الموالي باختبار هذه النتيجة لنرى مدى قدرتها على تفسير بعض الظواهر التاريخية المتعلقة بنشأة الصهيوينة .

بين هرتزل و يهود أروبا 

ثيودور هرتزل هو مؤسس الحركة الصهيونية و مؤلّف كتاب ” الدولة اليهودية ” كما هو معلوم ، يُعتبر الأب الروحي للكيان الصهيوني أو ما يُعرف بدولة اسرائيل ، فهو إذن منبع الشر و أصل العدوان و الشيطان الأكبر و غير ذلك من الأوصاف ، غير أنّنا في هذا المبحث سنضع هذه الأوصاف جانبا بشكل مؤقّت و ننتقل من الشيطنة إلى الأنسنة أي بوضع هرتزل في إطاره الإنساني الخاضع للسنن الكونية و الظروف التاريخية و الاجتماعية ، و ذلك لاستيعاب مشروعه و استكشاف نقاط قوّته و نقاط ضعفه انطلاقا من كتابه و مذكراته التي ترجمها مركز الأبحاث الفلسطيني تحت إشراف أنيس صايغ .

إذن ، هرتزل صحفي نمساوي من أصل يهودي وُلد سنة 1860م في عائلة ثرية وفّرت له شروط الحياة المريحة ، لكن يبدو أنّ عيشه الرغد لم يصرفه عن شعبه من اليهود و ما يلاقونه من اضطهاد على يد رجال الكنيسة و دعاة القومية ، فبدأ هرتزل يفكّر في خطّة تمكّنه من تخليص يهود أروبا كما فكّر في ذلك قبله بعض اليهود الأثرياء كالبارونين ” هيرش ” و ” روتشيلد ” اللذان كانا ينقلان المضطهدين إلى الأرجنتين و فلسطين لإقامة مستعمرات يهودية تسترزق من الرعي و الزراعة – تعتبر مدينة ” ريشون لتسيون ” من أقدم المستوطنات اليهودية في فلسطين ، تأسست سنة 1882م على يد مجموعة من أحباء صهيون – .

لكن هرتزل لم يكن راضيا عن هذه الطريقة العشوائية في التهجير فهي في نظره تفتح أسواقا جديدة لمعاداة السامية و تزيد من بؤس اليهود و كان يفضّل أن تتم عملية النقل بطريقة منظمة و أكثر فاعلية تحت مراقبة الرأي العام و إشراف من بعض الحكومات التي ستحصل على فوائد كبيرة جرّاء تعاونها ، فألّف كتابه ” الدولة اليهودية ” دعا فيه لإقامة دولة قومية ذات سيادة مستقلة ،

اختيار فلسطين لهجرة اليهود

و يظهر من كتابه أنّه كان مترددا في اختيار الأرض التي يقيم عليها دولته فلم يكن ذلك مهمّا عنده لكنّه عاد فاختار فلسطين لما لها من قدرة على استقطاب اليهود إن هو نجح في توظيف الخطاب الديني ، فليس من السّهل إقناع شخص بالهجرة نحو المجهول ، يقول في ذلك ” ليس هناك قوّة أو ثروة تستطيع نقل أمّة من بيئة لتستوطن بيئة أخرى ، الفكرة وحدها تستطيع ذلك ، و لقد ظلّ اليهود يحلمون ذلك الحلم الملكي و يغنّون العام القادم في أورشليم ” و هي إشادة واضحة بسحر الخطاب الديني ثم يقول متحيّرا ” المشكلة الآن أن يتحوّل هذا الحلم إلى واقع “

و حيرته هذه لها ما يبرّرها فليس من الغريب أن يجد هرتزل عقبات تحول بينه و بين غايته لكنّ الغريب أن يكون منشأ هذه العقبات من جهة يُفترض أنّها جهة صديقة ، فأغلب الذين تصدّوا لمشروعه كانوا من قومه خصوصا الأثرياء منهم و الحاخامات ، فالأثرياء – و على رأسهم روتشيلد ” – يرون في الصهيونية تهديدا لمصالحهم ، والحاخامات يرون فيها تحدّيا لإرادة ” يهوه ” الذي حكم عليهم بالشتات إلى مجيء المشيح  ، و لهذا تمّ طرده من أوّل اجتماع له مع جمعية ” أحبّاء صهيون ” لاعتراضه على الهجرة العشوائية .

إخراج اليهود من سجنهم النفسي “الذلة و المسكنة”

 أمّا الأمر الذي اعتبره هرتزل تحدّيا صعبا فهو إخراج اليهود من سجنهم النفسي أين اعتادوا الذلة و المسكنة بفعل الاضطهاد من جهة و الصدقات من جهة أخرى التي حوّلتهم إلى متسوّلين يرضون بالانحطاط و الهزيمة فنجده يقول ” إنّ أصعب معركة أجابهها هي محاربة استهزاء اليهود بأنفسهم ” و كثيرا ما كان يصفهم بالحمق و الجبن و الحقارة و يقول ” إنّي لا أقود إلا جيشا من الشحّاذين و الأطفال و الأغرار ” ليعبّر بذلك عن غضبه و حنقه لكنّه سرعان ما يتمالك نفسه فيبحث عن حلّ خارج الدوائر اليهودية إيمانا منه بقضيته – و إن كانت باطلة – حيث يقول ” أنا متأكّد من نجاح المشروع الصهيوني كتأكّدي من اثنين مع اثنين يساويان أربعة ” .

الأمر الذي جعله يتفطّن للدّور الذي يمكن أن تلعبه الحركة اللاسامية من أجل توحيد اليهود و شحن هممهم و حضّهم على الالتفاف حول الصهيونية فيقول ” اللاسامية هي ربّما عناية إلهية لأنّها تجبرنا على الإتّحاد … الكراهية المحيطة بنا هي التي تجعلنا غرباء مرّة أخرى … إنّ الحكومات التي انتُقدت بسبب العداء للسامية سوف تكون حريصة على مساعدتنا ” و باشر هرتزل أوّل اتّصال له مع القيصر الألماني ” وليم ” الثاني المعروف بعداءه لليهود قبل أن يتّصل بالبريطانيين ، كما طمع أيضا في مساندة الانجيليين الذين يريدون تعجيل نزول مسيحهم بجمع أعداءهم اليهود في صهيون .

و هذا مؤشّر صريح على منطق القوّة الذي اعتمده هرتزل في إكراه شعبه على الهجرة إلى ” أرض الميعاد ” فيقول ” إنّي مدرك تماما أنّ المنطق وحده غير كاف ، فالمساجين الذين طال عليهم العهد لا يتركون سجونهم راغبين ” ، و لهذا ربّما قال عنه أحد اليهود ( آلكسندر شارف ) ” إنّه المسيح الثاني الذي سيضرّ باليهود ” .

يمكننا من خلال هذا المبحث الخروج بثلاث نتائج رئيسية :

أنّ هرتزل لم يكن ملتزما بالعقيدة اليهودية و بعقيدة الخلاص على يد المسيح .

أنّ اللاسامية عامل فعّال في دعم الفكر الصهيوني ، و هذا ما تنبّه له أحد المفكّرين العرب فقال أنّ اليهودي الذي نطرده من بلادنا يذهب إلى فلسطين ليحمل السلاح ضدّ إخواننا ، و كأنّنا نقتل القتيل ثمّ نمشي في جنازته .

أنّ الكثير من اليهود كانوا معارضين لمشروعه الصهيوني ممّا يرفع عن الحركة الصهيونية الإجماعَ اليهودي عكس ما هو شائع ، و هذا الذي سنؤكده في المبحث الموالي .

الصهيونية عند اليهود الآرثوذكس

يقسّم المفكّر المصري عبد الوهاب المسيري اليهود حاليا إلى قسمين :

1) يهود إثنيون يهوديتُهم تكمن في أسلوب حياتهم و موروثهم الثقافي و الحضاري و هم العلمانيون و الملحدون .

2) يهود مؤمنون أو متدينون و هو ثلاثة أنواع :

أ . الإصلاحيون الذين تأثروا بحركة التنوير الأروبية في القرن الثامن عشر .

ب . المحافظون و هو المتكيّفون الذين حاولوا التوفيق بين الإصلاحيين و الآرثوذكس .

ج . الأصوليون أو الآرثوذكس و هم اليهود الحقيقيون ، يقول الدكتور المسيري ” اليهودية الآرثوذكسية هي في تصوّري اليهودية الحقيقية ، لذا تسمّى اليهودية المعيارية ( Normative Judaism ) ” و ذلك لتمسكهم و اعتقادهم بقداسة التوراة و التلمود خلافا للفرقتين السابقتين ، فما هو موقف هذه الفرقة من الصهيونية و مؤسيسها ؟

يقول الحاخام الميربرجر “

الصهيونية تسيء للدّين اليهودي كدعوة روحية عامة و تحصره في دعوة سياسية قومية ضيّقة تمارس سياسة عنصرية ضدّ العرب ، و هذه مخالفة مباشرة للقيم اليهودية ، و إقامةُ دولة اسرائلية بشكلها الصهيوني مخالفة لصورة أرض الميعاد كما تحدّثت عنها التوراة ” ، قد يبدو هذا التصريح غريبا و مشكوكا في صحته أو في نيّة صاحبه لكن الحقيقة أنهّ تصريح يعكس التوجّه المهيمن على موقف اليهودية الآرثذكسية التي تعتبر الصهيونية حركةً متمرّدة على الإرادة الالهية و لا تلتزم بالخطّة التي وضعها يهوه لشعبه المختار و لا تتقيّد بالسيناريو الذي صاغته التوراة .

و بالتالي فهي حركة مهرطقة تجعل من الدّين مطيّة لأطماعها كما يصفها أعضاء ” ناطوري كارطا ” ، و هي فرقة آرتذكسية يدعو زعيمها ” مائير هيرش ” إلى زوال اسرائيل كحلّ للقضية الفلسطينية و يؤكّد أنّ التوراة تمنع اليهود من إقامة دولة و عليهم التعايش تحت سيادة البلدان التي يعيشون في ظلّها إلى أن يأتي المسيح لتخليصهم ، و يقول الحاخام البريطاني ” آرون كوهين ” – في برنامج ” كلمة حرّة ” التي يقدّمها النائب البريطاني ” جورج غالاواي ” المعادي للكيان الصهيوني – : ” مؤسسو الصهيونية كانوا ملحدين تماما و لم يؤمنوا بأيّ شكل من أشكال الديانة” .

توسّع الهُوّة بين اليهودية و الصهيونية

و من الظواهر التي توسّع الهُوّة بين اليهودية و الصهيونية هي ظاهرة اليشوب القديم ( Old Yishuv ) التي تشير إلى المجتمع اليهودي الذي كان يعيش في فلسطين قبل بدء الهجرات الصهيونية ، و تعتبرهم منظّمة التحرير الفلسطينية جزءا من الشعب الفلسطيني حيث تنصّ المادّة السادسة من الميثاق الوطني الفلسطيني على التالي ” اليهود الذين كانوا يقيمون إقامة عادية حتى بدأ الغزوُ الصهيوني يُعتبرون فلسطنيين ” ، و من أبرز شخصيات هذه الطائفة الحاخام ” موشيه هيرش ” الذي كان مقرّبا من الزعيم الراحل ” ياسر عرفات ” .

هذا الموقف المعادي للصهيونية لا ينفرد به اليهود المتدينون بل نجده أيضا عند بعض اليهود العلمانيين ، فقد شاع مؤخرّا مصطلح ” ما بعد الصهيونية ” الذي يشير إلى مجموعة من الباحثين و المؤرخين العاملين على كشف زيف الحقوق التاريخية المزعومة ، و من أشهرهم :

– المؤرّخ ” ايلان بابيه “ صاحب كتاب ” التطهير العرقي لفلسطين ” حيث يقول ايلان متهكمّا ” معظم الاسرائليين لا يؤمنون بوجود إله لكن يؤمنون بأنّه منحهم فلسطين “.

– الأستاذ ” شلومو ساند ” صاحب كتاب ” اختراع الشعب اليهودي ” الذي يفنّد فيه دعوى الوحدة العرقية لليهود .

– الأستاذ ” اسرائيل فنكلشتاين ” رئيس قسم علم الآثار بجامعة ” تل أبيب ” ، و قد ألّف كتابا شككّ فيه في وجود أنبياء بني اسرائيل و في الدين  اليهودي عموما سمّاه ” التوراة مكشوفة على حقيقتها ” .

نخلص من هذا المبحث أنّ الصهيونية كايديولوجية تتنافى مع اليهودية المعيارية و هي بدعة و هرطقة في نظر اليهود الأصوليين ، و لا يمنع هذا من وجود بعض الحاخامات المؤيدين للمشروع الصهيوني كما هو الحال مع أعضاء جماعة ” شاص ” .

الصهيونية في تصوّر الدكتور عبد الوهّاب المسيري

يدعو المسيري الباحثين إلى تبنّي الرؤية العقلانية أثناء دراسة الظاهرة الصهيونية ” رؤية قائمة على تحليل الواقع الصهيوني بتركيبيته و تناقضاته ، و هي لا تعني الاستسلام أو التطبيع لكن تعني التعريف بالعدّو تعريفا دقيقا بعيدا عن التعريف التآمري الذي شاع بين الجميع ، و هو تعريف اختزالي كسول حوّل اليهود إلى قوّة شيطانية ” لا يمكن قهرها ، و لهذا ” يجب التفريق بين الدعاية الصهيونية و الفكر الصهيوني و منطقه الداخلي ، ذلك لأنّه يستعمل خطابا مراوغا لتمرير مفاهيمه و ترسيخها في الوجدان العربي و الغربي مثل مفهوم الحقّ التاريخي و الأمّة الواحدة و التاريخ اليهودي …” بينما الواقع يدلّ على أنّ اليهود جماعات متنوعة ، لكلّ جماعة مرجعيةٌ تستمدّها من السياق الحضاري للمجتمع الذي تعيش فيه ، فيهود أمريكا مثلا يختلفون عن يهود الصين و كذلك يهود أروبا عن يهود العرب و هكذا …

و الصهيونية عند المسيري هي صنوٌ للاسامية ، كلاهما يتّفق على النموذج القائل بوحدة الجنس اليهودي و ضرورة إخراج اليهود من أوطانهم و ترحيلهم ثمّ يختلفان في كيفية الترحيل أي هو اختلاف إجرائي فقط ، فأعداء اليهود يرون أنّ استخدام العنف من طرد و إبادة هو الحلّ الأمثل بينما يفعل الصهاينة ذلك بطريقة منظمة و ممنهجة إلى حدّ ما و إلّا فالإجراء الصهيوني لا يخلو من مضايقات لليهود ، و هذا ما يفسّر الصداقة التي كانت موجودة بين ” حاييم وايزمان ” الصهيوني و بين ” ريتشارد كروسمان ” اللاسامي ، كما يفسّر معاهدة ” العفاراه ” بين الصهاينة و النازيين .

يقول المفكّر الصهيوني ” كلاتزكين “

– كما نقل عنه المسيري – ” إنّه بدلا من إقامة جمعيات لمناهضة اللاساميين يجدر بنا إقامة جمعيات لمناهضة الراغبين في الدفاع عن حقوقنا ” ، و عليه يقول المسيري ” يجب أن يعرف العرب أنّ المواطن اليهودي – الشرقي – الذي يُضطّهد في بلاده و يضطّر للفرار منها يتحوّل إلى مستوطن في بلادنا ( فلسطين ) يحمل السلاح ضدّنا ، و ثمّة من لا يدرك أنّ من يدعو إلى إبادة اليهود لأنّهم يهود يتبنّى رؤية مادية نفعية ( علمانية لا أخلاقية ) و يتخلّى عن المرجعية النهائية الإسلامية ” فليس من الإسلام الاعتداء على المرء من أجل دينه أو من أجل عرقه .

و يقول المسيري ” نحن نحارب الصهاينة باعتبارهم محتلين مغتصبين و لو أنّ من اغتصب الأرض الفلسطينية كان مسيحيا أو بوذيا أو حتّى مسلما فسنحاربه بنفس الإصرار ” و عليه ” فإنّ الافتراض القائل بأنّ الدولة الصهيونية هي دولة يهودية يجعلنا لا ندرك طبيعتها الاستيطانية الإحلالية و أنّها دولة وظيفية تابعة للولايات المتحدّة ” فالدولة الصهيونية هي ” قاعدة سكّانية عسكرية أقيمت في منطقة استراتجية بالنسبة للغرب لتخدم مصالحه بما في ذلك الحفاظ على وضع التجزئة في العالم العربي” و هي ” تقوم على ايديولوجية عنصرية معادية لكل من العرب و اليهود ” ،

فالمسيري يرى أنّ الفكر الصهيوني شبيه بالفكر النازي

كلاهما ” ترجمة للرؤية الداروينية بعد تدويلها حيث أصبح العالم كلّه سوقا أو مسرحا للإنسان الأبيض المتفوّق الذي أباح لنفسه قتل الآخر ضمانا لبقاءه و تأكيدا لقوّته ” ، و الصهاينة جاؤوا إلى فلسطين باسم الحقوق اليهودية المطلقة التي تنفي حقوق الآخرين ممثلين للعلمانية الغربية الشاملة التي تنظر إلى العالم باعتباره مادّة استعمالية يوظّفها القويّ لحسابه ، فالإنسان العلماني حوّل نفسه إلى إله يسخّر بقيّة العالم لمصلحته ; يحتّل فلسطين فيطرد منها العرب و ينقل إليها يهود العالم .

و عن هذه العملية التحليلية يقول المفكّر فهمي هويدي ” نجح المسيري نجاحا كبيرا في تفكيك البِنية الأساسية للمشروع الصهيوني الاستيطاني و إعطائه حجمه الحقيقي من غير تهويل و لا تهوين ليبادر الإنسان العربي إلى تحمّل مسؤولياته متخلّصا من أسر الأوهام و الأساطير المحبِطة ” … و كأنّ المسيري قد تكفّل بالشقّ الأوّل من معادلة النصر التي وضعها الجنرال ” سون تزو” حيث قام بتشخيص العدّو ، و بقي من المعادلة شقّها الثاني و هو إدراك الباحث الإسلامي لقدراته و الوثوق بها .

فيديو مقال هل كل اليهود صهاينة؟

أضف تعليقك هنا