أي جميل طوقتنى به أمي

أمي ثم أما بعد ..

أتسائل دائماً كيف أخرج الله من هذه الأرض الصلبة شخصاً ليناً كأمى؟
لقد كنت يوماً فى حلمك عابراً ،وفى قلبك دُعاءاً ،وفى واقعك ممكناً ،وبين يداك مدللاً ومحفوظاً ،واتخذت من ثنايا قلبك وطناً يُحتمى به من ظلمة الدنيا وإيثار النفوس وغطرسة الأحبة وصراع النفس وهيمنة الشر بعالمنا ،فقربكِ فقط يا أمى نعمة توجت بها فى دنياى الفانية ،ونعمة تشد بها أذرى لتقودنى إلى جنة الخلد ،ونعمة استكين إليها حين تَثقل الهموم فى قلبى ،فما بالكِ بلذة حنانك الذى يشدو فوق قلوبنا المنكسرة كأنه غراء يزرع في ثقوبه زهور ال “دبل نوك أوت” فأنتِ تشبهينها كثيرا ،وحاشا لى أن أُشبهكِ بجماد ولكن كونك تعيشين فترات طويلة صلبة من معصيتى لكِ مثلها لا تحتاج للرعاية ولكن تعطى من جذورها ،من بنيانها ،لتمنح أوراقها رونق الحياة والنعيم ،لتمنحها رائحة من الجنة ،لتجعلها صلبة متصدية فى استماتة ضد تقلبات الحياة المعتادة العسرة .

عندما كُنت صغيرًا ويحوم المرض عليك فى بوادره ،كانت تهرول أمك مسرعةً إلى الطبيب ،فيسأل مما تشكو؟ فتنظر لأمك وتتركها تجيب لأنك كنت على يقين تام بأنها ستصف بالتحديد ما تشعر به أنتَ ،وعندما كنت مراهقاً طائشاً يطيح بمن حوله ،لا يعلم من الدنيا أى منها خيرها أم شرها ،كنت تعيب حياتك لأنها لم تكن كما تريد ،كنت تعصف بكلامات تخرجها من قاموسٍ من جهنم ،كلمات كانت ولا تزال جذورها تنبت كل فترة فى ذاكرة أمك الدائمة ،كنت تركض وراء ملذات دنياك وتنسي أن هناك نوراً وضاءاً ينتظرك والناس جميهم نيام ،كنت تَمعن النظر فى المستقبل القريب رغم إهمالك للغشاء الزلالى فى عمودك الفقرى .. مَن مِن هؤلاء البشر سيُلملم جراحه لتبقى أنت كما أنت ؟ فأمى لا تستطيع أن تمرض ،لا تستطيع بتاتاً أن تؤجل أمومتها ليوم آخر .

أمي رحمة من الله على هيئة بشر

أنتِ يا أمي رحمة من الله على هيئة بشر ،وقلبك جناح يكنف قلوبنا ووجداننا المتناثر دوماً ،فمهما وجدت الأعاصير يعود كما هو ليناً لطيفاً ،يُجرح ولا يَجرح ،يَضعف ليصلب بُنيانُنا ،ففى أوقات ثورانك يشبه نفحات من لهيب لا يهدأ وتشتد به نيران الغضب ليعود كما لو لم يكن شيئاً قد كان ،أما فى أوقات ذُعرك نسمات العليل الهادئة التى لا تنم عن قيام أى عاصفة لن تهدأ إلا حينما أسكن قُربَ فؤادها ،أما حينما يبتهج قلبك يشبه كمَن دخل جنة الفردوس بعدما أنعم الله عليه بنطق الشهادتين من بعد كفره ومات بعد دقائق معدودة من ذلك .
أنتِ فقط يا أمى التى لن تتغير أبداً ولن تبدلها الحياة ولو طال بها آثار ألم مخالب الزمان .

الفرق بين امى والآخرين ،هو عند إعطاك سهماً للآخرين يوماً ما ستثير ثورة الحقد والغضب فى موقف عسير قد مر بينكم فانتهز الشيطان فرصة التخلل بين محبتكم وبذلك يطعنك به فى ظهرك ،أما عندما أعطى سهماً لأمى فإنها تنزع حدة رأسه ثم تتهاوش مداعبة لى بهذه العصا الصماء .

الفرق بين امى والاحباب ،كما الفرق بين السماء والأرض ،فهى تتمنى أن تتكبل بقيود أحزانى ،بينما هم يتمنون ألا يرونى بلا أحزان ،تتمنى أن تحمل عنى وخزات الأيام ،بينما يتمنون أن أبتسم مع كل وخزة رغم ألمها ،ترضي بأن يصيبها ويلة من ويلات القدر بدلاً منى ،بينما يُكثرون بالكلام لكى أنضج ولا أظهر ضعفى .
حقاً، لا أدرى أى فطرة وضعها الله للأم لتكون بهذه الحكمة والحنان واللطف الممتزج بقلب مذعور والعقل والحمق أيضاً لكى تحب كل هذا فى آنٍ واحد ! وتظل بنفس الحماس لتصنعه كل يوم من حياتها بدون كلل أو ملل ،لا أدرى أى فطرة دفعها الله بداخل الأم لكى تحب مخلوق مزعج وتتمنى شعورها بهذا الشعور الذى يَخلفه قبلةً من هذا المخلوق الذى لا يتغذى إلا عليها ومنها وبها .

سلاماً لأم التى أحنت لفلذات كبدها بكل ودٍ لتستقم قامتنا ،سلاماً لأمى التى بقيت واستكثرت على نفسها الجهل لتصنع منا أشخاصاً ذات علم ،سلاماً لأم باتت وأحشائها تتلوى من شدة الجوع لتطعمنا ،سلاماً لأم هضمت كلامنا المسموم حين تعصف بنا الحياة فى أروقة الماضى ،سلاماً عليكِ يا أولى الأوطان وآخر المنافى ،سلاماً لأم سكبت شبابها من أجل أن ينمو شبابى ،سلاماً لأم استوصى بها ربى فى كتابه العزيز : *وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا*
أؤمن بأنكِ الملاذ الآمن والوطن الممتد الذى يتسع لروحى حين تضيق بها الأمكنة !

فيديو مقال أي جميل طوقتنى به أمي

أضف تعليقك هنا