التفكير في المُشبّكين: أو فضح المجهول محرك الجماهير

سرعة التطور والتكنولوجيا

شهدت الإنسانية في بداية الألفية، قفزة نوعية في التقنية،لدرجة باتت فيه التكنولوجيا سريعة التطور مقارنة بالفكر الإنساني المخرجة منه،ما جعل الآلة الذكية تسيطر على مختلف نواحي الحياة،وتتداخل مع كل صغيرة وكبيرة للفعل الإنساني،هذا التمازج المتواتر،شكل بنى رمزية متعددة داخل أطر الذات والجماعة،قدمت لنا فضاءا موازيا،عالم تحكمه سلطة لامرئية، تسير هذه التجاذبات، ألا وهي “سلطة الاتصال”.

ولعل أبرز الفضاءات التي تتجلى فيها هذه الهالة، هي مواقع التواصل الإجتماعي، وبالتحديد شبكات التواصل الاجتماعي،لاعتبارها أبرز تمثيل للحياة الواقعية في شكلها الرقمي،أين نستطيع أن نفتتح أواصر التلاقي في الحضور والغياب، بترابط لا مرئي حسب تعبير “تيري بروتون”.ما يسهم في طرح الذات و استجلائها على المنصات الرقمية، بفضل ما تقدمه من ميكانيزمات تفاعلية، تسمح للمستخدم ”بالإندغام” مع الفضاء الرمزي بطريقة سلسة. وهو ما أكده “مارك زوكر بورغ” في كلمة ألقاها في احدى خطبه، جاء في متنها : (إن هدفنا هو المساعدة على تسريع و تيرة إعادة التوصيل rewiring )، فهو يشير هنا إلى نمط جديد من الوجود، فكلمة إعادة التوصيل في معناها الأصلي تعني إلحاق الإنسان بالآلة، أي دمج المتواصلين بالعالم الافتراضي.

الفضاء السيبيري والفضاء العمومي

فهذه العلاقة المتداخلة بين الفضاء السيبيري cyberspace و الفضاء العمومي public sphère، أين نجد كل موجود واقعي مادي أو معنوي كان، له نسخة وصبغة الكترونية تعبر عن مكنونه في المصفوفة الرقمية،أفضت إلى بروز تجاذبات وتفاعلات مع انساق اجتماعية و ثقافية وسيكولوجيه، فبعد أن كنا نصطلح على تعريف الجماعة، بتنا على مفهوم الجماعة السيبرانية، و بعد أن كنا نتفق على حدية المكان، صرنا في فسحة العولمة وهكذا دواليك…، وهو ما أكده العالم الكندي “مارشال ماكلوهانر Marshall Macluhan” في بداية الستينيات، عندما أطلق نظريته الشهيرة المسماة “الحتمية التكنولوجية للمجتمعات”، بمعنى تحول العالم إلى قرية صغيرة، جراء طغيان التكنولوجية على الحياة العامة للإنسان، وصولا إلى عصر الغرف الشفافة، أين يستطيع كل فرد تصفح كنه الآخر، بمجرد النقر على صفحته الشخصية في شبكات التواصل الاجتماعي، ليكشف عن أفكاره، ويستقي ماهيته الرقمية كمنطلق في بناء العلاقة الافتراضية، ضمن سياق تفاعلية تبادل الأدوار، عند قطبي العملية الاتصالية (المرسل والمتلقي).

بيد أن هذا التيار الاتصالي، لا يمر جزافا عبر أسلاك المنصات الرقمية، إلا وقد ترك شحناته في شرايين الذات، تنساب لتصعق الجماعة، ومنه تضيء فوانيس الفضاء العمومي،استنادا من محطة توليد “افتراضواقيعة”،تنتج طاقة تواصلية من مادتها الخام، التقاء البشر!.
و هو ما تؤكده “شيري توركل” في كتابها الحياة على الشاشة قائلة ” أن الحواسيب لا تغير حياتنا فقط بل تغير ذواتنا أيضا”.انطلاقا من نظرة متجاوزة لأطر الدولة الوطنية والقطرية و فكرة الأمة،يروم الفضاء الرمزي إلى تشكيل نسق تضامني وظيفي،لا يعبأ بالفصل بين ما هو افتراضي و ما هو واقعي، وإنما يحمع بينهما في مسمى الواقع الافتراضي (la virtualité réelle)، ككيان يحرك فيه حساء البشرية على نار العولمة الهادئة، في خليط يجمع بين رمزية وذكاء الآلة وقيمية الفرد في شكل ملتحم.

تشكل الذات على مقاس الآلة الذكية

فتشكل الذات على مقاس الآلة الذكية، أدى إلى بروز مفاهيم جديدة في العلاقات العاطفية، مثل “الحب النائي” و”الأسرة المعولمة” ، أي الحب عن بعد و الأسرة المختلطة من عدة أجناس و أعراق و ثقافات، نتيجة التقارب بين الحواضر، وتحول العالم إلى قرية صغيرة، جراء اكتساح التقنية للكينونة البشرية عبر الثورة الشبكية. حيث تتمظهر الحالات الشعورية الرقمية، متوارية عبر الشاشة، و مكشرة عن غضبها أو معلنة عن فرحها سعادتها أو تعاستها ; لوحة المفاتيح كأداة للكتابة والتعبير، والفأرة كأداة للنقر على ما يوافق الحالة الشعورية للمستخدم و ما يخالفها، وهو ما تشير إليه Cairncross-كايرن كروس في دراستها عن موت المسافات، إلى أن الانترنت قد غيرت معادلة الاتصال الإنساني تماما، فالأبعاد التي تتميز بها العلاقات لاجتماعية عبر الانترنت، تختلف تماما عن نظيرتها الواقعية.

هذا من الناحية الفردية، أما من الناحية الجماعية، و في ظل نظام عالمي موحد تسوقه الأفكار الأمريكية، تحت مسمى العولمة، تتمظهر الصياغات الثقافية الكونية الحاملة لعدة قيم ومعايير، والمؤطرة لحركة مختلف الشعوب، بإنتاج إيديولوجيا موحدة ترسم مكنون الناسوت، عبر الاختراق الثقافي و تعليب الوعي وسلعنة الأفكار، بما يوافق نظام السوق العالمي ، كأداة قوية للتسويق الثقافي، تتناول الظواهر وتحدد السلوك و منه تصيغ الاختيارات، تماشيا والسياق الموجه من قبل الحضارة المسيطرة.

و هو المجسد في الحروب الرقمية الافتراضية، بين الجماعات السيبرانية. فعند كل أزمة عابرة، نجد خطاب الضدية يظهر للعيان، ويتجلى من خلال منشورات المشبكين، وفق منظورات وتصورات تعاندية، تنبثق من خلال الصراع المحتدم بين الجموع،ما يخلق بؤر توتر إيديولوجية ضمن سياق علائقي، يطفح “بالهم والنحن”.

هذا الحراك التفاعلي في عالمين يتوسعان باستمرار، يعمل على صب الثقافة و السلوك الاجتماعي، ومن ثم الهويات،في مجرى التدفقات السريعة، أو ما يطلق عليه “مانويل كاستلز” بالثقافة الافتراضية الواقعية، على اعتبار أن الواقع متمفصل بتمثلات الافتراض،ما يقود إلى إنتاج و استهلاك الإشارات والرموز، في طبق اتصالي ذاتي جماهيري على شهقة واحدة، له القدرة الكاملة للوصول إلى شريحة كبيرة من المشبكين،فهو جماهيري من حيث الانتشار، وذاتي من حيث الفعل المبرم، نظرا لإشتراك كل صيغ الاتصال في النص رقمي; له روابط، متفاعل ومركب،يحتوي ويمزج و يعيد الربط، بين طائفة كاملة من التعبيرات الثقافية والتنظيمات الاجتماعية.

اسقاط الذات لصالح الأداة

فهذا الحضور المشتت،جعل الذات شديدة السيولة و التعدد، إلى درجة تحولها إلى مفردة فضفاضة،فبعد أن كانت ثابتة و فردية و موثوقية، باتت متعدد وقابلة للاصطناع مرارا وتكرارا، و منه جرى إسقاط مركزية الذات لصالح الأداة،كحامل مادي للأنساق المعرفية والفكرية ، فالتصرفات لم تعط بعدا فقط للجانب الشكلاني بين الأفراد، بل ولجت إلى أغوار الذات و غياهب الماهية ، وأعادت تحوير كنه الإنسان، بما يتوافق و السياق العام للفضاء الرمزي،بكل ما يحويه من آنية و انفعالية ، فتلك الرموز والبيانات على عدتها، لا تخاطب المستخدم كشخص حيوي يستعمل آلة جامدة، بل الفعل يتشكل هنا بنظرة إنقلابية، فالآلة باتت عنصر إنسي له روافد إنسية، بينما تحول المشبك إلى “إنسوب” ذو أفعال آلية، مثل الكبس و التحديث وما جاور ذاك.

هذا الانصهار بين الفرد ككينونة خارج الإطار الرقمي، و المستخدم كبنية متداخلة مع المنصة الرقمية، فضلا على السياق و ما يفرضه من رمزيات و دلالات داخل المجتمع الشبكي، مع دور “رجال الزر”، أي أهل الربط والحل، من يحوزون سلطة القرار في الفضاء الافتراضي، كملاك الشركات، و قادة الرأي المؤترين والموجهين للعامة في مواقع التواصل الاجتماعي ، لهم اليد خفية في حوكمة الذات وسوق الجماعة، ومنه تشكيل الهوية الهجينة،عند أفراد يعيشون الواقع المادي ويعايشون الواقع الرمزي.

ولعل أفضل خاتمة هو تنبؤ عالم المستقبليات “رتشارد فالك”، بالعالم الإفتراضي اللامحدود ، في بيان نشره بعنوان “استقلال الفضاء السيبرنتيقي” جاء فيه : “يا حكومات العالم المصنع ، أيها العمالقة المنهكون ، المصنوعون من اللحم والصلب ، إني قادم من الفضاء السيبراني ، المسكن الجديد للروح ..، نحن لا نرحب بكم فأنت لستم سادة في هذا الفضاء الذي يجمعنا ..،إن مفاهيمكم القانونية ، مفاهيم الملكية والهوية والحركة والسياق ، لا تنطق علينا لأنها مبينة على المادة ، وهنا لا وجود للمادة”.

فيديو مقال التفكير في المُشبّكين: أو فضح المجهول محرك الجماهير

أضف تعليقك هنا