شرٌ أم أُنثى حَنون.. مَن هي “غصون”؟

“غيابك مؤلم أعلم، لكن غيابي مُدمّر وسـتعلم.!” جملة تخترق القلوب كشبيهاتها مما كتَب رمز الحب في عالمنا العربي؛ (نزار قباني).. القصد منها هو اعتزاز الشخص بمكانته حين يُكتب الفراق بين مُحبَين؛ سـأتألّم من بُعدك، لكنك ستتدمر في بُعدي.. هذه المقولة قابلة للتأويل؛ لعل الدمار لن يحل بـعاطفتك فقط ، ربما يكتسح ذاك الخراب حياتك بـأكملها، قد أُفسد كل معالم السعادة التي قد تعيشها مستقبلًا مع شخصٍ غيري، أو كل ما سلف، أو أعظم.!

يتوهم الإنسان بقوته، يعتز ببسالته ومدى تحمّله لآلام الحياة أيًا كانت ماهيتها وأيًا كانت أسبابها، لكنه فعلًا واهم.. فكما أن أوهن البيوت بيت العنكبوت، فإن أضعف مخلوقات الله هو الإنسان.. غروره ضعف، غيرته ضعف، انتقامه ضعف، حقده ضعف، وحتى قسوته ضعف.. جميعنا نفكّر بذات الشخصية الآن، كلنا نعلم من قامت بتحويل تلك الكلمات لأفعال يندى لها الجبين، وكل من يقرأ يعلم إلى مَن ستؤول الحكاية.. وهل يوجد ناشط في الساحة الفنيّة الآن مَن يستحق الكتابة عنه سواها.؟ (هدى حسين) تنتصر مُجددًا يا سادة.!

عظمة “هدى حسين” في مسلسل “غصون في الوحل”

قد لا يكون “غصون في الوحل” أفضل مسلسلات (هدى) في الفترة الأخيرة كحبكة درامية، مهارات إخراجية، قدرات إنتاجية، أو حتى على مستوى سَير الأحداث بالذات في النصف الأول من المسلسل.. لكنه بالتأكيد أحد أفضل الأدوار التي أتقنَتها وأصابَت في اختيارها لـ “غصون” حتى تُقدّمها للعالم بالصورة الملائمة بكل أطوارها وتقلّباتها النفسية والسلوكية .. “غصون” لم تكن وحدها العالقة في الوحل، لكنها كانت الأبرز لشرّها البادي على مُحياها وتصرفاتها التي تخلو من أدنى مراعاة لمشاعر مَن تُحاكيه .. “بدرية” غاصت في عدة مستنقعات لكنها لم تُحاسَب، “فهد” كان لعوبًا ولم يُحاكَم ، “ناصر” كان أنانيًا ولم يُنتَقد، أبناء “شريفة” تنافسوا في العقوق، وغيرهم الكثير من شخصيات المسلسل تتابعوا على الأخطاء الشنيعة والتي تصل لحد الشر .. لكن مجرّد أن اعتذروا، سقطَ الذنب.!

ما الموضوعات التي تناولها مسلسل غصون في الوحل؟ 

“غصون في الوحل” بيّن بعض شرائح المجتمع السطحيّة التعيسة، تلك التي تعيش على التزوير؛ تزوير الحياة، المشاعر، وحتى الحقائق .. “بدرية” التي كانت تُهدي نفسها باقات عملاقة من الورود لتتباهى بحب زوجها لها أمام مرأى العيان، وهي ذاتها التي قتلت طفولة أبنائها حين أدخلتهم في سطحيتها والتلاعب بالصور لتُبيّن أنها “ماجلان” الذي دار الأرض لتُخفي الأسى الذي تعيشه مع زوج أكبر همومه “لعبة ورق مع الربع في الديوانية” .. لماذا تعلم ابنة الخمسة عشر عامًا أن أمها وأباها ارتبطا ببعضهما قسرًا.؟ لماذا سخرت “عذاري” من أبيها حين توهّمت “غصون” أنه وراء كل الهدايا ورحلات السفر.؟ “بدرية” غاصت في ذات مُستنقع الوحل مع “غصون” لكن باختلاف الأسباب، الطُرق، والنتائج.

شريحة أخرى من المجتمع تم استعراضها عن طريق أبناء “شريفة”، أولئك الذين تستحي الأعذار من أعذارهم، والذين تبرأ الحُجج من أفعالهم.. أولئك الذين لم تُثنهم مشاغل الحياة، كثرة المسؤوليات، وقلة الوقت والحيلة التي كانت تحول بينهم وبين زيارة والديهم عن تقسيم تَرِكَةَ أبيهم بعد مماته بأيام يسيرة لتتحول أمهم لسائلة ترجو الرحمة والاحترام من فلذات أكبادها ومَن اختارهم القدر ليشاركوهم حياتهم.

أحد أنواع الشرور التي لم تأخذ حقها من الحديث هو  “باسم” .. الدكتور الذي ساهم من جهة في مساعدة “ابتسام” للتخلص من عقدة الخوف من مظهرها بعد ما فعلته بها “غصون”، والذي كان له الدور الرئيسي في استرجاعها لثقتها بعد أن دعاها لحضور محاضرات لأمه -الدكتورة أيضًا- حتى ينتشل “ابتسام” من الوحل .. ومن جهة أخرى، ظهر الوجه الآخر للقمر .. حين استغل مهنته الشريفة لأخذ الثأر من “غصون” .. عدة خروقات قام بها “باسم”، لكنه -في نظر الكثيرين- على حق.!

كيف برزت شخصية “غصون” في مسلسل غصون في الوحل؟ 

“ربما لم يرغبْ المرء في الحب بقدر رغبته في أن يفهمه أحد “اقتباس آخر من الإقتباسات التي توارثها العالم عن (نزار) والتي بدورها تقودنا  لنتساءل: هل هناك من فَهِمَ “غصون”.؟ الإجابة نعم لكن ليست أمها، بل “روان” فهي الوحيدة من بين شخصيات المسلسل التي سَلِمَت من شر “غصون” ما عدا بعض الإسقاطات .. ومن هنا يتبادر سؤال آخر: مَن هي “غصون”.؟

“غصون” هي طفلة تعرّضت لأسوأ أنواع العنف من أقرب الناس إليها، طفلة كان يخافها أبناء جيلها، طفلة بلا أصدقاء، طفلة استَنقصَت منها أمها أمام الملأ وتتذمر من بعثرة شعرها وملامح وجهها .. كبرَت تلك الطفلة لتصبح من الناجحين في مراحلها الدراسية رغمًا عن كل ما يحيط بها من بيئة سلبية، فكان الجزاء هو تحقير ذاك النجاح الدراسي لأجل نجاح أخيها الرياضي .. وحتى بعد وفاة “راشد” لم تسلم “غصون” من لسعات أمها بين الحين والآخر على الرغم من برّها بها ورعايتها لها حتى في أسوأ أحوالها الصحية والنفسية.. رغم قسوتها، لم تنهر “غصون” أمها يومًا، لم تصرخ في وجهها، ولم تُبادلها السباب والشتائم .. بل على النقيض التام كانت ترعاها حين انتكست بمرض السُكري، كانت تتحمل إهاناتها، حملت على ظهرها ديونًا لا تحتملها .. كل هذا طبيعي، فليس للأبناء على والديهما مِنّة، لكنه الجانب المُغيّب من “غصون” حيث أن الحديث كله عن مظهرها العث ومكائدها المنبثقة من حقد على ما صادفها من مخادعين وكاذبين .. دخلت “غصون” في نهاية المطاف للمصحة النفسية، لكن ماذا عن البقية.؟

عَظَمَة (هدى حسين) لا تكمن في تجسيدها للأدوار بإتقان واحترافية فقط .. بل في قدرتها على جعلنا نمتدح الطرف السيء من القصة ونُبرر له أفعاله .. هي فقط مَن تستطيع تمثيل أدوار مُركبّة، ففي مشاهد نرى قسوة “غصون” ونشمئز، فيتبعه مشهد لها تتأثر بمشهد في فيلم حدّ البكاء فنتعاطف معها .. (هدى) ذاتها لم تعرف حقيقة مشاعرها تجاه “غصون”، ولكن أراني أميل -رُغمَ شرّها- لها ، فهي الوحيدة التي لم تختبئ، لم تنافق، ولم تكذب عن ماضيها وحقيقتها.. “غصون” رغم جسارتها، دافئة من الداخل .. لكن لم تجد من يفهمها.!

أضف تعليقك هنا