لم يُحبنا العالم يا أمي!

بقلم: آمنة عبدالكريم

 كاتبة وباحثة أكاديمية

قالت ريحانة جباري، في رسالتها المُوجعة التي كتبتها لوالدتها قبل إعدامها شنقًا عام 2014، جُملة لا تُفارق رأسي أبدًا.. ولعلها من أقسى ما قرأتُ في حياتي كلها، فلقد دَوت في رأسي كانفجارٍ كبيرٍ حين قرأتها للمرة الأولى: “إنَّ البلد التي زرعتي فيَّ حبها.. لم تكن تُبادلني الحبّ! لم يحبنا العالم يا أمي؛ ولم يتركني لقدري.. أنا أستسلم الآن وأقابل الموت بصدرٍ رحب!!”.

هكذا إذن ببساطة.. تقتلنا كل الأشياء التي نُحبها بصدق! وببساطة جدًا يتحول العمر إلى وقتٍ ضائعٍ حين نكتشفُ أن ما غرسناه في ضمائرنا يكافئنا بالنكران.. وهكذا ببساطة كذلك نختارُ الموت حين تلفظنا الأشياء التي كانت تضمنا وحين يتقيأ وجودنا المكان الرحب… وتأتي رصاصة الرحمةِ على هيئة سؤالٍ يُحاول استدراك العمر: (يا تُرى هل لنا من كرَّة فنُعيد ترتيب الأشياء من الصفر؟ منذ “من أنا؟ ومن أنت؟”).

حين تُنكرنا بلادنا نشعر بأننا فقاعة بلا وزن ولا كثافة ولا لون تطير إلى اللاوجهة، هل ثَمَّ شيء أسوأ من أن يُكتب لك أن تنتمي إلى بلد وأن تعيش مُغتربًا في بلدٍ آخر؟ ثم تُدرك مع الوقت أنك أصبحت منسيًا في الأول وغير مرغوب بك في الثاني، وأنك، المنسي، تُشكل خطرًا أمنيًا على بلد، وعدوٌ اقتصادي لبلد، وحليفٌ استراتيجي لبلد وأنك، في ذات البلد المنفي عنه المنسي فيه، منقسم مناطقيًا وطائفيًا وعرقيًا!! نحن جيلٌ بِتنا نُوَرَّثُ هذا الشَتاتَ بالولادة.. تتكهن من آلامنا بلادنا.. ومن انكساراتنا دروب غربتنا.. املأ خانة البلاد بما شئت واحصل على إرث الوجع مجانًا.. وادفع ضريبتها مدى الحياة عند كل مفترق طريق!

وبالعودة إلى جُملة ريحانة جباري، التي اختار لها وطنها الموت شنقًا، تمامًا كما تَختارُ لنا أوطاننا آلامنا.. بِي رغبة لأن أقول جُملتها هذهِ إلى كل البلاد التي وَسَّعت رُقعة الألم في جَسَدِ أوجاعنا حين لم تُبادلنا الحُب.. وحين لم تغرس الأمل في عيوننا.. بي رغبة لأن أقولها لكل البلاد، بلا استثناء، ابتداءً بوطني وانتهاء بأوطانٍ اتخذها الأملُ فينا بلادًا بديلة.. فكثفت الغُربة في أرواحنا حين أبعدتنا عنا وعنها.. بي رغبة لأن أقولها لكل من أحالني آخرًا هُلاميًا وكُنتُ أظنني جُزءًا عزيزًا من كلٍ.. في جسدٍ أكبر بكثير من استيعاب أدوات التشريح (أنا وأنت!).

إنني ومن فرط اغترابي بِتُ أرى في حياتي جدارًا عظيمًا يحول بيني وبين الأشياء، بيني وبين أحلامي وأفكاري وحتى حواسي! جدارًا أجدني أكثر هشاشة من أن أخوض معه حرب اكتشاف حتى، لكن من محاسن الجدار أنه بات يعصمني من الوهم، فبت أتجنبه كلما تذكرت أنني على بُعد فكرةٍ من الارتطام به. ومن محاسن الجدار كذلك أنني بت أتخذه كتفًا اتكئ عليها حين يطول انتظاري في محطات الاحتمالات المفتوحة، وأتخذه كذلك لوحة أرسم عليها ملامحي كلما ضيعتها في بلاد تتقاذفني، تُضفي عليَّ ألوانها، ثم تتركني شبحًا بلا لون! … من قال أنني أريد أن أتجاوز هذا الجدار يا أمي؟؟ إن العالم خلفه لا يُحبنا.. لا يُحبنا يا أمي!

بقلم: آمنة عبدالكريم

 كاتبة وباحثة أكاديمية

هكذا إذن ببساطة.. تقتلنا كل الأشياء التي نُحبها بصدق! وببساطة جدًا يتحول العمر إلى وقتٍ ضائعٍ حين نكتشفُ أن ما غرسناه في ضمائرنا يكافئنا بالنكران.

 

أضف تعليقك هنا