أشباه الأرستقراط

تجسيدات السينما المصرية للطبقية قبل الثورة وبعد الانفتاح الاقتصادي في الثمانينيات

في ختام العقد السابع (١٩٧٨تحديدا) وبداية عهد الثمانينيات طفقت تتسع الفجوة الطبقية لتولد طبقة اجتماعية جديدة لم يُر مثلها في البلاد قبل ذاك الحين ومذ قيام الجمهورية الاشتراكية التي أسقطت أسس الأرستقراطية الموروثة في المجتمعات الملكية الخربة– وهذه الطبقة هي الشبيهة بالأرستقراط وبذرتها الأولى، لتتحول مع مرور الزمن ونيل التركات والموروثات إلى طبقة ارستقراطية صراح، شكلت أسيادا وعبيدا.

مع بداية بزوغ عصر الانفتاح الاقتصادي والسعي وراء جمع الثروات والأملاك إما بالعصامية -التي يستحق بها الجاني ما جناه- أو الانتهازية والتسلق والمحاولات غير النزيهة، وهي الكثرى في مجتمعاتنا. وسرعان ما عاد المجتمع من فوره لينقسم من جديد إلى طبقة النبلاء والبرجواز والعبيد بصورة المجتمع “المودرن” في طوره الحضاري الجديد، الذي يدعو إلى المساواة وهو رب الاستعباد في ذاته، ويدفع إلى المحافظة على حقوق الطبقة العاملة والمتوسطة التي تصارع من أجل البقاء دونما طموح أو أمل في مكانة أفضل، وهو بعينه الذي يعين امتيازات النبلاء الأرستقراطيين لأولئك دون هؤلاء، حتى أصبح الغني يزداد في غناه والبرجواز يتدنون إلى طبقة الفقر، وإذن يذهبَ العبيد إلى أين؟

وسرعان ما عادت ألقاب الباشا والبيه، وعاد الإقطاع يقمع من جديد، وعاد الفاصل بين طبقة العبيد والبرجواز، والخيط الوحيد لحفظ الاحترام بين تلك الأخيرة والأرستقراط هو الإصرار على التعليم وأخذ السلم الروتيني البروقراطي صوب إثبات الذات كفاحا من أجل البقاء في هذه الطبقة الرحيبة آنا بعد آن.

سقوط المجتمع في هوة المال

وفي ظل هذه التطورات المجتمعية، وبين جمع الثراء والتصارع على السلطان الاجتماعي -الثروة- سقط المجتمع في هوة المال وبات التنازل عن المبادئ والقيم والأخلاق شروطا لتحقيق ذوات مصطنعة لا علاقة لها بذواتنا إلا أنها أضحت بطاقة إثبات شخصية أمام العامة والخاصة، وغزت مجتمعنا الكلمة الشهيرة (مش عارف بتكلم مين؟) وثم ظهرت قيم جديدة تمثلت في هيمنة المال والقوة وإعلائهما فوق قيمة العلم والأخلاق الفاضلة، وأصبحوا في نصاب مقابل لا يكادون يلتقون.

عمارة يعقوبيان ٢٠٠٩

ونرى ذلك في عمارة يعقوبيان ٢٠٠٩ الذي يجسد الفجوة بين طبقتي الارستقراط متمثلة في زكي بك (عادل إمام) المتواكل على ثروة أبيه، ورئيس التحرير المغمور ابن الباشا الثري (خالد الصاوي) الذي يعمل في جريدة فرنسية، والبرجواز المتنامين إلى طبقة النبلاء: الحاج عزام (نور الشريف) العصامي غير الشريف، وملاك الترزي الواعد الذي يطمع أن يشارك زكي بك في المحل، والطبقة الأدنى التي تمثل العبيد -بمفهوم العصر السحيق- في دور ابن حارس العقار الذي تحرمه هيمنة الطبقية وغياب العدالة والقيم من تحقيق حلمه والارتقاء بمستواه الاجتماعي، وتقتصر الفرص -ومن ثم المناصب- على أبناء الطبقات العُلى وذوي النبالة الموروثة، فيمنعه أصله من الوصول لمراتب لا يحتلها غالبا إلا أبناء الطبقات السيادية، وهند صبري التي تحارب من أجل لقمة العيش ويبقى صراعها الأكبر الصمود بمبادئها في وجه العفن المجتمعي الذي تعيش وسطه، وأخيرا بثينة التي تنحرف في منحدر غياب القيم والمبادئ لتكفل أسرتها الفقيرة.

ويتمثل إزاءنا تجسيد السينما المصرية للفجوة بين العلم الذي تصوره شخصية المعلم صاحب النبل والخلق والمبادئ والفكر المستنير والمال الذي تصوره شخصية الأرستقراطي بتسلطه وتسلقه واستبداده وعجرفته الجوفاء، وقد يكون هذا المشهد آخر ما شهدناه للقدير نجيب الريحاني في عصر الأرستقراطية الأصيلة المارقة في فيلمه الأخير (غزل البنات) ١٩٤٩ قبل اندلاع الثورة، والذي أدى فيه دور المعلم البرجوازي الذي يحمل في داخله براءة المتعلم وخلق العلم ومبادئ البسطاء الصالحة، ويأتي بملابس رثة وجيوب بالية وسذاجة الطبقات المتدنية ليواجه رفاهية تلميذته ابنة الباشا التي عاملته كخادم لا معلم مستغلة سذاجته وبات محل سخرية لها وأبيها لمجرد سماع اسمه (حمام) لا محل تقدير واحترام أو حتى شفقة، وهنا تتمثل سطوة المال أمام علم.

 أفلاما كتلك عادت لتتصدر شاشاتنا تارة أخرى في مطلع الثمانينيات وحتى يومنا هذا بعد غياب لطبقة الارستقراط المالي التي تمثلت في البارونات (الإقطاعيين والملاك) والبشوات والبكوات ليمثلها فترة ما بعد الثورة إلى الحرب طبقة النبلاء من جنرالات الجيش كحال الرومان في تقديسهم للفرسان والمحاربين الأبطال، وعلي أذكر أبرزها فيلم حسين فهمي (انتبهوا أيها السادة) ١٩٧٨ الذي جسد فيه دور الاستاذ الجامعي الذي يحمل المبادئ والقيم لكنها على ما بدا لا تنجح في منحه مسكنا ليتزوج فيه بينما يحتل (عنتر) محمود ياسين حبيبته بما جمعه من ثروة وهو لا يرتقي بحالته لأن يتقارنا، ثم فيلمه عام ١٩٨٩ (انتحار مدرس ثانوي) إذ يفشل في اقتيات العيش لأولاده الكثر من مهنته التعليمية النبيلة.

هيمنة السلطة على العلم

  وكسطوة المال تماما تهيمن القوة (الفتونة) والسلطة على العلم ثم على المبادئ، ونشاهد ذلك في فيلم (على باب الوزير) للفنان عادل إمام؛ إذ تحكم سلطة المال وتهيمن على المبادئ والرغبة في التعليم مُسجدا لذلك دور القصاب (المعلم عنتبلي)، الذي لا يرى قيمة للعلام ولا يقدر حامله في مقابل البلطجة والغنى، ويواجه البطل المتعلم الفقير من أسرة برجوازية دنيا سطوة هذا النمرود الذي يحول بينه وحبه لابنته، ويواجه أبوه الحاجب (توفيق الدقن) صعوبات الحياة التي لا ينجح في التغلب عليها بمبادئه العصماء وفقره المدقع أمام سيطرة (ثقافة الدراع).

وبين الصمود والفشل في مواجهة المجتمع المتحدر الهابط تظهر نماذج أخَر تنجرف في مجاراة المجتمع أو تصطدم بثقافته المتعفنة من سطوة المال على القيم والمبادئ مثل المعلم الريفي رمضان مبروك أبو العلمين حمودة، والإنسان يعيش مرة واحدة، ويستمر صراع الطبقات ولكن بقيمه المختلفة؛ فلما أن كانت الأرستقراطية أصيلة يمثلها النبيل الفاسد المتسلط، والبرجوازية قدر لا يكاد يتغير– رأينا صون المبادئ والقيم -وقتئذ- والتمسك بها وعُرفها على أنها قوام الطبقة وماهيتها وهوية أبنائها؛ أما الآن فقد سنح ظهور هذه الطبقة الوليدة المتنامية -أشباه الأرستقراط- بتغيير المبادئ والتملص من الأصول ونكرانها، كأن الإنسان لن ينجح دون أن يترك المبادئ جانبا، وكأنها باتت حروفا في كلمات وجمل تكتب في الكتب وروايات كتلك التي عُهدت بها ثقافة الإغريق في أساطيرها عن الفارس الشهم النبيل ذي الجواد الأبيض، فنحن اليوم لا نعرف النذل من الأصيل، والظاهرُ أن الشريف شريف حتى تواتيه الفرصة، وأن المستقيم كذلك مستقيما لأنه لا يملك عدا ذاك خيارا.

فيديو مقال أشباه الأرستقراط

أضف تعليقك هنا

أحمد محمود القاضي

أحمد محمود القاضي
شاعر وكاتب، باحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية النقدية، يدرس ليسانس الألسن- جامعة عين شمس- قسم اللغة الإيطالية