الراديو

بقلم: ابراهيم اسماعيل سالم

الراديو لا يسكت أبداً في بيتنا، يعلن في كل خبر جزءاً مهماً من تفاصيل حياتنا اليومية، ولا يتوقف عن الكذب كلما جاءت نشرة الأخبار بموسيقاها المميزه الصاخبة.

ذات يومِِ أذاع خبر رسوبي في امتحان نصف العام، وعرف أبي ولم يصدقه، فلا صدق يأتي من هذا الراديو إلا عندما تجلس صاحبة الألف ليلة وليله
وتقص علينا كيف خدعت أميرها التافه بحكايةِ جديدة..

كانت بنت الجيران التي تكبرني بثلاثةِ أعوام تعشقُ صوت أم كلثوم وترسل لي أغنياتها عبر نظراتِِ مغلفةِ بموسيقى السنباطي وروعة كلمات رامي
ورجاء بمشاركتها أغنيتها المفضلة (عودت عيني)، اعتذرت لها فالراديو في بيتنا يخشى أن ينقل شيئاً غير نشرة الأخبار، وتواشيح النقشبندي ومسلسلات رمضان..

عندما كبر الراديو أذاع كل أغاني ام كلثوم دون حياء، وعرفت وقتها أنها كانت تحبني بشدة، فقد سلمتني من يومها لعشق لم ينتهِ إلى الآن

هنا القاهره.. وصباحها المتجدد في صوتِ أبله فضيلة.
وهذا الراديو يعلم أني أعشقه رغم وشاياته التي أوقعني بها في مشاكل لا حدود لها، فكلما غاب أبي عن المنزل يناديني، ويجلسني بالقرب منه ويحكي لي عن الهلالي، والسندباد، وقصص القرآن، وما يقوله الفيلسوف، وكيف يمحو عبد البديع القمحاوي أمية من فاتهم التعليم..

هنا القاهره.. بمرشاتها العسكرية وصوت الشيخ مصطفى إسماعيل المتصل بسموات النفس التواقة دائما للتحرر من قيودها الدنيويه، وصراخ ابله كريمة تخبر أمي بوفاة عبد الناصر، وقتها أحسست أن لهذا الراديو شانُُ كبير، فهو لا يعرف من الأكاذيب إلا أعظمها، ربما لاعتياد الناس عليها أو هروباً من واقع أشدُ ألماََ من تلك الأكاذيب..

الراديو على الشباك بين غرفتين كنجمة بضوئها الفضي الشديد في تنقلاتها بين سحابِِ راقص في لحظة التحول إلى مطرِِ ينقر شباكنا الخشبي ليُخبرُنا أن خارج هذه الغرفة حياة غير حياتنا، وأحاديث مسائية مختلفه في درجات ألوانها عن التي نسمعها من هذا الراديو الصديق الودود أحياناً والمشاكس كثيراً..

هذا الراديو كان يدهشني حقاً! فكنت لا أعلم من أين يأتي بهذه الأخبار ليذيعها علي أبي كل يوم؛ هروبي من المدرسة ومشاجراتي مع الأصدقاء وضياع كتاب سلاح التلميذ، وسؤال رجل الأمن على باب سينما القاهره حين رآني أحجز تذكرة للدخول (أنت ابن عم اسماعيل ياض.؟)
يومها نزعت عنه البطاريات حتى لا يخبر أبي عن الفيلم الذي شاهدته.

بقلم: ابراهيم اسماعيل سالم

 

أضف تعليقك هنا