القصيدة المُقاتلة : أو عندما يعزف الشعر نغمته الرصاصية

تاريخ الشعر

تصدى الشعر على غرار من تصدوا للقبح،على مرّ التاريخ، بطابعه الغنائي والملحمي والسجالي ..، وبشقيه الفصيح والنبطي، فـفضح الجرائم التي ارتكبها جناة الاستدمار والبطش، وعرى البربرية في سبيل الدفاع عن حق الإنسان الضعيف، حقه في أن يَتَلبّس الجمال والحرية،واستعمل في ذلك كل أسلحتة الثقيلة لقصف جبهات العدو؛ سهامٌ مُلتهبة، وصيحات كانت ولازالت، كدوي الإنفجار في وجدان الورى.

ولعل من أبرز ما نُظم في حقلنا الجغرافي الجزائري من هذا النمط، قصيدة الشعر الشعبي الملحون “دخول الفرانصيص” ذات الطابع التاريخي، المرتبطة بماضينا السياسي والثقافي، حملت عديدا من الفوائد الإخبارية عن أهم الحوادث التي تلت الإستعمار الفرنسي في الجزائر، واصفةً حالة الأهالي وجبروت المحتل،ومقارنةً وقت ذاك، بين جزائر “مَزْغنة” تلك الأمة القوية والمسيطرة على شريط البحر الأبيض المتوسط،(( مزغنة سُلطانة المُدون الجملة)) (( لجناس تْخافها فالبر وبحرين)) وبين جزائر “الفرنصيص” المنكوب والمرثي لحالها في مُخيلة الشاعر (( زال لكلام عنها يا مسلمين)) وما أشبه البارحة باليوم !.

الشعر والجزائر 

في صورة شعرية كرونولوجية يسافر بها الشاعر، وهو يرسم لوحات توسع العدو في المحروسة، بأقلام الوجع و آهات الحسرة، يبكي فيها حال المدينة الطاهرة الملطخة بأيادي الغزاة، فيستذكر عمرانها المشوه بفوهات المدافع ((حسراه وين تحفاتها وين ديارها .. وين لبيوت وغرف المخصيين ))، بدأًً من واقعة الإنزال في ميناء سيدي فرج مرورا بسْطاوالي(غرب العاصمة) و وصولا إلى أعاليها تحديدا منطقة “الأبيار” و”بوزريعة”، ((زادوا خذوا قهوة الابيار واديارها .. وتشبطوا لبوزريعة في الحين)).أين ذاع صيت القصيدة بين الجماهير وارتفع شأنها، لتوقد فيهم فتيل المقاومة الشعبية الأولى، فتضغط على الزناد المصوب نحو الوجدان، بطلقة نارية تستنهض الهمم، وتضرم نار الثورة في “برج بوليلى” -كما هو مسمى و متداول في الثقافة الشعبية-،على يد الشيخ محمد بن زعموم سنة 1830 في منطقة “السكالا – SCALA-” بالضبط في حصن الإمبراطور الموسوم بـ”برج مولاي حسان” في عصر الدولة العثمانية، وبـ فور دو لومبرور-Fort de l’Empereur في العهد الفرنسي، تلك القلعة التراثية و المنطقة التاريخية التي حولها الاستعمار إلى ثكنة عسكرية. وهذا بعد نداء استغاثة أطلقه الشيخ بن زعموم يناشد “الأمازيغيين الأحرار” لنصرة الأرض المنتهك عرضها، فلم تتوان قبائل زواوة في تلبية الدعوة، فهرولت للدفاع عن الأرض و شاركت في معركة طاحنة، تسببت بخسائر فادحة للعدو، خصوصا في تلك الفترة، مع إنتشار خبر تسليم مفتاح البهجة “للفرنصيص” من قِبل الخليفة العثماني، بعد عقد صفقة “دي بورمن”، كما يصفه الشاعر في مطلعها ((لاغة ابراهيم رب وفزع في شاوها /والباي والخليفة خذوا اليمين)).

الشعر سلاح وليس معاني فقط

لتتوج كأول قطعة شعرية مقاتلة، تعزف نغمتها الرصاصية ببارود الحسرة، وتبذُر روح المقاومة في نفوس “الزعموميين”، فكانت بيت القصيد لقوى التشبث بالأرض ضد الطغيان، وآخر قلعة من قلاع المقاومة الشعبية الفتية. ليستشرى بعدها سرطان “بوتان” في ربوع الوطن من أدناه إلى أقصاه.هكذا نظم “الشيخ عبد القادر” قصيدته المقاتلة، في صورة رمزية متسربلة، استلبت وعي المضطهدين لتنفخ فيهم روح آريز.

فالشعر ليس مجرد عجن للمعاني و تركيب للأوزان، هو أكثر من ذلك بكثير، الشعر نارٌ على من يعتدي، ورسالة وجود وقضية إنسانية، قوتها الكلمة المُتسلحة بالأمل، وقيمتها في الحرية المنعتقة من الألم، وبصيرتها عيون تُحدق في العتمة، وتتلصص بضياء خيط “أريان”، لصيد تنينات الجمال وقطف الغمام. فالشعراء طواويس الأدب -باستعارة عبارة نتشيه-، هم أطول الناس عمرا وأكثرهم أثرا على هذه البسيطة، من لا يستحضر ملحمة جلجامش و الأوديسا الهوميروسية، وفي المقابل، من ينسى مريدين البلاط ولهاف العطايا؟!.

أعطه يا غلام
خرس الرصاص
كثر اللوصوص
من يطلق أشعاره ؟!.

فيديو مقال القصيدة المُقاتلة : أو عندما يعزف الشعر نغمته الرصاصية

أضف تعليقك هنا