المماليك …. النهوض والسقوط

المماليك كمصطلح مستقل له دلالة عسكرية وسياسية

المماليك مفردها مملوك وتعني العبد، وأول ما ظهر مصطلح المماليك كمسمى يدل على جماعة مستقلة لها شأن عسكري، كان في عهد نور الدين زنكي ثم صلاح الدين الأيوبي حيث اقتصر دورهم على الأعمال العسكرية، ولم يظهروا على الساحة السياسية إلا في أواخر العصر الأيوبي.

والمماليك هم مجموعة من الأشخاص الذين تم استرقاقهم لغاية الحرب فقط، فهم مرتزقة مستعبدون وغالباً ما يكونون من العرق الأبيض وبالأخص من وسط آسيا (خوارزم والقوقاز) والغالبية من القومية التركية أو الشركسية،  وهم يختلفون بذلك عن العبيد الذين يتم جلبهم للخدمة فقط والذين يكون غالبهم من السود الأفارقة.

أسباب نشوء ظاهرة المماليك

إن السبب الرئيسي لظهور المماليك كان في كثرة الصراعات والحروب التي استنفذت الرجال قتلاً ونزوحاً، وهذه الصراعات بدأت داخلية كحروب أهلية وانتهت بغزو خارجي على يد الصليبيين، فالحروب الداخلية دارت رحاها بين إمارات المدن كدمشق وحلب وشيزر وطرابلس وبعلبك والتي نشأت على يد العسكريين التركمان الذين قدموا للبلاد مع موجة السلاجقة وزعيمهم طغرل بك، فالدولة العباسية لما ضعفت استعانت بقبائل بدوية من التركمان وهنا ظهر ما يمكن أن نسميه بالقبائل المملوكية والتي كانت تحرس عرش الخلافة وكراسي الأمراء، وهذه القبائل لما قامت بواجبها الحربي سيطرت تدريجياً على مقاليد الحكم وتولد منها إمارات متناحرة في الموصل والرقة وحلب ودمشق وغيرها، وهذا التناحر دفع ثمنه شعوب المنطقة قتلاً وتشريداً ودماراً، ولعل الصراع الأعنف دار بين إمارة حلب بقيادة أميرها رضوان ضد شقيقه الأمير دقاق أمير دمشق والذي وطد لسقوط البلاد سريعاً بيد الصليبيين.

إرهاصات اجتماعية مهدت لظهور المماليك:

إن المجتمع في الشام ومصر كان منهكاً ومستنفذاً بسبب الصراعات الداخلية والغزوات الخارجية ويمكن تقسيمه لثلاث تشكيلات اجتماعية هي (مجمتع البادية ومجتمع الريف ومجتمع المدن).

أما مجتمع البوادي فكان يعيش في ظل الزعامات القبلية المنقسمة على نفسها وكذلك الحال بالنسبة لمجتمع الأرياف، فكل تشكيل اجتماعي قبلي أو مناطقي كان ضد الآخر، وكان يقتصر دور الرجال فيه على التصدي للتشكيلات الاجتماعية الأخرى، بينما كان الزعيم القبلي سواء أكان بدوياً أو ريفياً يفد على الحاكم في المدينة لتقديم الطاعة والولاء ودفع الضرائب أو الحصول على الأعطيات لضمان ولاءه، وتقديم الرجال في الحروب كان يخضع للإغراءات المادية التي يقدمها أمراء المدن لتلك الزعامات القبلية، ولذلك كانت ولاءاتهم سرعان ما تتبدل من أمير لأمير، مما أدى لانعدام ثقة الأمراء بتلك الزعامات وبدأوا بالبحث عن مصادر ولاء أخرى أكثر ضماناً.

أما المجتمع المدني المتمثل في المدن الكبرى كدمشق وحلب والموصل والقاهرة وطرابلس وعكا ……. وغيرها، فقد كان مقسماً ما بين تجار وعمال وصناع، وهؤلاء لم يكن لهم دوراً بارزاً في الحروب، فالتجار كانوا حريصين على سلامة أبناءهم فيدفعون المبالغ الطائلة لإبعاد أبنائهم عن ويلات الحروب، فنشأ نتيجة ذلك شباب مترف غير قادر على حماية نفسه وأهله.

وأما الصناع والعمال فكانت الحاجة لهم ملحة للقيام بالخدمات المدنية، فكان هناك الحداد والحطاب والسقا الذي يروّي الماء للأحياء، وهؤلاء لم يكن بوسع الدولة الاستغناء عن خدماتهم إلا للشديد القوي.

نور الدين زنكي أبو المماليك

في ظل هذه التشكيلة الاجتماعية الناتجة عن نقص حاد في الرجال المقاتلين بسبب الحروب الداخلية والغزوات الخارجية وفي ظل الانقسام الاجتماعي المتمثل في الزعامات القبلية المحلية التي حافظت على رجالها ضمن أهدافها الضحلة، وجد نور الدين زنكي نفسه أمام ضرورة تشكيل جيش مدرب يضم رجال موالين له بشكل مطلق ، ولمّا لم يجد في التشكيلات الاجتماعية المذكورة ضالته توجه نحو منطقته الأصلية في وسط آسيا نحو خوارزم وما وراء النهر والقوقاز فاستقدم منها الرجال أولاً بشراء أسرى الحروب الواقعة هناك، فلما رأى أن هؤلاء الرجال غير قادرين على الاندماج في المجتمع بسبب تربيتهم وثقافتهم المتشربين بها، اتجه نظره نحو الفئات الأصغر سناً ليربيهم وفق تعاليم وتقاليد وثقافة المنطقة فيكونون أكثر قبولاً في المجتمع وأضمن ولاءاً للعرش، ونتج عن ذلك ازدهار تجارة الأطفال السبايا في مناطق وسط آسيا والقوقاز، فشُنت الحروب لأجل ذلك.

التربية العسكرية والدينية للماليك

ونور الدين زنكي أدرك ضرورة تربية هؤلاء الفتيان عسكرياً وعلمياً، فدربهم على فنون القتال، وعلمهم اللغة العربية والشريعة الإسلامية، لأن اللغة العربية كانت لغة السياسة والحرب والاقتصاد، ولأن الدين لعب دوراً بارزاً في ظل الصراعات مع الصليبيين، فلم يكن من المقبول أن يكون جنده من غير المسلمين، وهؤلاء الأطفال ينقطع اتصالهم بأهلهم ومجتمعهم ولا يوجد تشكيلة اجتماعية تحتويهم في الشام ومصر فصار انتماءهم للعرش فقط ولسيدهم نور الدين زنكي، وقد ضرب بهم كل مدينة أو ريف أو قبيلة لم تواليه.

والتشكيلات الاجتماعية في الشام لما رأت قوة نور الدين زنكي في هؤلاء انضوت تحت لواءه وقدمت له فروض الطاعة وحاربت الصليبين تحت رايته التي وحدت البلاد، وسار خليفته صلاح الدين الأيوبي على نهجه واستطاع ضرب معاقل الصليبيين وتحرير القدس.

الأتابك والوصاية على العرش

ولغاية عهد صلا الدين وابنه لم يكن للماليك من شأن سوى الشأن العسكري والقتال لحماية العرش وتحرير المدن من الصليبيين، إلا أن توريث الحكم في السلاطين الأيوبيين قد أوصل للعرش سلاطين من الأطفال كانوا بحاجة لوصي يقوم بأعباء الحكم عنهم حتى يبلغوا سن الرشد، وحيث أن السلطان الموشك على الموت لم يكن يثق في أفراد الأسرة الحاكمة للوصاية على ابنه فقد رأى في المقدمين من قادة المماليك العسكريين ضماناً في المحافظة على عرش ابنه ريثما يبلغ سن الرشد والقدرة على الحكم، وهنا ظهر منصب سياسي في الدولة وهو ((الأتابك))، وبظهوره اضطلع المماليك بالشأن السياسي إضافةً للشأن العسكري.

الوصاية المزدوجة على العرش

وغالباً ما تكون الوصاية على السلطان – الطفل مزدوجة من قبل أمه والأتابك وغالباً ما تكون الأم زوجة السلطان السابق من الجواري، وهذه الجارية انُتزعت من بلادها انتزاعاً ولم يعد لها أدنى صلة بأهلها فيصبح همها الوحيد ابنها وعرشه، وبسبب الاشتراك في النشأة بين الزوجة الجارية والأتابك المملوكي فإنهما شكلا اتحاداً سياسياً تطور لاحقاً في أواخر العصر المملوكي إلى رابطة زواج بينهما فعظم شأن الأتابك وصال وجال في الحكم وتدريجياً تم خلع السلطان الصغير ونصب المماليك الأتابك ابن جلدتهم سلطاناً عليهم، وهذا ما حدث لما تزوج عز الدين إيبك بشجرة الدر وتسلطن من بعد ذلك في عام 1250م لتبدأ سلالة سلاطين المماليك في الشام ومصر والتي استمرت حتى عام 1517 لما انتصر السلطان العثماني سليم الأول على السلطان المملوكي الأخير طومان باي، وبعد سيطرة العثمانيين على البلاد استمرت سلطة المماليك تحت لوائهم حتى قضى عليهم نهائياً محمد علي في مذبحة القلعة عام 1811م.

فيديو مقال المماليك …. النهوض والسقوط

أضف تعليقك هنا