الوزير الشاعر .. عندما تموت الكلمات

مكانة الشعر

لمن يطالع في صفحات كتاب (الرؤوس) يقرأ قول (مارون عبود) (لم يخل العالم العربي من (النظم) وإن خلا من (الشعر) .. فالنظٌامون كانوا في كل عصر أكثر من الهم على القلب ، فالشعر عندنا كالجبن والزيتون للسفرة . تعودنا أن نهيئ الشاعر قبل الوليمة ، فهو من حوائج كل حفلة . فلابد للزواج من عقد شعري يهدى إلى العروسين ، ولابد للمولود من أقمطة شعرية . وحق كل ميت أن يكفٌن بالشعر ، ثم يختم قبره بعدئذ ببلاطة التاريخ الشعري) .. وفي نفس الكتاب امتدح (مارون عبود) شعر (الشريف الرضي) كما لو كان يرسم مقابلة لمعنى ومكانة (الشاعر) أمام معنى ومكانة (الناظم) فقال في حقه (فبيت (المتنبي) الذي قاله عن نفسه :
وفؤادي من الملوك وإن كان .. لساني يُرى من الشعراء
يصح في (الشريف الرضي) لا في (أبي الطيب) .. إنه ملك حقاً ، ومستقره في حنايا القلوب الكبيرة لا القصور الرفيعة العماد) انتهى كلام (مارون عبود) بما ميز فيه بين نظم وشعر .
ومن هنا تبدأ المقالة ، فأن يكون الشاعر وزيراً في الدولة فلا غضاضة البتة .. ولكنه ربما صار شخصين في إناء واحدة ، شخص رسم صورته في أذهان البشر شاعراً يوقع فنه على إيقاعات الحياة الإنسانية فيشعر الناس بقيمة ما هم فيه وبما يحلمون ، وشخص خرج بعباءة السياسة إلى الطرقات آمراً ناهياً بإذن مولاه وقد استلبت هذه العباءة كل اصبع فيه فلا يمضي على ورق إلا بما لا يملك أمر نفسه ولا أمرغيره فيه .. ولربما دق رجل الدولة فيه عنق الشاعر فأمات كلماته لتصير نظماً لا يحرك ساكناً .

هل هناك قيمة لإبداع شعري أو فني أو أدبي بلا أثر ؟

والسؤال الآن ، هل هناك قيمة لإبداع شعري أو فني أو أدبي بلا أثر ؟ .. هل هناك قيمة لرسالة بلا متلقي يقرأها ؟ فما هو معنى الشعر إن لم يصادف متذوقاً ، حيث الشعر يذاق كما يذاق العسل والحنظل المر .. ألا يبدو جلياً أن قيمة أي عمل إبداعي تكمن في تداوليته بين المبدع والناس وبين الناس وبعضهم ، في التفاعل المشترك المتبادل بين المرسل للرسالة ومتلقيها .. فإن (حي بن يقظان) في سفر (بن طفيل) لم يكن ليبدع فكراً وتأملاً في جزيرته النائية لولا أن تمثلت له أمه الغزال في مخيلته بشراً سويا.

فهكذا الشاعر لا يوصف بفنه إلا لما يولده من أثر وأخذ في نفس سامعه أو قارئه أو ناظره ، وإلا لكان إبداعه موجوداً ولكن كالعدم سواء ، فلا قيمة لفن مسجون فقط في لوحات مغطاة بالستائر كما لا خوف من ذئب جائع محبوس خلف قضبان قفص منيع .. فأين إذن يروح أثر الشاعر الوزير في نفوس من كرهوا السلطة والسلطان وكل حاشية الفساد في البلاد .. فحتماً سيدخل الشاعر بوزارته دائرة الصراع بين السلطة والجمهور فتخرج رسائله الشعرية للناس على خطين ، خط نابع من شاعر أصابه الحنين إلى شعره الملهم المجيد الصادق فلا يجده .. وخط ثانٍ يصدر من انتماءٍ يُطلب منه الولاء له ولو على رقاب كل الشعب فأي قريحة شعرية تجدي بعد ذاك ، وحينها يقف المتلقي للرسائل حيران ، هل يتعاطى الشعر من ذاك الشاعر أم يتعاطى عنفاً سياسياً مع الوزير من أجل الخلاص.

هل يجتمع الشعر والسياسة؟

بل السؤال الأعظم ليس ينشأ عندما يتولد الصراع بين شخصيات المرسل المزدوجة في ذاته الواحدة وطلاب رسالته ، وإنما السؤال ينشأ عندما يتولد الصراع بين الشاعر صاحب الرسالة ونفسه وهو يرى بنيان شعره الطويل في وجدان الناس يتهاوى تحت عرش السياسة والوزارة .. ولربما اختلط عليه الأمر فلا يدري عن نفسه في لحظة ما أهو ينطق فيها عن ذاته الأولى أم ذاته الثانية ، ومن الذي يتكلم للناس الآن ، أهو الشاعر أم هو الوزير .. ولكن طالما أن الولاء السياسي مصنوع فهو لن يتوافق إذن مع تذوق الجمهور لملكة الشعر عند الشاعر ، وإنما ربما يتوافق مع إدراك الجمهور لملكة النظم فيه .. فيتبدل أثر الشاعر القدير في أنفسهم حينما كانوا يتذوقون أشعاره لأن يصبح محض نظمٍ أجوفٍ وأثرٍ ممجوج لا برهان له من الابداع .. فالشاعر هو من عاش الوجود بوجدانٍ ، فألقت تجاربه الكلمات على قلمه رغماً عنه ، وليس هو من يطارد الكلمات كما الناظم الصانع للقصيد ويرائي بها المناسبات العظام ويداري أصحابها بما ليس فيهم ..

وهكذا ، كسب الشاعر ولاءاته السياسية بمصلحة وقصد ونية معقودة ، ولكنه ترك عند باب الوزارة وجدانه الشعري الصادق لدى الناس كما يترك المتفرج المقعد خالياً بعد انتهاء العرض .. فليهنئ إذن بما ترك إن كان سيهنئ حقاً بما كسب ، ولن يهنئ .. فيا للأسف على مجد ضاعت مآثره وبقي محض كلمات بلا حياة ..

فيديو مقال الوزير الشاعر .. عندما تموت الكلمات

 

أضف تعليقك هنا