بلّغوا عني ولو حكاية

بقلم: الدكتورة جميلة رحماني

التجاعيد و وجع الحياة

تجلس القرفصاء تلتحف السماء، وتتدثر بورود صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، وبيدها فسيلة خضراء؛ فوق ربوة مطلة على منزل ضارب في العراقة، وشاهد حي على الأصالة التراثية المتمردة على الاندثار. اقتربت منها حورية علّها تفك شفرة حكاياها، فلطالما سمعت عن تلك العجوز التي تكاد تجاعيد وجهها تخفي معالمه دون أن تسلبها ثقتها بنفسها واعتدادها بنسبها. خارطة التجاعيد المرسومة على وجه تلك العجوز هي بفعل ثقل الزمن، وهي وجع الحياة التي عايشتها وجيلها وهم يصارعون الفقر، والحرمان، والاحتلال. عجوز وهبت الحياة للآخرين بفعل الحكي دون مواربة أو خوف، ودون كلل أو ملل. تنسج الحكايا ببراعة وبخبرة سنواتها الضاربة في المعرفة، تأخذ كل من يلقي السمع إليها في تفاصيلها وأحلامها الأسطورية المرئية، كأنهم وسط كهف أحلامها، أحلام برائحة الحرية وعبق الانتصار. تطل على كل التفاصيل بعين كاميرا متخصصة.

الكل يحوم حولها، ولا يتحركون كأن فوق رؤوسهم الطير. يستمتعون بما تسرده، وكأن بينهم عقد حب لا ينفرط. وفي كل مرة يتزايد عدد الوافدين. بشغف وبلهفة انضمت حورية؛ فألفتها تحكي بصوت كأنها مقطوعة عزف منفرد؛ قصة بيتها الذي تحرسه من عل، كيف اجتاحها المغتصبون، وعن استماتة الأهل في الدفاع عنه والدود للحفاظ عليه. تصف لهم دموعا حفرت أخاديد على خدود وجوه شاحبة؛ لم تجد إكسيرا سحريا للتغلب على الموت للبقاء أحياء كي لا تموت قضيتهم، فما دموا يتنفسون فقضيتهم ستبقى.

وصية العجوز

غرسوا أظافرهم في تربة أرضهم كي لا يبتعدوا عنها، فكانت تلك الشجرة التي تغطي منزلهم، شجرة أصلها ثابت في الأرض وفرعها في السماء. وبين الفينة والأخرى يكسر حكيها زقزقة عصفور اتخذ مكانا قصيا فوق غصن الشجرة، وكأنه يحاول لفت انتباه المستمعين إلى أن ما تقوله العجوز هو محض صدق. تحكي وهي ترقب بعين لا تخطئ؛ أن قوة المكر لا تستمر؛ ولا بد يوما أن تنجلي. تحكي وهي تعلم علم اليقين كيف راودوا ذاك البيت عن نفسه وتمنوه وامتنع، قدّوا قميص حريته من دبر، فرأى برهان ربه ”أنه لن يكون نسيا منسيا مادامت حية تحكي” .

حورية تبلع ريقها وهي تصغي للعجوز صاحبة الروح الوثابة، آهاتها جاثمة على أنفاسها وهي تستمع لحكايتها؛ ولم تنتبه حتى وجدت الشفق الأحمر وهو يحتضن السماء مودعا يوما لفظ آخر أنفاسه، فأحست بيد حنون تربت على كتفها وهي تهمس في أذنها: ”انهضي بنيتي فقد حان موعد الدراسة…” قفزت من سريرها؛ كي لا تتأخر عن موعد الدرس. ذعرت حين وجدت في يدها اليسرى فسيلة خضراء.

بقلم: الدكتورة جميلة رحماني

خارطة التجاعيد المرسومة على وجه تلك العجوز هي بفعل ثقل الزمن، وهي وجع الحياة التي عايشتها وجيلها وهم يصارعون الفقر، والحرمان.

 

أضف تعليقك هنا