قصة قصيرة بعنوان “بين موسى و أنطوان”

الحي الشعبي القديم المعطر برائحَةِ القهوة

تلكَ الأخبار المسافرةُ مع مكعّبات النرْدِ الخشبيّةِ  المعطّرةِ برائحَةِ القهوة و لفافاتِ التبْغِ و ابتسامات العم موسى  المسيحيّ صاحب مقهى حيّنا العتيقِ كنّا نختمُ بهَا سويْعات أيّامنا  كآخرِ الأحاديثِ العذبَةِ التّي بتنا ننتظرها كل يومٍ،  و نكرّرها أنا و أخوتي ليلًا في غرفة المراجعَةِ حينما تفْتُرُ مراقبةُ أمّي لنا.
لم نكنْ علَى يقينٍ ساعتها  إنْ كانَ ما يرويهِ لنا في سقيفة بيتنا، أو  تحتَ شجرةِ التّوتِ الكبيرة واقعًا أو مجرّد خيالٍ منْ صنعِهِ، و لم نكنْ يوما مفتونين بمحتوى حكاياته بالقدرِ الذي كنّا نراقبُ بهِ ابتساماته و نظراته و حركة حاجبيهِ وهيَ تتبدّلُ معَ كلّ حدثٍ و كلّ شخصيّةٍ منْ شخصيّاتهِ الغريبَةِ التي أضحيْنَا نتمثّلُهَا كلّما ذكرهَا، و نتعمّدُ المرور منْ أمام المقهى في محاولةٍ جريئةٍ لرؤيتِها، و رصْدِ حركاتها كما جاءتْ علَى لسان الراوي موسى..

شخصية أنطوان ذو الجذور الفلسطينيّةِ

و كانت شخصية أنطوان المسيحي ذو الجذور الفلسطينيّةِ أكثر ما شدّنا لحكايا جارنا العجوز. كانتْ أعيُنُنَا تدمعُ كلّما حدّثنَا عنْ جدودهِ الذينَ قضوْا في حرب ثمان و أربعين و تسعمائة و ألف، و عنْ أرضهِ التي أحرقوها، و كيفَ فقدَ أسرتَهُ و باتَ وحيدًا في عالمٍ باهتٍ حزينٍ إلى أنْ هاجرَ إلَى تونس مع باقي المغتربينَ…
و بتنا نختمُ ساعات المراجعة بتأليفِ أقاصيصَ شجيّةً عنْ الحزنِ الإنساني و القتلِ و فلسطينَ الجريحة و أيامَ أنطوان المليئةِ بالفقدِ و الجوَى.

حزن أنطوان الذي فقد أسرتة 

و كم مرةً حوّلنَا غرفة المراجعَةِ إلَى ورشةٍ تصويرٍ ضيّقَةٍ  لرسمٍ صورٍ لهُ منْ خيالنَا، وهْوَ يجْلِس في زاويةً من زوايا المقهى مهموما بقلبٍ مُسجّرٍ بالذّكرياتِ و الحنينِ، و كفّ تُقلّب أوراقَ الماضي الأليمِ لتبعثَهُ منْ جديدٍ و تحفر في مقلتيْه أنهار دمعٍ لا تنضبُ..

كسْرِ قوانين الأنوثةِ

و مضتْ الأيام و أنا أنظرُ إلى المقهى منْ بعيد دون أن يتراءى لي هيكل الحزن الذي صوّرهُ العمّ موسى لنا، و أتقنّا أنا و أخوتي رسم ملامحه الشجيّة على أوراقنا و وسائدنا حينمَا يهدأ الليل و تتوزّعُ الصّور داخلَ عقولنا الحالمةِ…
و كانَ اليوْمُ الذي اتفقتُ فيه مع ذاتي على كسْرِ قوانين الأنوثةِ التي ما فتئتْ أمي ترتّبُ فصولها في زوايا عقلي الغضّةِ… كانت دائمًا تكرّرُ على مسمعي أن ما من إمرأة في مدينتنا وقفت يوما أمام أبواب المقاهي…” المقاهي تعني شوارب مفتولة و خشونة و رجولة، فلا تقتربي منْ عتباتها أبدا، يا بنيّتي…”

دخولي إلى المقهى العتيقِ

بيْد أنني سرتُ كالشّريدةِ ناحية محلّ موسى، و صورة أنطوان المسيحي تسكنني، و تحثّني على تجاوز العتبة الرّخاميّةِ المُبقّعةِ بقطرات اللبنِ والقهوةِ البنيّةِ. تلكّاْتُ  في الدّخولِ بادئ الأمر، بعد أن استوقفتْني رائحة السجائر الخانقة و كركرة النراجيل و قهقهات هاربة من الحلوق الغليظة، و بقيت أرقب قدميَّ  وَهُمَا تنتظرانِ إشارةً منّي، ثمّ ولجتُ عالم عشّاقِ المقهى العتيقِ، و أجلتُ بصري بينَ الملامحِ، و لكنّني فشلتُ في العثورِ علَى صورةِ أنطوان التي  كثيرًا ما رسمتها أنا و أخوتي…

صفات انطوان الحزين 

عزمت على أن لا أيْأس، فتوجّهتُ إلَى النادِلِ  عمّار، و قلت له، و أنا أحوّلُ نظري بينَه و بين روّاد المكانِ الغائمِ: ” أريد أن أرى السيّد أنطوان… ”
وضع الصّينيّة علَى الرّخامةِ، ثمّ قالَ لي: ” منْ أنطوان؟ ”
” الفلسطيني الذي أحرقوا بيته و هجّروه عام ثمانٍ و أربعين… رجل ذو وجه حزين و صوتٍ شجيّ. أظنهُ لا يبتسمُ و لا يضحكُ… أرجوكَ، أينَ هو؟ ”
قرفص أمامي، و قالَ لي: ” الأمر غريبٌ، يا بنيّة، لا وجود لشخصٍ بهذه الكآبةِ بينَ هذه الجدرانِ، لكن رافقيني، و تأمّلي المقاعدَ ربّما يكون محصورا بينها… لكن قولي لي، منْ أخبركِ عنهُ؟ ”
” عمّي موسى. لقد أحببتُ أنطوان الحزين، و أريد أن أرى شوقه لفلسطين مرسوما على مقلتيه… أريد أن أرى وجهه المتعبَ… “ضحك و قال لي: ” تعاليْ أريكِ أنطوان منْ بعيدٍ… فهمتُ قصدكِ الآن… ”

أنطوان وموسى شخصيتيْنِ برجل واحد

سار بي نحو مقصورة مفصولة عن باقي زوايا المقهى. كان موسى يجلس أمام لوحةٍ كبيرةٍ تحتضنُ وجهًا بملامح مهمومةٍ، و قالَ لي: ” ذاكَ هو أنطوانُ موسى الغريبِ… ”

” أ تقصدُ اللوحةَ؟  أ هو ذاكَ المرسومُ علَى الخشبِ؟ ”

حرب 1948 في فلسطين 

” أنا أقصد اللوحةَ و موسى… كلاهما أنطوان… موسى، يا صغيرتي  يعيش بشخصيتيْنِ… قُتلَ أخوهُ عام ثمانٍ و أربعينَ. لم يذهبْ عقلُه إثرَ فاجعة الموتِ إنّما حينما رأى الصّهاينَة يلقون جثة أخيه أنطوان في بئرٍ منسيّةٍ… قيل أنّه فقد عقله تماما أيّامها، ثمّ تمّ إبعاده عن أرضهِ، و جاءنَا هنا مع منْ جاء بقلبٍ عليل و نصف عقلٍ و ذاكرةٍ معبّأةٍ بالأحزانِ  و شخصيّةٍ مُزدوجَةٍ، فهو يرى نفسهُ بعضًا من أنطوانَ …”

” منْ أخبركم بكل هذا، و لا أظنّه كانَ حينئذٍ قادرًا على ترتيب أحداثِ أيامه الحزينة؟ ”

” مرافقوه رووْا لنا كل ما حدث…”

” يا إلهي، كم هي قاسية أيّامهم و ذكرياتهم، و كم كنت أراه شخصا بعقل راجح و قلب سعيد…”

” أنظري إليه الآن، كيف يهمس إلى وجه أنطوان… هكذا هو طوال يومه… ”

الحرية من حق الجميع 

بكيت و أنا أتأمّل حنوّه على تقاسيم  وجه أخيه، و كيف كان يُداعب شعره، و يُجفّف الدّمع الذي كان يتخيّله من علَى وجنتيْهِ، و أشياء أخرى موجعة… لكنّني ابتسمتُ عندما رأيته يُخرجُ من خزانة صغيرة علمَ بني صهيون ليبصق عليه و يُلقيه في الحاوية…

و قبل أن أخرج، التحق بي النّادل، و قال :” لا تُحدثِي أحدا بما شاهدتِ و علمْتِ. أنا و أنتِ فقطْ نعلم ما يحدث في هذه المقصورة… موسى يتذكّر أنطوان في اليوم ملايين المرات، لكنّه لم يكشف لأحدٍ هويّة فقيدهِ… كل مل يطمح إليهِ من ترديدِه لتلك المأساة في كل مكان هو أن تعلم أجيالكم التي لم تعرف بعد عن حرب ثمان و أربعين. يريدكم أن تعلموا و أن لا تنسوْا الأرض و الدّم و العرض… ”

قادني إلى باب المقهى، فعدت إلى المنزل، و قضيتُ يومي كما اتفق، و لمّا اجتمعنا في غرفة المراجعة لم نجد مساحة أفضل من جدار الغرفة الأبيض، و رسمنا حاوية يتسابق إليها الذباب و العف وجعلنا في وسطها صورة علم بني صهيون..

فيديو مقال قصة قصيرة بعنوان ” بين موسى و أنطوان “

 

أضف تعليقك هنا