كوكب القرود ؛ نظرية البقاء للأحمق ..!

حين كنّا مراهقين ، أتذكر كيف كان “صديقي الفيلسوف” منبهراً بفيلم “300” ، الذي يروي معركة “ثيرميبولي” -البوابات الحارة – في شمال بر اليونان ضد الفارسيين ؛ لكن كليّنا لم يعرف -حينذاك- شيئاً عن اسبرطة ، سوي المشاهد القتالية الرائعة ، والمشهد “التاريخي” للملك ليونايدس وماكينـ.. أقصد زوجته . ولم ندرك كون تلك المدينة الصغيرة ، ألهمت “أفلاطون” و”القديس أوجستين” و”كارل ماركس” حتي وصلت للشكل الإمبراطوري العظيم المتمثل في الإتحاد السوڤييتي .

ولم ندرك أنها التعبير الخالص عن “الدولة الإشتراكية” وتطوراتها للـ(المجتمع الشيوعي) ، ذي نظام حكم “الحزب الواحد” ، لا “الفرد الواحد”..! وأنها – أي اسبرطة – مثلما قال “بلوتارك” المؤرخ اليوناني الشهير عنها ، انها نوع من “المعسكر المسلح الذي يؤدي فيه الجميع أشغالهم مقابل نصيب من المؤن”. حيث لا يوجد عملات سوي من الحديد ، لا من الذهب والفضة ، وبالتالي تقل الحاجة لتلك العملات – إلا في الأساسيات والضروريات التي لابد منها للتبادل ؛ فالإسبرطي يحتاج ، في حالة النقود الحديدية ، لنصف غرفة للاحتفاظ بما قيمته ٢٠٠ عملة ذهبية . وهو ما خلق التساوي بين المواطنين بشكل كبير ، وجعل الجميع يأكلون ويشربون ويرتدون نفس النوع ، من كل شيء .

وحين كنّا نشاهد فيلم “Troy” كنّا متأثرين بـ(غضبة أخيلياس) -قتال “هيكتور” و”أخيلياس”- دون أن ندري أن تلك الحرب إحدي أكبر الحروب التي خاضها “العالم الإغريقي” . وأن لفظة “العالم الإغريقي” هنا ، تعبير حرفي ، لأن بلاد اليونان وما حولها (من غرب الأناضول وصقلية وجنوب إيطاليا) كانت عبارة عن مجتمع دولي مصغر ، يتكون من مئات المدن-الدول ، مدنٌ مستقلة وقائمة بذاتها ، لها حكوماتها ومؤسساتها وجيوشها الخاصة . وأن المناقشات التي دارت بين “أجاممنون” ملك أثينا الفظ ، وأخيه الملك الاسبرطي المقبور وباقي أمراء وملوك المدن الآخري ، نموذج من نماذج الديموقراطية ؛ حيث تقرر الأغلبية ما سيحدث ، حتي وان خالف رغبة أثينا او اسبرطة او كلتيهما رغم ثقلهما .

وليتطور ذلك النمط من المناقشات ، فيما بعد لينتشر كنمط من الحياة بين كافة الإغريقيين دون تمييز ، عن طريق سلسلة من الصراعات دامت أكثر من قرن من الزمان تقريباً بين الطبقة الغنية من الأرستقراطيين “كبار ملاك الأراضي” ، وعامة الشعب من المطالبين بالـ”ديموكراتيا Demokratia” ، والتي إذا ما لم نترجمها حرفياً ستعني “ممارسة الشعب للسلطة”، وجوهرها هو المساواة أمام القانون والتحرر من استغلال الطبقة الأرستقراطية . ثم تنضج في شكل مناقشات كانت تدور في كل مكان في داخل المدن الإغريقية ؛ في الحدائق والميادين العامة العام والنوادي..الخ . بل أصبح إجتماع كافة أحرار “أثينا” أربعون مرة في العام لحضور إجتماع الجمعية العمومية (مجلس الشعب) ، لتقرير كيف ستسير الشئون العامة للمدينة ، تقليد تميزت به الحياة الأثينية منذ النصف الثاني من القرن الخامس قبل الميلاد .

وكما Troy و 300 ؛ وحين كنّا منذهلين لأمر المباريات التي خاضها “ماكسيموس” -الچنرال المغضوب عليه- في فيلم “The Gladiator” وسط النمور الآسيوية ؛ لم نلتفت لما كان يعانيه بعض أعضاء “مجلس الشيوخ” – وما لهذا المجلس من رمزية – من جنون عظمة الإمبراطور “كومودوس” الذي يشبه “چورچ بوش” الإبن كثيراً . ولم نلتفت إلي أن المباريات داخل “الكوليسيوم” ، هي وكميات القمح التي كانت توفرها الامبراطورية للطون الرومان ، كانت دوما ما يشغل العامة من الرومان عن خبايا ومكائد الاباطرة من ناحية ، ومجلس الشيوخ من ناحية ، وچنرالات الجيش من ناحية أخري ..!

ولم أدرك إستمرارية فاعلية (تغييب العامة بالطعام والتسلية) ؛ إلا حين وقفت أمام احد المقالات التي ذكرت أن كاتب أميريكي ألف كتاب عنونه بـ”الإعلام الاميريكي ، تسلية حتي الموت..!”. وما من دليل ملموس علي ماسبق ، وعلي سبيل المثال لا الحصر ، أكثر مما وفرته كلاً من : السوشيال ميديا (فيسبوك، يوتيوب، تويتر) – أو صناعة الوسائط الثقافية – التي يتميز بها القرن الحادي والعشرين : (القرن الأميريكي الجديد) ؛ وإمبراطورية “وول مارت Walmart” التجارية وما انبثق عن فكرتها من الـ”هايبر ماركت” الذي اصبح متناثراً في كافة أركان الكوكب ؛ من السيطرة علي ٦ مليار بشري تعداد الإمبراطورية الكونية الجديدة .

وحتي بعد أن أصبحنا من ذوي “المؤهلات العليا”، لايزال لا يدرك ، أو لايهتم كثيراً أن يدرك ، بل ولا يهتم حتي آذا أدرك لكل ما سبق ..! ولكل قاعدة استثناءات بالطبع .

ويستمر “صديقي الفيلسوف” في مفاجئتي باقتناعه بضرورة إنعاش القطاع الْعَام ؛ برغم عقيدته الراسخة عن “المال العام” في عبارة ( أنا مالي ياعم هو مال أبويا )..! وباقتناعه بضرورة محاربة “الرأسمالية” الشريرة ؛ وعقيدته عن كون رجال الاعمال في عبارة (مصاصين دم الغلابة) ؛ رغم أنه ، وعلي النقيض من ذلك ، فهو مؤمن تمام الإيمان بأن (القرش صياد) وبالتالي فهو علي أتم الاستعداد لكي يـ(مشي حاله عشان حاله يمشي) ؛ وفي سبيل الحفاظ علي “ملكيته الخاصة” – وهي جوهر الرأسمالية – فإنه يؤمن بأن (الضرورات تبيح المحظورات) و(ياجاي علي قوتي ياناوي علي موتي).

ورغم أنه يؤمن أيضاً بأن الأميريكان والأوروبيين المسيحيين (الكفّار) – و”أهل كتاب” وفقاً للنصوص القرآنية المقدسة في الوقت ذاته – يريدون القضاء بـ(المؤامرة) علي الإسلام وأمته الحالية “الخارقة بالطبع” ؛ وكأن “كوكب القرود” -الشرق الأوسط- الذي نحيا فيه ، والذي لا يتعدي كونه خزان صخري طبيعي ضخم للنفط والغاز الطبيعي ، هو عقبة في وجه الإمبريالية الأميريكية في سبيلها للسيطرة علي العالم .

إلا أن المدهش في هذا السياق ، وفي الوقت ذاته ، أنه حين تناقشه في ظواهر مثل : الإرهاب . الأزمة المالية العالمية الحالية . سباق التسلّح . الحروب الإعلامية القذرة – سواءاً بين قوي إقليمية او دولية – وما يرتبط بها من وسائل مثل : الـCave trolls (والمعروفة باسم اللجان الالكترونية)، والفضائيات التي تبث من خارج حدود الدولة المستهدفة..إلخ ، أقول انك حين تناقشه حيال تلك الظواهر ، والتي تكون دوماً ، مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتأثيرات خارجية يفاجئك بقوله : (ياعم احنا مالنا بالخارج) أو (شكلك مغيب موهوم بوهم المؤامرة).

والحقيقة أن صديقي الفيلسوف لازال حتي الآن ، وبعد آلاف من السنوات ، متأرجحاً بين اختيارات هوياتية عديدة : فهل ينبغي أن يتحول إلي “غربي” لكي يلحق بالحداثة والتطوير .؟! أم ينتمي لـ”وهم العروبة” – مع كامل الإحترام لما لنا كمصريين من صلة نسب ودم بالعرب .؟! أم يعود لأصله المصري – الذي افتري عليه يهود صهيون وإخوان مسيلمة المتأسلمون كذباً بأنه وثني كافر وظالم عن طريق اختزال تاريخ مصر في فرعون موسي الذي أشاروا إليه أنه كان مصرياً وليس عبرانياً هكسوسياً .؟!

وللأسف الشديد فإنه لايزال بعد كل هذا الجدال لا يدرك أن الغرب (أوروبا والعالم الجديد) لم يصنع ما صنع ، إلا حين نفض عن نفسه غبار استبداد العقل والفكر ؛ والأهم ، استبداد الهُوية . فأدركوا جيداً ، وعن تأمل وتدبر -لا يقل عن تدبر المتاجرين بالدِّين في الكتب المقدس- ما لهم من صلات بماضيهم الكلاسيكي (اليوناني الروماني) . بل حتي انهم لم يغضوا فضل حضارات التي منحتهم علومهم وفنونهم وثقافتهم ، مثل ومصر وبابل (العراق الحالية) وفينيقيا (لبنان الحالية)، وإن كانوا لا يصرحون به علانيةً إلا أن البعض منهم قد ذكره علي سبيل الأمانة العلمية أو علي سبيل النقد اللاذع للسيطرة الفكرية .

*والخلاصة ..

في القرن التاسع عشر ( مابين سنة ١٨٠١-١٩٠١)
نجد أن أحد المفكرين الروس ، والمعروف بـ”أبو الإشتراكية الروسية” ، “ألكسندر هيرزن” ، يقول عبارتين حيويتين وخطيرتين ولم يكونا (لزوم الفلسفة والحباكة والحلاوة) :
” يجب أن يسعد موت الأشكال المعاصرة -ليه يعني- من التنظيم الإجتماعي الروح بدلاً من أن يزعجها . لكن ما يخيف هو أن العالم المغادر لايترك وراءه وريثاً ، بل أرملة حبلي . بين موت شخص وولادة آخر ستجري مياه كثيرة وسيعبر ليل طويل من الفوضي واليأس .”.
وفي غضون مائة عام أخري ، وفي ثلاثينيات القرن العشرين كانت روسيا إمبراطورية سوڤييتية عظمي تغزو العالم بـ”أسلوب حياتها اليومية”، أكثر من غزوه بجيشها الأحمر الأسطوري .

وعلي الجانب الآخر من العالم ، كانت إحدي الطرائف المشهورة في أميريكا ، بعد أن أكمل الأوروبيين استيطان أميريكا الشمالية من المحيط الاطلنطي للمحيط الهادي تقول :
أثناء احتفال ثلاثة أميركيين رحالة بالشرب “في صحة بلدهم” في حضور مستضيفيهم الأجانب .
قال الأول : هذا النخب لأميريكا التي يحدها من الشمال أمريكا البريطانية ـ كنداـ ومن الجنوب خليج المكسيك وشرقاً المحيط الأطلنطي وغرباً المحيط الهادئ .
فرد عليه الثاني : لا .. هذا النخب لأميريكا التي يحدها من الشمال القطب الشمالي ، ومن الجنوب القطب الجنوبي ، ومن الشرق شروق الشمس ، ومن الغرب غروب الشمس . وبعد انتهائهم أعلنها الثالث قائلاً : أقدم لكم أميريكا التي يحدها من الشمال الشفق القطبي ، ومن الجنوب اعتدال الأيام والفصول ، ومن الشرق الفوضى البدائية ، ومن الغرب يوم الحساب .
وبعد ١٠٠ عام أخري ، وفي عشرينيات القرن العشرين صك “هنري لوس” مصطلح (القرن الاميريكي) ، واعتقد ان مصطلح “لوس” ، في حد ذاته ، غني عن التفسير .

فهل كان صديقي الفيلسوف يعلم بكلمات “هيرزن” ، وقصة الأميريكيين الثلاثة..؟! وإذا كان يعلم -وهو أمر يجعلني في غاية السعادة ؛ فهل تخيّل أنها تنبؤات جديّة ، مبنية علي علم غزير بالماضي ، لمستقبل البشرية القادم ..؟!

هل تخيّل “صديقي الفيلسوف” أن إحساس الانسان الغربي (الابيض) بـ”المكان والزمان” (مكانه في الكون وموضعه في مسار الزمن) ، وإدراكه لهويته الحقيقية (كونه امتداداً ، في الأصل ، للحضارة اليونانية-الرومانية) ، منذ أكثر من مائتي عام مضت ، جعلته يتحكم في حياته ، وفي عالمه ؛ ومن ثم يتسيد البشرية بأجمعها ..؟!

أم أنه كأحد بلاليص الحداقة ، أو كأحد ترع المفهومية ، أو كأحد فناطيس العلم ، الذين اعتقد أنهم قد بلغوا ٩٠٪‏ من قوام شعوب منطقتنا ؛ والذين رغم تمتعهم بكل أنواع المعرفة ، المقروءة والمسموعة والمرئية ، والذين يستطيعوا ان يذهبوا الي آخر المجرة ، ليشاهدوا ويسمعوا ما يحدث هناك بلمسة – لا بكبسة زر حتي . إلا أنهم لازالوا مؤمنين بوجوبية (تشغيل الدماغ) عشان يـ(يجيب الجنيه من بذر العنب) دون النظر للكيفية أو الوسيلة . وبأنك يجب أن تـ(عض قلبي ولا تعض رغيفي) لا بأن (الأمم الأخلاق مابقيت) . وبأن (العلم في الرأس مش في الكراس) لا بأن (العلم يرفع بيوتاً لا عماد لها والجهل يهدم بيوت العز والكرم).

وإني علي يقين ، ورغم عدم إتفاقي الكامل معهما ، أنه وإذا كان “هربرت سبنسر” و”تشارلز داروين” لايزالا علي قيد الحياة اليوم ، لأقاما محرقة لكتاباتهم المعروفة ، وأعادوا صياغة النظرية الجديدة ، والخاصة بالظاهرة – لا المنطقة – الفريدة من نوعها ، والمدعوة بـ”الشرق الأوسط” ؛
حيث هنا ، وحصرياً ، البقاء للـ”الأحمق” والتطور يسير “عكسياً” ..!

واختتم القول بالمثل الصيني الأشهر : لا تعطني سمكة ، ولكن ، (مسيلي علي فخادك)..!

وويلكم تو ذا نيو وورلد أوردر ..!

فيديو مقال كوكب القرود ؛ نظرية البقاء للأحمق ..!

أضف تعليقك هنا