آثار الحملة الفرنسية على مصر صحياً

بينما كان العالم الأوروبي ينفض عن نفسه غبار الظلمة والتخلف، الذى ساده خلال العصور الوسطى، ويبدأ السير فى طريق نهضته الحديثة، استهلت مصر تاريخها الحديث بالجمود الذى فرض عليها نتيجة خضوعها للسيادة العثمانية، فكانت هذه الفترة التاريخية القصيرة سنوات حافلة حملت معها بذور التغيير، كما تركت وراءها بصمات على حياة المجتمع الاجتماعية والثقافية.

الحملة الفرنسية على مصر

فكانت الحملة الفرنسية على مصر بمثابة الصدمة الأولى التى أطلعت المجتمع المصري فى العصر الحديث على أنماط جديدة من المدنية الغربية، فهم قوم يخالفون المصريين فى المعتقدات والعادات والتقاليد واللغة وقد ظهر أثر ذلك فى المقاومة المستمرة لها طيلة بقائها فى مصر، وفى رفضهم لما استحدثه الفرنسيون فى المجال الاجتماعي حين قربوا إليهم طوائف من النصارى والأروام وغيرهم، فكان الفرق واضحا بين المجتمعين فالمجتمع المصري يعانى من نظام اوتقراطي عسكري مستبد واقتصاد متدهور بينما كان المجتمع الفرنسي متحضر سياسيا واقتصاديا، ونقل للمصريين عادات وتقاليد جديدة، بالإضافة إلى المجمع العلمي الذى كان نافذة أطل بها المصريون على حضارة أوربا الحديثة.

الجنرال بونابرت قائد الحملة العسكرية

وعندما قدم الجنرال بونابرت على رأس حملته العسكرية إلى مصر لم يكن جاهلاً تماماً بأحوال مصر الصحية ، فلقد اصطحب معه اثنان من أعظم أطباء وجراحي فرنسا آنذاك ضمن أعضاء المجمع العلمى ولجنة العلوم والفنون وهما الطبيب ديجينيت والجراح لارى بعد ما قرأ الكثير عن أحوال مصر فى جميع المجالات ومن بينها الأحوال الصحية وخاصة ما كتبه الرحالة الفرنسيون عن مصر فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر وعلى رأسهم فولنى ، ولذلك عندما وطأت أقدام القائد العام أرض مصر أصدر أمره العسكرى بإنشاء أول محجر صحى فرنسى بالإسكندرية لمراقبة الوافدين على البلاد، وكانت الاحتياطات الصحية قبل مجئ الفرنسيين معدومة تماماً خاصة وأن مناخ مصر الحار سيساعد على انتشار الأمراض والأوبئة مما يؤثر سلباً على حالة الجنود الصحية والنفسية.

سوء الحالة الصحية في مصر 

فقد كانت الحالة الصحية فى مصر أواخر القرن الثامن عشر غاية فى السوء، فالأوبئة التى كانت تجتاح البلاد تفتك بالناس وتأخذهم أخذا وبيلا والحكام عاجزين عن مقاومتها ومنشغلين بالتنافس للوصول للحكم ، والمستشفيات الموجودة لا تفى بالغرض الذى أنشئت من أجله فلجأ الناس إلى ما تصنعه العجائز وأقوال المشعوذين والدجالين طلبا للعلاج ؛ والأوبئة التى كانت تجتاح مصر فى أواخر القرن الثامن عشر فقد كانت تترك لتأكل العباد دون أن يتحرك أحد وكان الأمر متروك وفق مشيئة الأقدار الإلهية حتى كان قدوم الحملة من أجل مقاومة الأمراض الأوبئة المتفشية بالبلاد خوفا من أن تتفشى بين جندها.

وجود الأمراض قبل دخول الحملة إلى مصر 

فكانت الأمراض موجودة فى مصر قبل مجئ الحملة كالطاعون، والرمد، والجدري، والدوسنتاريا، وأبو الركب…، وعندما دخل بونابرت القاهرة فى 24 يوليو 1798م، قام بعمل مجيد حقاً وإن كان يخدم جنود الحملة أولاً وقبل كل شيء، فقد أمر كما ذكرت بإنشاء المستشفيات فى مصر، كما أمر الأطباء بعلاج الأهالي وتوقيع الكشف الطبي عليهم ، وقام الفرنسيون بمجهود ضخم فى هذا المجال، وحاولوا عن طريق الدراسة، معرفة الأسباب التى تؤدى إلى تلك الأمراض وعلى الأخص مرض الطاعون.

عمل فرنسا في مصر 

قام الفرنسيون بإذاعة منشورات صحية عامة على أهل القاهرة للحد من تلك الأمراض، ودلوا المصريين على عمل الكرنتينات، وتطهير ملابسهم ومفروشاتهم بتعريضها إلى أشعة الشمس لقتل الميكروبات، وبينوا لهم أهمية نظافة البيوت والبلاد من القاذورات، وتلك لا شك أعمال حميدة أخذها المصريون عن الفرنسيين، لذلك اهتم نابليون بعمران البلاد فأمر بضرورة تنظيف الشوارع ورشها وإضاءتها ليلاً كما وضع نظاماً لدفن الموتى فى أماكن مخصصة لهم بعيدة عن العمران. واعتنى نابليون بشئون الصحة العامة فى البلاد حرصاً منه على عدم انتشار الأوبئة وفتك الأمراض الخطيرة بجنوده كالطاعون والزهري والرمد وغير ذلك.

تدخل الفرنسيون في شئون مصر 

فقد كانت الإجراءات الصحية التى قام بها الفرنسيون، والتى لم يعتادها المصريون، واعتبروها تدخلا فى شئون حياتهم الخاصة. فلا شك أن هذه الإجراءات الصحية من قبل بونابرت حميدة ولها فوائدها الطيبة الكبيرة للإمساك بأسباب الأمراض لمنع انتشارها، وإن كانت هذه الإجراءات لها مغزى سياسى آخر وهو تقريب قلوب المصريين إلى الفرنسيين، وتمشيا مع سياسة المصالحة مع المصريين.

الطاعون يسبب بمقل المصريون

وكان من نتائج تفشى الطاعون أن أصاب كثيرا من المصريين، فقد هلك العديد من سكان قرى الصعيد عن بكرة أبيهم، وفى القاهرة كانت تسمع الأنات والصرخات من كل البيوت. كما كتب ديجينيت ووصل الحال بتجميع العديد من الجثث فى نفس النعش، ولم يرحم الطاعون طفلا ولا شابا ولا كهلا، ولم يفرق بين رجل وامرأة بل حصد الجميع. وإن كان الفرنسيون قد عجزوا عن معرفة أسباب الطاعون وما هى طرق الوقاية منها ويلتمس لهم العذر فى ذلك لأن العلوم لم تكن قد تقدمت مثلما حدث بعد ذلك.

الدكتور ديجينيت تكفل بمكافحة المرض

وقد تكفل الدكتور ديجينيت بمتابعة الحالة الصحية لمصر فكان من أنشط أعضاء المجمع العلمى المصري فى البحث ومن أغزرهم معرفة، فقد عرض وناقش أبحاثا فى غاية الأهمية عن أسباب الرمد، وعن إصابة عدد كبير من قوات الجيش الفرنسي بهذا الوباء، ثم اهتم مع جوسبار بمسببات وفيات الأطفال بمصر، وأمراضهم المختلفة مثل سوء التغذية، وكان يدون كل ملاحظاته كبيرة وصغيرة ويحصرها بإحصائيات علمية شبه دقيقة، وقد اهتم ديجينيت، ولارى بأسباب الطاعون وانتشاره فى مصر، وكذلك الأمراض المعوية والأمراض المعدية الأخرى، بعد أن كلف الجيش الفرنسي أرواح كثير منهم أثناء تواجده بمصر خصوصا وباء الطاعون.\

رجاء الدكتور ديجينيت للمصريون

وكان ديجينيت يرجو فى تواضع العالم الأصيل أن يتعلم كما يُعَلَّم، حين ذكر فى مذكراته الشخصية بأن مصر كانت مهد الطب القديم وبأنه ربما بقيت فيها آثار من حكمة القدماء، فدرسوا أنواع التطبيب الشعبى بعناية فمهما يحتكر الإنسان هذا الطب التجريبى لأول وهلة فإنه يجب أن يعرفه قبل أن يحكم عليه. وقد لعبت المطبعة دورا فعالا فى نشر المعلومات، وخدمة الصحة والبيئة حين أمر ديجينيت المسئولين عن المطبعة بالقاهرة بطبع كتب صغيرة باللغات العربية والفرنسية والإيطالية لشرح علاج الطاعون البقرى والجدرى حتى يستفيد منه أكبر عدد من المثقفين ، ويقف الجميع صفا واحدا لمكافحة هذا الوباء وقد يكون هذا الحدث نواة للتثقيف ونشر الوعى الصحي فى البلاد المصرية.

فيديو مقال آثار الحملة الفرنسية على مصر صحياً

أضف تعليقك هنا