الحداثة وما بعدها: رجعية القيم أو انحراف المعايير؟ ج2

أما وقد كنت عرضت لكم الجزء الأول من هذه المقالة الواحدة التي شطرتُها لأهمية سطورها، ولأسهل على قارئها التدقيق في مشتملاتها ومعانيها دونما كلل ولا ضجرـــ فهاؤموا الجزء الثاني منها والذي يردفُ بالتحليلِ والتعليلِ الحديثَ الناقدَ الذي تناولَه كَيْفُ الجزءِ الأولِ في عرض مفصل لأطراف المشكلة؛ ألا وهي اختلاق التسميات والتباس المفاهيم بين رجعية المحافظة الأصولية، والحداثة معاصرة.

لماذا؟ وأين الله؟

«طوبى للكاملين طريقا ، السالكين في شريعة الرب.

طوبى لحافظي شهاداته من كل قلوبهم يطلبونه» مزامير داود– توراة

 

من هذا المنطلق يقول الله تعالى: «وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون! وكان ربك بصيرا» فالله أدرى بكل شيء وما يخفى عليه من شيء في الأرض ولا في السماء، أما هذا فهو حقيقة الاختبار، وهذا هو الغرض من الاختيار: اختيار الإنسان خليفة في الأرض، واختيار المؤمن خليفة في الجنةـــ أما البعض المقصود هنا فشامل؛ فالبعض هم الخلق إنسا وجنَّا: الشيطان بملذاته فتنة للإنسان، وفتنة لبني جنسه أيضا من الجن، وكذلك المنحرفون من البشر يستميلون الناس لِما لم ينجحوا هم في الانتصار عليه فغلبهم، فيصبحون فتنة بدعواهم وأعمالهم، لكأنما هو: «ودُّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء»، ولا أغفل قول ربي كذلك: «ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما»؛ فيظلون يُرَغِّبون ويُغرون ويَغْوون حتى يضعف المحافظ، وينساق صاحب القيم، وينفر صاحب الإيمان مستغلين في الإنسان نقاط ضعفه الفطرية التي جُبل عليها، من شهوات ومن بحث عن الملذات، ومن سعي نحو الأفضل والكمال والسعادة الحياتية التي لا تجد لها تعريفا ولا قواما فيما يُعرف بالـ دنيا.

ولقد كنت في الواقع أقاوم هذا كله وأقول برفضه -ولم أزل- ولكن الواقع هو أنني أحب ذلك، وأرغبه، وأُستَمال إليه بلا هوادة أحيانا: إما أنها الفطرةُ فاسدةٌ، وإما هي الفطرة السليمة التي هي بسَجِيَّتها فاسدة، والتي لا بد من مقاومتها، فالانسان بطبعه يرغب الخطيئة، وتستدرجه اللذة؛ فإما أن تحكمه كالحيوان أو يحكمها بعقله الذي يرضخ للقيم الساميات، كما أنِفَت الإشارة إلى ذلك.

وقِس على ذلك كل ما قامت الحضارات الطاغية بدسه تحت مسميات زائفة طمست معنى الحقيقة وأغرقت المفاهيم في سيل التشويه وفيض الباطل، كمثل أسطورة الكذب والحقيقة؛ فنحن نعايش أبدا أشباه الحقائق، وهي الزيف مرتديا زي الحقيقة، والباطل مرتديا زي الصواب، أقول كما قال بولس في رسالته الثانية إلى أهل كورنثوس: «لاَ عَجَبَ، لأَنَّ الشَّيْطَانَ نَفْسَهُ يُغَيِّرُ شَكْلَهُ إِلَى شِبْهِ مَلاَكِ نُور»

 

تقول أسطورة القرن التاسع عشر أن الحقيقة والكذب التقيا يوما، فقال الكذب للحقيقة: “إنه ليوم جميل حقا”.. نظرت الحقيقة حولها في ريبة، ثم رفعت عينيها إلى السماء لترى أن اليوم بالفعل كان يوما جميلا؛ فقضت وقتا طويلا بصحبة الكذب في ذاك اليوم، ثم جاء قال لها: “الماء في البئر رائع، فلنستحم سويا”.. نظرت الحقيقة للكذب في ريبة للمرة الثانية، ولمست الماء لتجده بالفعل رائعا؛ فخلع الاثنان ثوبيهما، ونزلا للاستحمام في البئر، وفجأة خرج الكذب من البئر مرتديا ثوب الحقيقة وركض بعيدا؛ فخرجت الحقيقة الغاضبة من البئر، وركضت وراءه في كل الأماكن بحثا عن ثوبها، ولما نظر البشر إلى تعري الحقيقة أشاحوا بوجوههم في غضب واستهجان، أما الحقيقة المسكينة فعادت إلى البئر، واختفت للأبد من فرط خجلها، ومنذ ذلك الحين يسافر الكذب حول العالم مرتديا ثوب الحقيقة، فيلبي أغراض المجتمع، بينما يرفض الناس أن يروا الحقيقة عارية.

اختبار المارشميللو

الشيخ، والراهب، والكاهن، والعالم.. كلهم ضعاف، بشر لا يقوى على فتنة الشهوة والتحرر من قيود الأخلاقية والعبادة، يأبى في قرارة نفسه إلا الاستمتاع والتلذذ، ولكن الذي يحكمهم عقولهم، والذي يَسْمون به عن حيوانيَّتِهم الغرائزية هو ما اعتقدوا من قيم، وذهبوا إليه من مبادئ، واتخذوا من أخلاقيات غير قابلة للتخلي عنها، يقول الله في توراة العهد القديم- سفر يشوع بن سيراخ: «لا تكن تابِعًا لشهواتك، بل عاصٍ أهواءك؛ فإنك إن أبَحْتَ لِنَفْسِكَ الرِّضَى بالشهوة، جعلتك شماتة لأعدائك –أي الشياطين-» — كما قال تعالى في سورة فاطر في القرأن العظيم «إِنَّ ٱلشَّیۡطَـٰنَ لَكُمۡ عَدُوّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوًّاۚ إِنَّمَا یَدۡعُوا۟ حِزۡبَهُۥ لِیَكُونُوا۟ مِنۡ أَصۡحَـٰبِ ٱلسَّعِیرِ».

ولقد قرأت ذات يوم كتابا لعالم النفس العبقري «والتر ميشيل» الأمريكي، عنْوَنَه بـ ‘اختبار المارشميللو’ ذكر فيه تجربة سيكولوجية طبقها على شريحة عريضة من الأطفال متتبعا نتاجها على مر سنوات حيواتهم اللاحقة، وقد انتهى من هذا الكتاب في آخر عقده الثامن من العمر: الاختبار عبارة عن تخيير الطفل بين أن ينال قطعة واحدة من حلوى المارشميللو في الحال، أو أن يمكث أمامها ناظرا لاهثا لا يمد إليها يدا مدةً من الزمن، ثم يأخذ مكافأة على صبره قطعتين بدلا من واحدة، فكان كثيرا من الأطفال يضعف، بينما كان آخرون يواجهون الضغط النفسي العنيف، واشتداد الرغبة وما تنتجه من ألم نفسي يزداد مع الوقت، كمثل جلوسك إلى طاولة الطعام قبيل دقائق من أذان المغرب في رمضان وهي تمضي كأنها ساعات طوال.

وكأن والتر ميشيل قد لخص لنا حال الدنيا، وماهية الاختبار الإلهي بمثل هذا الاختبار، الذي صنفه اختبارا لضبط النفس؛ وذاك بأن الملذات أخاذةٌ وزاهية، ولكن منفعتها زائلة، بينما الصبر عنها بمرور الوقت يأتي بلذة أكبر تدوم طويلا.

«كأنهم يُدَرِّسون هذا التكنيك في التدريب على علاج سرعة القذف» وآتيك على ذكر هذا حتى أقول لك: لتمسك نفسك أن تقذفَ كل رغبة فيك على عجلة فتخسر لذتها ولا تكسب بقاءها.

اتجاه الأصالة بين الرجعية وصَوْن الهوية القومية

وإنك تجد نفسك محمولا على التقهقر إلى الوراء خطوات ثم خطوات ثم خطوات، في خضم هذا التحضر -بل التحدر إن أصاب قولي- الجارف الخبيث المتسارع الفظ، لتلحق بركب رجعيتك وتتشبث بأصول تراثك وحضارتك، قد تنقُد العيبَ لكن لو تجد له بديلا في نفسك لا في ثقافات غيرك.. فتجدده، وإنما أنت تجدده لمصلحتك وآلِك لا كيما يتماشى مع متطلبات أولئك ورُؤاهم ومذاهبهم المحدثة، ومقتضيات العصر الوليد، وإنك لكيما تنتقد وتفند وتختار ما تأخذ وما تترك، فلا بد أن يكون لك أساس أولا، أما أن تدخل بلا أساس فأنت فريسة لتلك الأفكار، يمكنك أن تجدد وأن تفكر ولكن على أساس وقوام متأصل وعن عقيدة راسخة، أما الرفض والقبول في الأساسات فكأنما هو نفض أعمدة بنايتها حجرا حجرا.

إذن تجدَ نفسك أمام مفترق من اتجاهين، إما أن تحتفظ بالأصول وتدافع عنها قاطبة بجميع ما تحوي، وأن تقف أنت حائطا صلدا أمام من يتهمها بالجمود والتخلف والرجعية؛ حتى تحفظ لها هيبة تجعل منها لك أساسا ومرجعا، فإن أصلحت فيه ومنه فهو إليك رد- أي مردود نفعه إليك- ولكنك إن أصلحته ليتماشى مع ما يريدونه وأن تتقارب وجهات النظر، وكيما تريهم أننا غير مختلفين عنهم وأننا غير متخلفين، فإن ذلك عليك رد، فكما أنه في الدين يُقال: (وَلَن تَرۡضَىٰ عَنكَ ٱلۡیَهُودُ وَلَا ٱلنَّصَـٰرَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمۡۗ قُلۡ إِنَّ هُدَى ٱللَّهِ هُوَ ٱلۡهُدَىٰۗ وَلَىِٕنِ ٱتَّبَعۡتَ أَهۡوَاۤءَهُم بَعۡدَ ٱلَّذِی جَاۤءَكَ مِنَ ٱلۡعِلۡمِ مَا لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن وَلِیّ وَلَا نَصِیرٍ)— فإن الأمر في الثقافات والقوميات والقيم والأخلاق والآداب والمبادئ والأعراف كذلك أيضا، ولا نقبل التحريف، ولا التزييف، ولا تدنيس هذه الموروثات التي تمثل كينونةً إن هُنَّ تزلْزلْنَ سقطت.

واتجاه الأصالة هو المحافظة الذي يصون الأساسات، ويحمي المعتقدات، ويحصن الحضارات والثقافات، ومثل ذلك مثل مقولة العرب «انصر أخاك ظالما أو مظلوما»؛ فأما أمام الشامتين والعِداء فإنك لا تُخَطِّئه، وأما بينك وبينه فإنك تنقده وتُصلحه: أما انتماؤك فهو لا يتزعزع مهما كثرت الأخطاء، ومهما يكن، ولا يمكنك نخره ولا التلاعب في أصوله وأساساته الثابتة، إلا أنه يمكنك تركه إلى انتماء جديد تذهب إليه؛ عدا أنه لا ينبغي لك أن تظل منقسما بين هذا وذاك، تستقبل من هنالك فتضيف هنا، وتحتفظ بما هنا فتنتقد به ما هنالك، لتحقق التكامل أو تصنع الكمال؛ فهذا يستحيل، لأن الحضارة الفاضلة هي من خيال أفلاطون والفارابي فقط.

داهية الانفتاح

إن الانفتاح لهو العولمة في صورتها الثقافية وهيمنتها على ضعاف القوميات، حتى أن المجدد والمفكر المنفتح قد لا يجيد الفلترة عند الاستقبال، فتنهمر عليه المفاهيم وينجرف في سيل التأثر واعيا أو متطبعا بلا وعى، وينتهي إلى أنه لا يملك حائطا صلدا (هو قوميته) ليدفع عنه مثل هذه الهيمنة العولمية التي لا يسلم منها كل مطلع عليها ولو استتب سعيه على أن ينقي منها ما ينفه ويذر ما يضره؛ فإن تلاعبه في قوميته ومحاولاته المستميتة هدمَ بعض أعمدة أساسها بدعوى التجديد— إنما جعل منه عقلا خصبا وأهلا للانقياد، ولتبدد القيم، والانسلاخ من قوميةٍ -تهدَّمَ في منهاجه أساسُها- إلى أخرى مشوهة جمعت الشيء بنقيضه.

وإني الذي أؤمن بأن الحقيقة ليست مطلقة، وأن كل أحد صوابه مطلق بحسب ثوابته، فدعوني أستثني وأوضح -بما أن لكل قاعدة شواذ- أن بعض الآراء ثَم لا يمكن أن نقبلها حقائقَ، ولا أن نُقِرَّ لها بصواب مهما يكن من دليل -وإن هي ظلت لدى أصحابها كذلك- لأنها تخالف مذاهبنا، وإلا لصرنا بلا هُوية، ننسلخ عن أصلنا لنتبع أي أحد وكل أحد؛ ولكن هذا لا يمنعنا من السماحة مع أصحابها والتعايش معهم ما لم يخلُّوا هم بذلك، وهذا هو الفارق الذي أريد أن أحدد بين القبول للآخر، والانفتاح عليه بإقرار نظرياته المناهضةَ ما لنا.

 

لا بد أن ترفض كل معنى مخالفٍ يُصدَّر إليك تحت وطأة الـ «أوبن مايند» لأن المبادئ لا تُجزَّأ .. والقومية لا تجدد.. الحضارة تاريخ عتيق لا يمكن أن يُعاد تأسيسه من جديد، ولكنه يؤخذ بكل ما له وما عليه.

 

ولأنك كيما تحارب فكرة، عليك أولا بأساس ومرجع صلب تستند إليه وتعتمد عليه.. عليك أن تبرر وتدافع حتى عن العيوب وتقبله بما هو عليه أولا، ثم تضيف إليه منه؛ أي ترده إلى ذاته بأن تصلح العيوب، وتبرز المناقضات دون الاستعانة بغيره أو بما يعارضه؛ فاطلاعك القَنَاعِي على القوميات المهيمنة، وانفتاحك على ثقافاتهاـــ سيجعل ذاك التجديد المزعوم مسخا لا قيمة له، وسيجعل منك أنت أيضا مسخا لا انتماء له، وخير لي أن أنتمي إلى باطل بإيمان على أن أصطنع حقا مذبذبا قد لا يربطني به يقين ولا إيمان حتى أصير بلا هوية: مذبذب بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.

” قوميتك هي هويتك..

حضارتك هي أساسك..

وأيديولوجياتها خطوط حمراء! “

مِالآخر

ولما أردت أن أختتم كلامي؛ فإن أكثر ما وجدته يلمسني، ويلخص مقالتي، ويعبر عن شعوري هو المزمور التاسع عشر بعد المئة من مزامير داود التي جمعها عزيرٌ النبي، إذ يقول: «أَهْلَكَتْنِي غَيْرَتِي، لأَنَّ أَعْدَائِي نَسُوا كَلاَمَكَ. كَلِمَتُكَ مُمَحَّصَةٌ جِدًّا، وَعَبْدُكَ أَحَبَّهَا. صَغِيرٌ أَنَا وَحَقِيرٌ، أَمَّا وَصَايَاكَ فَلَمْ أَنْسَهَا، عَدْلُكَ عَدْلٌ إِلَى الدَّهْرِ، وَشَرِيعَتُكَ حَقٌّ. ضِيْقٌ وَشِدَّةٌ أَصَابَانِي، أَمَّا وَصَايَاكَ فَهِيَ لَذَّاتِي» ثم وجدت رثائي وسلواني في قوله تعالى «وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَیۡهِمۡ وَلَا تَكُن فِی ضَیۡق مِّمَّا یَمۡكُرُونَ» [سورة النمل 70] اللهم فأدعوك بما دعاك به داود فأقول: بكل قلبي طلبتك.. لا تضلني عن وصاياك، وبما دعاك به محمد فأقول: اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون.

فيديو مقال الحداثة وما بعدها: رجعية القيم أو انحراف المعايير؟ ج2

 

أضف تعليقك هنا

أحمد محمود القاضي

أحمد محمود القاضي
شاعر وكاتب، باحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية النقدية، يدرس ليسانس الألسن- جامعة عين شمس- قسم اللغة الإيطالية