الحداثة وما بعدها: رجعية القيم أو انحراف المعايير؟ ج1

الأصولية والمعاصرة

لقد  أصبح الحرام والمباح «دَقَّة قديمة»، وأضحت موضة القيم باطلة، وأمست اللذة مذهبا أخلاقيا لا يُعاب، حتى استفشَت من الترف أطياف وليدة لم تكن قبل ذلك لتطرأ على بال، فباتت غير آهلة لأن تُنتقَد ولا تُجتنبَ تجريبا ولا قبولا.

وبين الانجراف نحو الانفتاح، والاستمساك بعروة القيم، تجد نفسك تنحاز الى المحافظة كاتجاه تصون به ما لا يجب أن يموت، ولأنك لا تستطيع أن تأخذ عنهم بعضا وتترك بعضا؛ فإما أن تشبههم، وإما أن تتمسك بالتراث والرجعية حتى النهاية، لئلا تتعرض إلى العقاب بذهاب قوميتك، واندثار حضارتك، وغياب قيَمك، ثم إنك ستظل محتارا بين الانحراف بمسمياته الحديثة، والرجعية التي أطلقوها على كل ما يخالفه، فالأول يدْعونه حداثة، والآخر يَدَّعونه على المحافظة.

أرض بلا دين هي أرض بلا قيم، تحكمها الأهواء، معبودها الشيطان، وربها إنسان الغاب البوهيمي، ودستورها كأنما هو قانون الإباحية والإجرام الذي تغيب عنه كل رقابة..

الدنيا معمعة بين أحزاب: حزب الإيمان، وحزب الإنكار؛ حزب العفة، وحزب اللذة؛ حزب الرب، وحزب الشيطان: أما الذي هجر الأحزاب الأُوَل، فإنه لا يجد نفسه إلا في ضروب الأخيرات، وأما الذي سئمها، فلن يجد مفرا لمَّا إلى الأُوْلات، ومن ثَمَّ توَلَّدَت مفردات ومصطلحات مُحدثة كــ ‘الحداثة’ و’التحضر’، و’الرجعية’ و’التخلف’ اللذين ينسب إليهما كل من تمسك بمبدأ، وتعصى على الحداثة العولَميَّة أن تزحزحه عنه، وأن تجرفه صَوْبها؛ فاعتبروه يتأخر ويتراجع عن حراك البشرية وتطورها نحو اللا قيم، واللا مبدأ، واللا إله، واللا بعث.. التي أصبحت أهم معالم تلك الحداثة والتحضر المزعوم، وعاد التحدث عنها واعتناقها من علامات التخلف والسُبات الفكري والحضاري.

وفي الواقع إننا نحيىٰ عواقب الحداثة ونِتاجها، وإننا لنُعايش عصر ما بعد الحداثة؛ فالحداثة قد حدثت وتمت بالفعل في ألفية التنوير ومذاهب الإنسانية واللذة والتحرر الأوائل، فتُلفِي أن الذي كان قد بدأ بدعوة هو الآن واقع يُعاش في حاراتنا ودهاليزنا، ويغزو أبواب بيوتنا ونطاق مجتمعاتنا عبر كل وسيلة وأية وسيلة، وباتت صور وآليات السيطرة جمة، حتى بدأت أعتقد أنهم قد يصلون إلى أحلامك بل إلى ما وراء ردائك.   

«الملاك الكبير» يحكم

أما الشيطانية فقد تجلت في كل الأمم السوابق، حتى ظهر إبليس لسادة قريش ناصحا أمينا، فأشار عليهم وقاتل معهم، ومجدوا قوله فيهم وهو أبو مرة، وظهر من قبل ذلك لأجدادهم -عرب الجزيرة- واعظا فعلمهم كيف يعبدوا صنما، وظهر لسادة سدوم -غلاما أيَّ غلام- فدعاهم إليه، فعلمهم كيف يطأون ذكرا ويتلذذون بالشذوذ، وظهر لبني إسرائيل في صورة السامري فأغواهم وعلمهم الشرك وعبادة العجل، وهو صاحب كل جريمة أولى على وجه البسيطة، ثم إنه يتبرأ ويستغني، فلا يُصاحَبُ ولا يُحامُّ، وهو لا يُناصِر ولا ينصر نفسه.

ومع ذلك، اعترِفْ أن بداخلك شيطان، وأنك تميل إلى جانبه، وأنها تستميلك أوامره -أو دعنا نقول: مقترحاته- و اعترف أنك تحب هذا الشيطان وتجد راحتك معه، وأنه دائما خلاق ومبدع: يعرف كيف ينعشك ويُنشِيك، وإن كانت كل لذَّاته ونشواته التي يدعو  البشرَ إليها هي من جنسهم؛ أي أنها لذات جسدية تزول كما يزول الجسد كله ويفنى؛ مؤقتة كما أن بقاء الإنسان في هذا الحلم هو أيضا مؤقت.. فاعترف إذًا بأنه كذلك، ولكن ثوابتك وأيديولوجياتكَ المجتمعية والدينية المتمثلة في القيم والأخلاقيات والمبادئ العرفية لا تتصالح مع ذلك أحيانا أو أغلب الأحايين.

وإنما حديثي عن ثقافة الفلسفات ومذهب الشعوب: القيم، والأخلاق، والمبادئ، والأعراف، والعادات، والتقاليد المجتمعية التي هي أساس القومية الحضارية؛ وتلك الدينية التي هي أساس القومية الروحية المعتقدية، والتي عادت التكنولوجيا والتقنية آلة الترويج الأمثل لها، ووسيلة الإمبريالية السلمية لبسط نفوذها الاستعماري في صورته الأخفى تحت تكنيك الكولونيالية الفكرية الثقافية، وإن تلك الرمزيات هي التي تحفظ حضارة وتَمِيزُها، أو تُغَيِّبُها وتذهب بها إلى التبعية والانهيار؛ وليس عن ثقافة العلوم والأبحاث أتحدث.

وإنكاري على التعددية ليس في صورها الفكرية ولا الدينية، وإنما هو إنكار لصورتها الأخلاقية؛ أي أن الاختلاف قد يكون في كل شيء إلا القيم الإنسانية والأخلاق والآداب، وذلك بأن الأخلاق ليست عِضين؛ أي أنها لا تتجزأ، وليست -كما ذهب أصحاب اللذة- نسبية قائمة على المنفعة؛ وإنما هي في الأساس خلافُ ما ينتفع به الجسد وتدعو إليه اللذة، وإلا ما كانت لتسمو بالروح عن المادية، وتنأى بالعقل تُغذيه، ليحكم شهوة الجسد؛ فيسمو بها مرة أخرى عن بهيمية الشهوة، وحيوانية إفراغها كالثُمالىٰ مخموري العقول وفاقدي القيم.

ولقد عاب عليهم كانط -الفيلسوف الألماني- ذلك الذي ذهبوا؛ فذهب إلى أن الأخلاق هي ما يسمو بالعقل ويشبع منفعة روحية أولا -لا جسدية- عند الإنسان؛ وأما المنفعة الجسدية فهي تتحدد في سياق ما حكمت به تلك الأخلاق النافذة، وهو بذلك قد اقترب من فلسفة الإغريق السقراطية والأفلاطونية والأرسطية حول الفضيلة والكمال.

يقول بولس في إحدى رسالاته:

    ”اسْلُكُوا بِالرُّوحِ فَلاَ تُكَمِّلُوا شَهْوَةَ الْجَسَدِ، لأَنَّ الْجَسَدَ يَشْتَهِي ضِدَّ الرُّوحِ وَالرُّوحُ ضِدَّ الْجَسَدِ، وَهذَانِ يُقَاوِمُ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، حَتَّى تَفْعَلُونَ مَا لاَ تُرِيدُونَ، وَلكِنْ إِذَا انْقَدْتُمْ بِالرُّوحِ فَلَسْتُمْ تَحْتَ النَّامُوسِ.  وَأَعْمَالُ الْجَسَدِ ظَاهِرَةٌ، الَّتِي هِيَ: زِنىً عَهَارَةٌ نَجَاسَةٌ دَعَارَةٌ، عِبَادَةُ الأَوْثَانِ سِحْرٌ عَدَاوَةٌ خِصَامٌ غَيْرَةٌ سَخَطٌ تَحَزُّبٌ شِقَاقٌ بِدْعَةٌ. حَسَدٌ قَتْلٌ سُكْرٌ بَطَرٌ، وَأَمْثَالُ هذِهِ الَّتِي أَسْبِقُ فَأَقُولُ لَكُمْ عَنْهَا كَمَا سَبَقْتُ فَقُلْتُ أَيْضًا: إِنَّ الَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ هذِهِ لاَ يَرِثُونَ مَلَكُوتَ اللهِ،  وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ فَرَحٌ سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ لُطْفٌ صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ تَعَفُّفٌ…إنْ كُنَّا نَعِيشُ بِالرُّوحِ، فَلْنَسْلُكْ أَيْضًا بِحَسَبِ الرُّوحِ“

الفرق بين القبول الانفتاحي والهيمنة اللاغية للآخر

فمثلا، إذا كان الله عندي حقيقة؛ فلن أقبل منكريه إذا ما اشتبكنا، وإذا كان العري عندي بهيمية لا حرية؛ فلن أتسامح مع نسبية الأخلاق ولا حرية “مولد سيدي العريان” إذا ما اشتبكنا، وإذا كانت للعفة هيئة عندي ومنوال؛ فلن أرحم من يشوهه أو يحاولْ بالدعوة إلى الاستثارة، واستمالة الغرائز، والإباحية -التي عدُّوها طبيعة واقعية- إذا ما اشتبكنا أيضا. (والاشتباك الذي أرمي إليه هو اشتباك فكري لا عضلي وبسط نفوذ ثقافي لا عسكري)؛ أما كونك تخلو إلى معتقدك هذا بينك وبين نفسك، فلا شأن لي: كن ملحدًا، كن زانيا، كن مثليا، أو كن ما تشاء؛ إلا أن تروج، فإني لن أقبلك لسبب أوحد، هو أنك لم تقبلني إذَّاك؛ فاعتراضك على مبادئي -واسِمًا إياها رجعيةً وتخلفًا- ومحاولتك إقناعي ترويجا لما تذهبه من مذهب -مقررا أنه هو الحداثة والتحرر- ليس إلا تعديا على حرياتي واعتداء على أيديولوجياتي ومن ثمَّ استوجبني الدفاع..

”كن لصا ما دمت لا تسرقني أنا..” فالحرية مسئولية، والمنطق اقتضى أنك حر ما لم تضر، أما أن تضر بالآخر وتفرض عليه حريتك المُدَّعاة؛ فأي حرية زائفة تلك؟

التحرر من المعتقد ومن الأخلاق والقيم، إنما هو تماما كالتحرر من فراء «الحمراء» لدى القرود، وكشفٌ للعورة، وهتكٌ لستر العقل، ومسخ للروح، أو شنق لها على الأرجح؛ أما أنتم فقد دعوتم بالفعل إلى التعري، وكنتم صريحين لم تنكروا، وأما أنا فأعتز بلباسي لأنه باهظ نفيس، و كذلك عزيزٌ على عقلي لباسُه أن يُهتك.

لقد تُذَكرونني بالكلبة في موسم التزاوج حينما تنبطح وترفع ذيلها لكل منتهك وفاعل، فقد هتَكَتْكم حرياتُكم وقد اعتلت عورات عقولكم الحداثةُ، حتى صارت تلك العقول بين أفخَاذِكم، واستعمرت الأخيرة رؤسكم في موسم «الخلاعة».

 

إبليس: حكومة الظل في ‘المجلس الأعلى للأرض’

تقول الأسطورة أن إبليس كان يظهر لآدم جهارا ولأبنائه في بداية الخلق، وأنه لما أن مات آدم استفحل إبليس في غواية أبنائه، ونشر أعوانه هنا وهناك، حتى جاء مهلاييل -الحفيد الرابع لآدم- وجمع البشر آنذاك، وأنه أول من أسس مُدنًا -هي بابل وسوس- وأول من جاش جيشا، وقد كانت الجن تتقاسم الأرض مع البشر ويتصارعون على حكم الأرض -كما تحكي قَصص سيد الخواتم وصراع العروش الأخيرة- فلما كان ذلك حاولت جيوش إبليس أن تغزو هذه المدن لتسيطر عليها بمعاونة الغيلان والمردة من الجن، فتحاربا وانتصر مهلاييل، وقُتل الكثير من المردة، وتم القضاء على جنس الغيلان، حتى فر إبليس ومن معه من الجن الشارد إلى المناطق النائية والجبال والصحاري، ومنذئذ حكم الإنسان الأرض واستولى على الخلافة فيها، ليصبح الظاهر الأوحد والمسيطر عليها؛ ومنذ ذلك الحين فإن إبليس يسعى جاهدا إلى استقطاب الإنسان عبر التزيين والإغواء، واللعب على نقاط ضعفه متمثلة في الشهوة من كل جنس، لكي يرغمه على خيانة هذه الخلافة -مثل الجارية الخائنة في قصر الملك- لاستعادتها والسيطرة على الأرض، وبالفعل قد جند الكثير والكثير من البشر -مخموري العقول- الذين يعملون في خدمة <الملاك الكبير> ليَضروا بالبشرية جمعاء، وما هم إلا جنود يستخدمهم ثم يصفيهم ويغدر بهم ويضَّاحَكُ عليهم في الدنيا قبل الآخرة.

«وقال لأتخذنَّ من عِبادكَ نصيبًا مفروضًا»

ألا والحق أقول لكم، إن التحذير من إبليس وألاعيبه لا يستقر على وساوسه ودسائس صغار أحفاده، وإنما ذلك كله (لِعب عيال) بل إن لهذه الأرض مجلس من الـحَكَمٌ الأخفياء كالذي يُبَثُّ إلى عقولنا في رواياتهم الدرامية، والمواد الخيالية التي يطلع عليها أطفالنا، وإن لإبليس كيان أشبه بدولة، وجيش وتخطيط، هو أشبه ما يكون بالحكومة والبرلمان، وأعوان وجنود من الإنس قبل الجن يسهرون ويعدون ويخططون لكل كارثة ولكل دمار، يصطنعون الأوبئة ويبثون الخراب، ويدسون الإلحاد ويفرشون للفواحش بساط الريح انطلاقا من منابع الحضارات والثقافات المهيمنة، حتى تعم فتسحق أمامها القيم، بما أن الإلحاد والليبرالية الجان-لوكية أصبحا أساس المعتقد، وأصل التقدم والحداثة، وعاد الإنسان إله ذاته، بل إن إلهه ذاتُه وهواه: هو من يقرر القيم، وهو من يصنع المعبود، والعجيب في الأمر أن هذا الإبليس الذي دعاهم إلى إنكار وجود الرب، هو نفسه يؤمن به ويعلم أنه موجود؛ لكم تم التلاعب بك أيها الإنسان المسكين كدمية لا قيمة لها! يقول الله عن الشيطان:

«رَئِيس هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ»

إنجيل يوحنا الإصحاح الخامس عشر

 

لماذا؟ وأين الله؟

يُتْبَع…

فيديو مقال الحداثة وما بعدها: رجعية القيم أو انحراف المعايير؟ ج1

أضف تعليقك هنا

أحمد محمود القاضي

أحمد محمود القاضي
شاعر وكاتب، باحث ومفكر في الفلسفة الإسلامية النقدية، يدرس ليسانس الألسن- جامعة عين شمس- قسم اللغة الإيطالية