تحليل مواقف (صلاح ابراهيم عقيل القين) في كتابه (لحظة والإبداع والإلهام)

ليس الحديث هنا عن معنى أو دلالة كلمة (إبداع)، ولكن الحديث عن كيف يكون الابداع. أما عن دلالة الابداع فقد حوى الكتاب بين دفتيه سياحة منهجية معمقة حول أبعاد هذا المفهوم تجعل منه ليس شرحاً نظرياً لتعريفات الابداع وإنما شرحاً عملياً يتملكه القارئ بنحو شعوري تلقائي عبر مسيرته فيه.

مارون عبود وكتابه الرؤوس

ان الحياة على طرق وأنماط، وإن الابداع لهو ابن طريقة في الحياة ينتمي إليها المبدع، فيكون الأمر على نحو ما عبر عنه (مارون عبود) في كتابه (الرؤوس) حيث قال (فكل فنان يستقي من الواقع، ولكنه يخرج فكرته كما تخرج النحلة عسلها، أي مطبوعة بطابع نفسه)، ولذلك فقد حوى كتاب (لحظات الإلهام والإبداع) تراثاً فنياً وأدبياً إنسانياً من كافة المشارب والأصقاع، وكل يعبر عن هويته الحياتية، وكان ذلك هو ما يلائم التعدد في أشكال وأنماط وطرق حياة الشعوب والقبائل.

الإبداع في طرق الحياة المتعددة

والدلالة في هذا أن منح صفة الابداع على اختلاف مظاهرها في طرق الحياة المتعددة –ناهيك عن تعددية الصور الإبداعية داخل طريقة الحياة الواحدة – إنما يحتاج إلى منهج في السرد يوازي هذا الاختلاف والتعدد وعلى نفس حجمه كمطلب ضروري لتحقيق مقصد الكتاب وهو ما يمكن تسميته (التغذية العقلية التأملية) تقوم بصدد صور وضروب الابداع الإنساني ، ومن ثم تحفيز ملكة الابداع لدى هذا المتأمل ليقدم ما لم يسبقه إليه الآخرون ممن طاف عليهم بالذكر هذا الكتاب .

من هو المبدع؟

ولكن أيضاً، من هو المبدع في الأصل؟ ينصرف ذهن كثير من الناس عند سماع هذا السؤال إلى أن المبدع هو من ينتج العمل الفني تشكيلاً أو كلمةً أو نغماً، ولكن هذا وجه واحد من وجوه الحقيقة في هذا الأمر ، فصحيح أن منتج العمل يصنعه على غير صور الحياة الرتيبة وإيقاع الكلام اليومي العادي من أجل أن يصدم بعمله هذا وجدان من يسمع ويرى فينفعل به ويتذوق مغذاه . ولكن الوجه الآخر للحقيقة في الابداع هو إبداع هذا المتلقي للرسالة الإبداعية نفسه.

فإن أي عمل إبداعي يتم انتاجه إذا لم يصادف متذوقاً واعياً به فلا حياة له ولا قيمة وجودية له، وقد اشار مؤلف الكتاب إلى هذا المعنى بقوله (إن نجاح العمل الإبداعي هو كمية الإيناس التي استطاع العمل إدخالها إلى نفوس المتلقين) وايضا قوله (يعمق العمل الإبداعي إحساس المتلقي بالجمال).

المبدع ينتج عملاً تحت أي صنف فني

إن المبدع ينتج عملاً تحت أي صنف فني فيرسله ليتلقاه مبدع آخر وينفعل به، حينها يسر المتلقي بما تشبع به ، ويسر المرسل بما وجده من أثر في نفس المرسل إليه . ولعل هذا المعنى هو ما ضمنه الكاتب تحت عنوان (تفاعل المتلقي للإبداع) ، وأشد ما يثير الانتباه فيه هو ما أسماه (التفاعل الغريب) والذي حمل دلالة (الأزمة) التي تحدثها الحالة الفنية من نتائج تفاعلية غير متوقعة أو مألوفة لدى المتلقي حيث يبلغ الذوق مداه فيصير الوجد لديه أعلى مما يُرى في ظاهر العمل .

ولقد أورد الكاتب على لسان (النفري) المتصوف تعبيراً شارحاً لتلك الحالة بدقة أنه (كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة) فحينما تتسع دائرة الخيال – لاسيما لدى المتذوق الفني – لا يجد الإنسان ما يعبر به عنها بالكلمات أو بالأحرى بالسياقات اللغوية التي اعتاد أن يعبر بها عن شؤون حياته اليومية أو عن الحقائق العلمية أو العلاقات المنطقية.

المبدع لايملك التعبير عن شدة انفعاله

وكذلك المبدع هنا لا يملك من أجل أن يحقق التعبير عن شدة انفعاله بأثر ما في الطبيعة أو الوجود من حوله إلا أن يخرج الصور رسماً والكلمات رمزاً ، فالرسم هو إعادة تشكيل لعلاقات الواقع بآفاق جديدة ، والرمز هو إدخال اللغة في سياقات وجمل تعبر عما لا يمكن الإشارة إليه في الواقع الخارجي عن ذواتنا بنحو مباشر مثلما هي الحال مع التجارب الروحانية ، والمهم هو أن ينتقل هذا التفاعل العالي عبر وسيط التعبير (الصورة – الرمز) إلى المتلقي فيفعل لديه فعل البهار الحار على اللسان .

ولعل الأثر لدى المتذوق يكون أشد في نفسه مما يصور المبدع. وسر هذا أن المبدع مهما كانت درجة انفعاله الفني بالوجود والظواهر والأحوال فإنه في نهاية الأمر لا يخرج عمله الإبداعي إلا على موازين وإيقاعات وحروف وخطوط وألوان وأصوات مهما كان هذا الإخراج سريالياً من أجل أن يوجد ما هو مشترك بينه وبين المتلقين من عموم البشر ، وبالتالي فهو لا يطلع في تعبيره الفني هذا عن حدود (العقل الحسابي) Reason إلا أنه يبلغ القمة العالية فيه.

العمل الإبداعي وأثره في نفس المتلقي

وهذا بخلاف ما يحدث لدى المتلقي ، فما يجده متلقٍ ما من أثر للعمل الإبداعي في نفسه وما يحققه من انفعال لديه ، قد لا يجده متلقي آخر غيره وربما تصدر عنه ردة فعل بهذه الخصوصية الذوقية مما لم يحسب له المبدع – ولا حتى المتذوق – حساباً فيخرج تعبيره عن انفعاله غريباً . بناء على ذلك ، إذا كان (المؤثر) محدوداً فإن (الأثر) يكون مفتوحاً متحرراً ، وإن كان انتاج العمل الإبداعي مرهوناً في إخراجه بالأطر الاجتماعية نحواً ما مهما تجردت.

فإن تذوق العمل الإبداعي يكون مرهوناً لعوامل وجودية ذاتية وهو ما يدخل تحت دائرة عقلية أكبر وأشمل من دائرة العقل الحسابي وهي دائرة (العقل الانفعالي) Mind. إذن، الاختلاف بين المبدع والمتذوق هو في عملية الإخراج الإبداعي أو التعبير الفني أي تعبير المبدع عن انفعاله من خلال العمل الإبداعي.

وتعبير المتلقي أو المتذوق عن أثر العمل في نفسه بالأحوال النفسية والرؤى والمواقف النقدية . ولكن المبدع يقف نفس موقف المتلقي المتذوق عند اللحظة الأولى للإلهام التي تنتابه تجاه الوجود أو المواقف ، ففي البدء يتذوق المبدع مادة إبداعه وجدانياً ثم بعد ذلك ينتج عمله عقلياً.

المؤلف لا يموت 

وكخلاصة أخيرة على ما تقدم، أن المؤلف لا يموت، كما ظن كثير من النقاد الحداثيين، بل يحيا بصورة متفردة بين شعبه وفئته الاجتماعية ، فبرغم أن أبناء الأسرة الواحدة تجمعهم مشابهات عائلية Family Resemblances توثق لانتمائهم لأسرة ما إلا أن كل واحد منهم لديه طابعه الخاص ، فهو متفرد لن يكرر في الوجود مرة أخرى.

فمتى أتى إلى الدنيا عبر فيها وترك أثراً ، ثم يمضي . وهكذا فإن الخيط الناظم بين أعمال المؤلف كلها هو جوهر شخصيته المتفردة . وأن الأثر الانفعالي المتجدد لدى المتذوقين للأعمال الإبداعية على مر العصور هو الذي يحقق مقولة (إلياس الرحباني) بأن (العظماء يموتون في حياتهم ويعيشون بعد مماتهم).

فيديو مقال تحليل مواقف (صلاح ابراهيم عقيل القين) في كتابه (لحظة والإبداع والإلهام)

أضف تعليقك هنا