رواية الكاتب الفرنسي المعاصر ميشيل هويبليك “الاستسلام” وأزمة الفرد في الحضارة الغربية

د. محمد سيد أحمد ساتي

[email protected]

رواية “الاستسلام” لميشيل هولبيك

كيف تبدو شخصية فرانسوا في الرواية؟

تتلخص قصة الكاتب الفرنسي المثير للجدل ميشيل هوليبك “الاستسلام”  Soumission  وعلى لسان الراوي الرئيس للقصة فرانسوا، وهو أستاذ جامعي في الأربعين متخصص في التدريس لطلابه في الجامعة عن أدب الكاتب الروائي والناقد الفرنسي الكلاسيكي كارل هيزمانس (1848-1907). وفي سياق الرواية نجد الأستاذ الجامعي فرانسوا قليل الاتصال مع أي من والديه المطلقين، ولا يُظهر أي اهتمام بتكوين أسرة خاصة به، وبالتالي فهو مثال على تفكك الروابط الأسرية في المجتمع الغربي.

لا يوجد لدى فرانسوا صداقات حميمة مع الذكور، ولا تدوم علاقاته الرومانسية مع البعض من النساء أكثر من عام، لا يمتلك فرانسوا أية قناعات دينية أو سياسية، وهو مثال على الفرد الذري في المجتمعات الليبرالي الغربي، نجده في خارج عمله في الجامعة، عادة ما يكون تفاعله مع المجتمع من حوله ميكانيكياً وروتينياً تمامًا، مثل الذهاب لمكاتب الهاتف والكهرباء لسداد الفواتير أو الاتصال بشخص ما لإصلاح اتصاله بالإنترنت.

يعترف فرانسوا بأن حياته مريحة بشكل موضوعي، وهو يعتبر من الذواقة الجيدين للطعام، ويمارس بعض الرياضات الشكلية، وله بعض الطموحات المهنية وغيرها من المساعي، لكنه يفشل في إقامة علاقات الصداقة العادية مع أمثاله من الذكور، ويعتبر العلاقات الجنسية الوحيدة القادرة على توفير الإمكانيات في حشد التعزية له في وحدته.

يفشل فرانسوا في الشعور بالسعادة حتى مع بنات الهوى الذين يستأجرهم، ويتغلب عليه شعور بالفراغ الوجودي، ويحس بأن ليس لحياته أي معنى أو قيمة، نجد أن نظرته للحياة تصبح متشائمة بشكل متزايد، وعندما يصاب بطفح جلدي في قدمه، ينتابه إحساس بأن جسده -رغم أنه لم يعد قادرًا على إشعاره بالمتعة- لا يزال قادرًا على التسبب له في الشعور بالآلام المزعجة، و في إحدى المرات عندما يستيقظ فرانسوا عند الساعة الثالثة صباحًا بسبب الشعور بالفراغ الوجودي ينظر من خلال نافذته إلى البنايات المضيئة من حوله والتي تحتوي على خلايا من الشقق الصغيرة التي يسكنها أناس عزاب مثله، يمثلون آلاف العزاب، والذي صارت تعج بهم أركان العاصمة الفرنسية باريس، الشعور بالضيق الوجودي الانتحاري والعزلة العاطفية التي يشعر فرانسوا صارت إحدى مشاكل المجتمع في الغرب، يتعرف فرانسوا على نفسه في رفاقه من البشر من حوله، ولكن بسبب سوء فهمه العام وبغضه لذاته لا يؤدي هذا الاعتراف إلى الشعور بالتضامن مع غيره من دون عزاء ديني ودون أي إمكانية للعثور على معنى في الحياة من خلال الأسرة أو العلاقات الدائمة أو المشاركة الاجتماعية، والتي من دونها ستترك لفرانسوا فرصة الاكتئاب المتمثلة في كونه سيشيخ وحيداً ومن دون أي شيء يعطي لحياته ووجوده قيمة و معنى.

استلام حزب الجبهة الإسلامية رئاسة فرنسا في 2022

يشبّه الذعر والقلق الذي ينتاب فرانسوا كفرد ذري في مجتمع غارق في الحرية الشخصية ما ينتاب شخصيات أخرى في روايات أخرى للكاتب ميشيل هوليبيك، لكن هوليبيك يتحدث في السياق الأوسع للتغيرات السياسية والاجتماعية العميقة التي تحدث في فرنسا، ونجد في وسط الطبقة الوسطى كره لافت لا يخفى للعين تجاه المؤسسة السياسية ورموزها، تبرز الجبهة الوطنية وحزب الجبهة الإسلامية كمنافسين رئيسيين في الانتخابات الرئاسية والوطنية لعام 2022م. وتحت القيادة الماهرة للسياسي “محمد بن عباس”، يتمكن حزب الجبهة الإسلامية من تشكيل تحالف مع اليسار ويفوز في الانتخابات.

كيف تصبح فرنسا بعد أن تستلمها الجبهة الإسلامية؟

على الرغم من أن الفترة التي سبقت الانتخابات تميزت بوقوع أعمال عنف وأعمال شغب واغتيالات، إلا أن تحول فرنسا إلى دولة إسلامية بعد الانتخابات يحدث بسلاسة وسلمية، وهنا بعد فوز الجبهة الإسلامية تأخذ النساء في ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، كما صرن ميالات على ترك العمل والتزام البيوت، يتم تنشيط الاقتصاد الفرنسي في ظل النظام الجديد بدعم سخي من بعض دول النفط في الخليج، يتم السماح ببناء الكنائس والمدارس الكاثوليكية والحانات ومولات التسوق الفاخر في ظل النظام الجديد، الذي يؤكد وأنه في سعيه لتحقيق أهدافه الأيديولوجية سيعزز خط الاعتدال واتباع سياسة الإقناع على الإكراه.

ما القرار الذي يتخذه “فرانسوا” بعد استلام الإسلام حكم فرنسا؟

وعند عودته إلى باريس من الريف حيث لجأ إلى ما كان يعتقد أنه كان بوادر حربًا أهلية وشيكة، تلقى المحاضر الجامعي فرانسوا عرضاً من قبل “روجيه ريديجر” (رئيس جامعة السوربون الإسلامية) كما صارت تسمى الآن، أن يسعى إلى اعتناق الإسلام والعودة إلى الجامعة والتي صار بإمكانها تقديم عرض مريح فيها بعد أن ضخت دول الخليج النفطية فيها أموالاً وفيرة.

ويشرح مدير جامعة السوربون “روجيه ريديجر” لفرانسوا كيف أن الإسلام هو العقيدة الوحيدة القادرة اليوم على إنعاش الثقافة الأوربية المريضة، ولكن تبدو اهتمامات فرانسوا هي أبعد من معالجة أمراض الثقافة الأوربية الحديثة، بل إن اهتماماته الحالية صارت تنصب فيما سيحصل عليه من مكاسب مادية من العرض الجديد للتدريس في الجامعة، وكذلك تحت التأثير بالحصول على عدة زوجات صغيرات مطيعات، يقرر فرانسوا التحول أو الدخول في دين الإسلام.

رواية “الاستسلام” تثير الجدل لدى النقاد

بعد نشر رواية “استسلام” في عام 2015م ظهرت مجموعة من المقالات في الصحف الفرنسية والانجليزية تدحض فكرة أن الرواية تسخر من الإسلام وأنها تعزز من موجة الكراهية أو الإسلامفوبيا في المجتمع الفرنسي، وقد أجمع كثير من نقاد الأدب الذين تناولوا الرواية أن رواية “استسلام” إنما هي نقد موجه للمجتمع الفرنسي المعاصر، فالصراعات الموجودة داخل الرواية لم تكن موجهة لخطر خارجي محتمل من الإسلام بقدر ما هو خطر داخلي مبعثه المجتمع الفرنسي نفسه، فالكاتب “آدم جوبنك” في مجلة (النيويوركر الأمريكية الأدبية) يرى في الرواية أنها تعبر أكثر عن حالة “فرانكوفوبيا” وحالة اللزوجة التي انتابت الراوي والطبقة الفكرية والسياسية في المجتمع الفرنسي، وأن التهم الموجهة لميشيل هوبليك بأنه يؤجج “الإسلامفوبيا” ليست في محلها وإنما هي تعبر عن حالة “فرانكوفوبيا”، وتهاجم التواطؤ وسرعة انخراط الطبقة السياسية في النظام السياسي الجديد لابن عباس. ويمضي الناقد “آدم جوبنك” هنالك شخصيات في الراوية تستوجب الاحتقار، أمثال السياسي فرانسوا بايرو الذي يتنقل بين اليمين واليسار في الإنتخابات، وفي النهاية يتحول نصيراً لابن عباس ومتحدثاً رسمياً باسمه”.[1] ويرى “جوبنك” في الإطار العام ولع الفرنسيين عموماً بحالة الخمود و “الاحتضار” والتشاؤم المرضي ويربط ذلك بالقلق الفرنسي من احتضار اللغة الفرنسية كلغة عالمية.

وفي مجلة نيويورك تايمز لعرض الكتب يعرض الناقد “مارك ليلا” إن الكتاب يعرض لأزمة الحضارة الغربية، وإفلاس القيم الروحية فيها وأنه “ليس هنالك شك في أن الكاتب هولبيك يريدنا أن نرى بأم عيوننا سقوط حضارة أوربا الحديثة وصعود حضارة إسلامية مكانها بأنها مأساة في حد ذاتها.” [2] ولكن مشكلة هذا التفسير من مارك ليلا أنه يتغاضى عن التحسينات التي بدأ يدخلها نظام أبن عباس الإسلامي في الحياة العلمانية للفرنسيين، وإذا ما كانت هذه القيم العلمانية تستحق أن يدافع عنها في النهاية، وما يريد أن يقوله هولبيك أيضاً أن الركض العنيد خلف الحرية الشخصية في العالم الغربي والتحرر من كل أشكال السلطة والحرية من غير قيود والجري خلف المصالح الذاتية قد يقود الحضارة الغربية للكارثة.

ويتحدث الناقد “لويس بيتي” في دورية (الندوة الفرنسية) عن ضرورة الرجوع للظرف التاريخي عندما نناقش المشاكل التي أوردها ميشيل هولبيك في روايته، وعن ينابيع مشاكل المجتمع الليبرالي الأوربي التي تعود إلى عصر الأنوار، وعن التخلي عن القيم الموروثة لقيم الحداثة التي وضع أسسها فلاسفة الأنوار، وعن “خيبة الأمل في معالجات القرن التاسع عشر المثالية للأمراض الاجتماعية وعن ضرورة الرجوع إلى الشكل التقليدي للنظام الاجتماعي القديم وهي العائلة، الأرض، والكنيسة، ومحاولة بعث القيم الروحية والأخلاقية التي بدأت في الاضمحلال.”[3]

إن فكرة رواية “استسلام” في عمومها لا تتحدث عن إفلاس المجتمع الفرنسي المعاصر، بل عن تداعيات فلسفة الأنوار في مجملها والتي كما يراها هلويبيك نفسه في مقابلة مع الناقد “سيلفان بورميو” في مجلة “باريس ريفيو”، وفي هذه المقابلة أقر ميشيل هولبيك أن العنوان الأساسي الذي كان قد اختاره لروايته هو “التحول  Conversion”، وفي المخططات الأولى للرواية يقوم الراوي داخل القصة (فرانسوا) بالتحول نحو الديانة الكاثوليكية، سائراً على خطي أستاذه هوزمانس.

تناقضات في كتابات “ميشيل” حول الأمور المتعلقة بالدين      

لقد أحس ميشيل هوليبيك أن تحول بطله للإسلام دين ما زال يتمتع بالحيوية، وفي صعود قد يكون مقنعاً أكثر للقارئ الفرنسي من الكاثوليكية، والتي لم تعد ذلك الدين الجذاب، لقد صار المؤلف مقتنعاً بفكرة أن دور الإسلام في داخل القصة هو بديل حيوي للمسيحية، ومحفز وباعث للقيم التقليدية، ويقول ميشيل هليبيك أن فكرة الدين عموماً مهمة، لأنه لا يتخيل أن المجتمع يمكن أن ينجو من غيرها، وأن قيم فلسفة الأنوار يجب أن لا تعتبر المراحل الأخيرة للتطور التاريخي أو ما يسمى بنهاية التاريخ لانتصار فكرة الليبرالية المستمدة من فلسفة الأنوار.[4]

في بعض رواياته المتعددة تناول هولبيك إمكانية أن يستخلص الفرد بعض الفوائد من الدين من غير أن يكون مؤمناً كاملاً، ولكن في رواية “الاستسلام” تكلم بوضوح عن ضرورة وجود الإيمان الكامل، كما أوضح أنه كان ذات يوم ملحداً، ولكنه اليوم صار “محايد دينياً” ويضيف قائلا “أن الرواية تتحدث عن نهاية فلسفة الأنوار، والتي لم تعد تعني شيئاً ذا معنى لأي أحد في مجتمعنا الآن، لقد ماتت.. دعوها ترقد في سلام.” [5]

توضح رواية “الاستسلام” Soumission أن الرجوع للدين في المجتمعات الغربية قد صار ممكناً اليوم، وليس مجرد فانتازيا نتخيلها في القصص والروايات وكتابات بعض المحافظين، لأن فلسفة الأنوار لم تعد تشبع الجانب الروحي، الذي صار مفقوداً في داخل هذا المجتمع في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

المصادر والمراجع: 

[1] Adam Gopnik, “The next Thing”. New Yorker January 26, 2015: http://www.newyorker/magazine/2015/01/26/next-thing

[2] ’Mark Lilla, “Slouching Towards Mecca” New York Review of Books http://www.nybooks.com April 2. 2015

[3] Louis Betty, “Michel Houellebecq and the promise of Utopia.”French forum Spring-Fall (2015):100

[4] Michel Houellbecq, “Scare Tactics: Houllebecq Defends his Controversial New Book”. Paris Review, February 2, 2015.

[5] نفس المصدر

فيديو مقال رواية الكاتب الفرنسي المعاصر ميشيل هويبليك “الاستسلام” وأزمة الفرد في الحضارة الغربية

أضف تعليقك هنا