لستُ سوى هندباء برية

بقلم: آمنة عبدالكريم

 كاتبة وباحثة من سوريا

يعود بي رمضان دائمًا إلى فترة مرض جدتي لوالدي في الدوحة.. فهو الشهر الذي فارقتنا في أواخره عام 2015.. ويعود بي كذلك لأيام اختبرتُ فيها تفاصيل الفقد عن قرب وتدريجيًا.. وتعرفتُ فيها على الموت وجهًا لوجه.. ورأيته ملء العين يتسلل ببطء ويتمدد في المكان ويمتطي عنق الوقت ليختار لحظة الأجل.. بعد أن كان يأتيني نبأ وفاة أقربائي في سوريا سريعًا وباردًا عبر الهاتف..

حين لم تعد جدتي -رحمها الله- في أيامها الأخيرة قادرة على الكلام ولا على عناق والدي عندما كان يُقبلُ عليها في المستشفى… كان هو يقترب منها ويطيل النظر في عينيها بصمت لساعاتٍ طويلة.. وكانت هي تُحدق في اللاشيء الذي كنتُ أسميه الموت حينها لأنني كنتُ أشعر أنها لم تعد ترانا بل ترى شيئا واحدًا فقط هو فوق قدرتها على التعبير.. لكنها كانت تقبضُ على يد والدي بقوة.. ظلت يدها حتى آخر لحظة في حياتها أقوى ما فيها..

منذ أن أرخت قبضة يدها عن الدنيا وتركتها إلى ما بعدها.. شعرتُ باهتزازٍ عميقٍ في جذوري.. وهشاشة لا تليق باسم “آمنة” الذي اقترنت سِماته الشخصية في عقلي بهذه الإنسانة الصلبة الصابرة.. كنتُ دائمًا أقولُ لوالدي أنني غير راضية عن اسمي.. فهذا الاسم الموروثُ عن جدتي هو “ورطة” وشخصيتي الحالمة تؤرقها الصلابة المخبوءة في المعنى الموروث للاسم.. فهي تشبه أشجار الزيتون.. وأنا أمامها لستُ سوى هندباء برية تُؤرق سكينتها النسمة العابرة.

جدتي آمنة لم تكن مُترفة ولا بيدين ناعمتين.. كانت عزيزة النفس قوية وحازمة.. كانت تعتزُ بأشجار الزيتون والتوت والرمان والتين التي زرعتها وأجدادها في الأرض التي ورثتها عنهم كما تعتزُ بأبنائها تمامًا.. كانت تتحدثُ عن أشياء لم أكن أعطي لها أهمية ولا حتى الانتباه اللازم، فحين كانت تذكرُ أيام السعد في حياتها تتحدثُ عن مواسم الحصاد.. وحين تتحدثُ عن أمجادها الشخصية تروي تفاصيل لم أكن أدرك قيمتها الفعلية بالعمق اللازم.. فتذكرُ عدد أشجار أرضها وقصة كل شجرة فيها.. كانت تروي بغرورٍ جميل قصة تفوقها على جدي في مجال الزراعة.. كانت تقول جدك “فرَّان” أما أنا “فلاحة أبًا عن جد” وكانت ترى أن هذا أميز ما فيها.. وكانت تردد: “ربيت الشجر.. شجرة شجرة متل ما ربيت ولادي”.. تذكرتُ هذه الجملة عند دفنها.. وأنا أتأمل عن بُعد الحفرة الجافة والمساحات الخاوية هنا في هذه الصحراء القاحلة التي ابتلعت جدتي بعطشٍ.. إذ أظن أن الرمال لم تحظَ من قبل بوردة مروية بالحب مثلها..

رددتُ في قلبي عند دفنها: “جدتي تستحقُ شجرة تحنو عليها بظلالها من حرارة الشمس القاسية.. شجرة بأوراق غضة وبجذور لطيفة تُعانق جسدها تحت التراب.. جدتي تستحق وردة مدللة تبذل نداها برقةٍ فوق وجنات تربتها.. جدتي الفلاحة تنتمي للتراب لا للرمال.. فكيف أشرحُ هذا للقضاء والقدر؟ ولظروف المكان والزمان.. وللأجل الذي لا تعنيه هذه التفاصيل حين يتربصُ بالإنسان؟”.

في لحظة الحقيقة المطلقة يفقد الانسان المنطق.. أو ربما تفقدُ فتاة حالمة مثلي منطقها كليًا حين تُباغتها حقيقة ليست مستعدة لتصديقها.. شعرتُ بهشاشة جذوري وأنا أراقب الرمال تنهال فوق جسدها.. وتبتلعه.. وتمحي أثره كأنها ما كانت.. نعم الرمال ابتلعتها وابتعلت تاريخها.. وامتدادها.. وأشجارها.. ابتلعت بقعة خضراء نضرة في القلب اسمها ” آمنة”.. أسأل الله أن يرزقكِ الجنة بغير حساب أيتها الندية.. رحمك الله رحمة واسعة وجمعني فيكِ بالآخرة في جنة عرضها السماوات والأرض.

 

بقلم: آمنة عبدالكريم

 كاتبة وباحثة من سوريا

“جدتي تستحقُ شجرة تحنو عليها بظلالها من حرارة الشمس القاسية.. شجرة بأوراق غضة وبجذور لطيفة تُعانق جسدها تحت التراب.

 

أضف تعليقك هنا