لا عشنا.. ولا عاش الوطن

ما هو الوطن

الدولة ليست الوطن ولم تكن في يوم ما وطنا هذا مدلول حاول ميخائيل باكونين ان يشير اليه وتجلت هذه المقولة لتصبح عنوانا ازلي ينطبق على مراحل سياسية وثورات شعبية عديدة عاشتها الشعوب وعرفتها حتى قبل ان تقال بالصيغة التي وردت عليها وهذا ليس بالغريب فالأفكار حسب ما وصلنا من فلسفة ابن رشد لها اجنحة وتطير وهي مفاهيم ازلية لا يسنها الفلاسفة لكن تبنى مثلما تبنى الحضارات والعديد من المقولات التي نقدسها ونعيد صياغتها وتقديمها للمجتمع بطرق تتلاءم مع ظروفه العامة وقد تختلف وتطير لتحط في اماكن مختلفة لكنها تتطابق في التوصيف مع خاصيات الشعوب اجتماعيا وسياسيا وحتى دينيا وان حاولنا تأكيد هذا الكلام قد ننجح في ذلك عبر دراسة لتاريخ حضارات مختلفة.

تاسيس مدينة قرطاج

يمكننا ان نبدئ من بداية تأسيس مدينة قرطاج التي تحولت منذ تأسيسها في سنة 814 ق.م كمرفأ ومجرد مدينة فينيقية على اراض لوبية الى امبراطورية عظمى تسيطر على ضفاف المتوسط وبالتالي تسيطر على التجارة العالمية وتعد هذه الحضارة التي بناه الفينيقيون والبربر مثالا للتعايش ومثالا اخر يثبت كون الدولة ليست بالأساس هي الوطن فالفينيقيون عندما غادروا لبنان حاليا مهم كانت اسباب مغادرتهم وان كانوا مصحوبين بديدون (عليسه) او بدونها لجئوا الى ارض ليسوا مرتبطين بها تاريخيا رغم ان مدينة لهم تدعى اوتيك لا تبعد الكثير عن موقع بناء قرطاج وقد نجحوا فعلا ببناء حضارة من الحضارات العالمية القديمة وحتى في اساطير الميثولوجيا الإغريقية والرومانية ومن اهم مصادرنا هنا فرجيل فقد فضلت ديدون ان تضحي بحياتها على خراب المدينة التي بنتها على ارض لا تنتمي اليها اما تاريخيا فقد استمات الفينيقيون الي جانب السكان الاصليين في الدفاع على قرطاج في حروبها ضد الاغريق والرومان وحتى ان نظرنا في معنى كلمة قرطاج “قرت حدشت” اي المدينة الجديدة اسم لو نضرنا في ابعاده نستطيع ادراك ان هذه المدينة الجديدة هي وطن جديد فليست الدولة فقط لا تمثل وطنا بل حتى الارض ليست وطنا فالوطن هنا كيان معنوي لا وجود جغرافي له بل هو مترسخ في عقول البشر وقابل للسفر عبر مسافات جد طويلة.

الأندلس وتدخل السلطات العثمانية

ان قفزنا بالتاريخ دون تغيير البلاد الى سنة 1614 حيث بدأت حملة طرد المسلمين من الاندلس وبتدخل من السلطان العثماني احمد الاول والبندقية افسح عثمان داي المجال لما يقارب الثمانين الف مورسكيا او يزيد ليعيشوا في تونس وقد نجحو بدورهم بخلق نوع من الحركية الاقتصادية والثقافية داخل الايالة التونسية وبنوا مدنا عديدة تركزت بالأساس في شمال البلاد والوطن القبلي كمدينة تستور ونيانو وقرمبالية والقلعة وراس الجبل واندمجوا في التجارة والسياسة وقدموا كما هائلا من الزاد المعرفي والثقافي ويتجلى اهم اثراءهم في كل ما هو اندلسي في الموروث الثقافي والموسيقي واللغوي التونسي وسنلاحظ عبر قراءتنا للتاريخ ان الاندلسيين المتشبعين بالثقافة الاسبانية حتى ان اغلبهم لم يكن يجد اللغة العربية ورغم ذلك لم نلاحظ حملات عودة او تشبثا بما طردوا منه خصوصا انه يجب الاشارة ان طرد المسلمين من اسبانيا لم يتم الا بعد فترة طويلة من سقوط الحكم الاسلامي بالأندلس وقد عاش المورسكيون لأجيال تحت الحكم المسيحي الذي مثل بالنسبة لهم الدولة التي حتى لا تعترف بهم كمواطنين اما الوطن بالنسبة لهم فقد تحول من شيء مادي الى ذكرى تمت احياؤها بعد الخروج مطرودين من اراض كان اجدادهم قد دخلوها غازين.

التاريخ التونسي والحملة الفرنسية

وحتى ننهي وحتى لا نخرج من نفس البلد فنحن قادرون على مواصلة النظر في التاريخ التونسي عبر قراءة موضوعية لتاريخ اسرة من اكثر الاسر الحاكمة المختلف حولها وهي الاسرة الحسينية التي عمرت لما يفوق القرنين ويجب الاشارة ان مؤسس هذه الاسرة يعتبر من اب تركي وام من قبيلة شارن قبيلة من اكثر القبائل التونسية تأصلا وترسخا في ثقافة الارض وربما هذا المزيج هو ما خلق مفارقة عظيمة فالإيالة التونسية كانت تتبع حتى الحماية الفرنسية الباب العالي لكنها علما مختلفا بعض الشيء عن السنجق العثماني ويعيد المؤرخون القدامى ان اعتماده رسميا كان قبل حتى الاعتماد الرسمي للعلم التركي وكان للحسينيون كذلك قرار مستقل عن الباب العالي ترسخ منذ بداية حكم السلطان حمودة باشا الحسيني حتى استصدار خير الدين باشا لفرمان من الحاكم العثماني يقضي بمنح اقصى حد للحقوق للتونسيين ويمنحهم استقلالية افضل فضلت العلاقة علاقة دينية واجتماعية بحتة من اجل ارضاء رعية لا تزال تمتلك نفس التصور للدولة العثمانية كالمنقذ القوي وحامي حمى الدين وما يمكن ان يستخلص من هذا ان النسب عنصر شديد الاهمية في ترسيخ مفهوم الوطن لكن النسب غير قادر لوحده لخلق وطن فالوطن يحتاج سيادة واستقلالية والا تحول الوطن اذا تحقق طبعا الى تبعية في مختلف المجالات يتخذ المغلوب فيها وطن الغالب ككيان يحتمي به.

أرض الوطن 

يبدو ان التاريخ وكالعادة يجيبنا عن كل اسئلتنا وسؤالنا كان هل الوطن هو الدولة فالتاريخ بنظرة بسيطة فيه يؤكد ان الوطن ليس مجرد دولة او ذكريات او دين او نسب او حتى ارض الوطن هو قيم وانتماء يجمع كل ما تم ذكره تحت عنوان كبير يسمى المواطنة او بكل بساطة ان تنتمي انت للوطن وان ينتمي الوطن اليك بدوره فيقول الشاعر احمد مطر
إن لم يكن بنا كريماً آمناً، ولم يكن محترماً، ولم يكن حُراً
فلا عشنا.. ولا عاش الوطن

فيديو مقال لا عشنا.. ولا عاش الوطن

 

أضف تعليقك هنا