فلسفة اللغة عند فتجنشتين

بقلم: فاطمة الشبلي

فلسفة اللغة عند فتجنشتين “دراسة حول مفهومها” في كتابه تحقيقات فلسفية

الفلسفة ونقد اللغة

كل فلسفة هي “نقد للغة”،يأخذ هذا الطرح منحى نظرية معرفية ومع ذلك لا يحدد هذا الإتجاه في كتاب”مصنف فلسفي منطقي” ولا تتأكد هذه الوجهة إلا مع “تحقيقات فلسفية”، فقد أصبحت الفلسفة مع هذا الكتاب نوعا من نقد اللغة الخالص، تبحث فلسفة اللغة في طبيعة اللغة وعلاقتها بالكون،كيف تصف اللغة الكون أو تمثله؟ ما هي علاقة الإسم بالمسمى؟  كيف نقارب مفهوم التفكير من هذا المنطلق؟ هل يمكن مثلا لنا التفكير من دون لغة؟ وماذا عن الفهم؟ ماذا يعني أن نفهم قولا؟ ما هي طبيعة علاقة المتخاطبين الواحد بالآخر؟ وما المعنى؟ هذه أهم الأسئلة التي تطرحها فلسفة اللغة.

ما اللغة؟

واللغة هي الطريق إلى المعرفة باعتبارها وسيلة لفهم تكوين المعنى في الخطاب،ونظرا لعلاقة التضمين أو التوازي بين اللغة والتفكير فلا سبيل إلى فلسفة التفكير والمعرفة والفهم دون اللغة،”إذ أن كل شيء يحدث داخل اللغة”.

هناك عمليتان تحدثان داخل اللغة:

الأولى:

خارجية تتمثل في التعامل مع العلامات.

الثانية:

داخلية: تتمثل في فهم تلك العلامات،وتكمن مهمة الفيلسوف حسب فتجنشتاين في إحباط ألاعيب اللغة والتفطن إلى أفخاخ النحو في مستويي الإستعمال(الداخلي والخارجي)،لأن المشاكل الفلسفية هي عبارة عن سوء فهم يزيله توضيح القواعد التي نستعمل الألفاظ بموجبها،فنحدد الفلسفة باعتبارها مقاومة فتنة تفكيرنا بواسطة لغتنا.

الفلسفة والمنطق

لم يعد مهم بالنسبة إلى الفسلفة والمنطق أن نبين ما هي القضايا الصادقة والقضايا الكاذبة في علاقتها بالواقع،بقدر ما يهم النحو ما سيمكننا من تمييز القضية ذات المعنى من القضية عديمة المعنى،وعليه فإن مشاكل الفلسفة ليس سببها نقصا في المعرفة بل خلط وتراكم غير منتظم للمستويات.

الإشكال الفلسفي

إن أصل الإشكال الفلسفي نوع من الوهم ناشيء عن تشعب نحو اللغة اليومية وتراكب مستوياته،من شأن الفلسفة أن تخلصنا من أوهامنا،فتتمثل مهمتها إذا في معالجة هذه الأمراض بالإشارة إلى موضوعها بوصف الشكل النحوي،فلا يوجد منهج واحد في الفلسفة بل توجد مناهج عديدة،أي إن صح التعبير”طرق علاج مختلفة”،والآداة الأولى في هذا العلاج هي وصف ملائم للغة يكشف أفخاخ مغالطات المتشابهات ويكون “اللعب اللغوي” باعتباره مستودع القواعد النحوية،ولن يتسنى ذلك كما هو الحال في كتاب “مصنف” وذلك بتقنين الإستعمال المثالي وباستخراج الشكل المنطقي الكامن في طيات القضايا،هذا الشكل المنطقي الذي يخفي علاقات عديمة المعنى،ولن يكون ذلك بالتدخل المباشر بإقصاء بعض العبارات أو الرموز والأدوات المنطقية،أو بإدخال ترتيب خاص على نحو اللغة،إذ لا نريد تهذيب أو تحسين نظام قواعد استعمال ألفاظنا.

ألعاب اللغة

يقرب فتجنشتين اللغة من اللعبة،بل يعتبر أن اللغة تتمثل في مجموع الألعاب اللغوية الممكنة،وأوجه الإستعارة متعددة فاللعبة تتضمن القواعد تماما مثل اللغة،واللعبة فعل مثل اللغة،واللغة مكونة من ألفاظ مثلما تكون اللعبة من قطع وأشكال،واللغة نظام فيأخذ فيه كل لفظ مكانه بسب كل قطعة أو شكل في اللعبة قيمتها من القطع الأخرى،وأخيرا فإن اللغة مؤسسة إجتماعية لا يمكن تصورها خارج عمليات التبادل،لذلك ارتبطت اللغة بشكل حياة.

هكذا تنتمي اللغة إلى تاريخنا الطبيعي،تاريخ تجاربنا واستعمال الألفاظ والعبارات،أي مجموع الألعاب اللغوية مرتبط بالمؤسسة الإجتماعية التي عقدت الألعاب واللغة بحيث لم يعد من الممكن التفاهم باستعمال اللغة خارج النظام ذاته(شكل الحياة)،فأن تفهم لفظة يعني أن تفهم قضية،وأن تفهم قضية يعني أن تفهم لغة،واللغة هي تعبير عن شكل حياة.

مناهج الفلسفة:

لا يوجد منهج وحيد في الفلسفة بل توجد عدة مناهج أي إن صح التعبير طرق علاج مختلفة وليست الفلسفة سوى طريقة بحث،وكل اختيار يتضمن بالضرورة تأويلا، لكن عم وفيم تبحث الفلسفة؟ هل هناك فرق بين منهجها وموضوعها؟ ألا تكون طريقة البحث متعلقة بالسؤال المطروح؟ ألا تشي كيفية البحث بموضوعه؟ يقول ل.ف: أخبرني كيف تبحث وسأخبرك عما تبحث.

إن فلسفة نجيب بها بسؤال عن سؤال آخر لا تبحث عن تفاسير وحلول بقدر ما تشير إلى المسائل الحقيقية التي يتوجب عليها التوجه إليها،ليس من مهام الفلسفة أن تفسر الوجود أو اللغة أو أن تقدم فرضيات وطروحات،بل أن تصف أو أن تحلل ما هو موجود،بهذا تصبح وصفا نقديا أو تحليلا للغة،وإذا كانت الطريقة “وصفية خالصة” فلأنها لا تبحث عن تفسير المظاهر بقدر ما تحاول أن تضع عليها الإصبع أو تدير نحوها الإبهام المشير إلى اتجاه الخروج من المآزق حيث وضعتنا الفلسفة التقليدية التي عقدت اللغة والتفكير باعتباراتها الماورائية،لأن أهم مشاكل الخلط في الفلسفة سببها محاولة إيجاد تفاسير لقضايا لا تحتاج لتفاسير بقدر ما تحتاج إلى رؤية،إنا نرى في الفلسفة إشكالات حيث لا وجود لها بينما ينبغي أن ترينا الفلسفة أنه لا وجود لإشكالات حيث نرى أنها موجودة.

الفلسفة وصفة علاج:

يعالج مرض عصر من العصور عبر تغيير الناس نمط حياتهم،ولكن الأمراض الفلسفية لا يمكن أن تعالج إلا بتغيير نمط التفكير وليس بواسطة دواء ابتدعه شخص واحد،وأصل هذه الأمراض يتمثل في أننا نسعى دائما لتفسير الأشياء إضافة إلى قلة أو عدم المعرفة بنحو اللغة والخلط بين مستويات إنتاج المعنى،أي اعتبار المعاني المجازية من الصنف نفسه للمعاني الأوائل،أليس أصل اللامعنى هو استعمال الفلاسفة دون وعي ألفاظا متعددة لتفكيك المشاكل وانحلالها دون حاجة إلى حلها.

هل الفيلسوف هو الذي سيعالج أمراض العصر؟ لا،الفيلسوف ليس إلا شخصا مريضا عليه أن يعالج العديد من أمراض الإدراك في داخله قبل أن يتمكن من الوصول إلى مدارك الناس السليمة،وكل عمل في الإتجاه الصحيح يتضمن العمل ضد مداخل النفس أو في النفس وعليها،وهذا العمل معقد تعقيد الذات،ولكن إذا كانت للفسلفة وظيفة علاجية لمداواة سوء الفهم وتعقيد سوء استعمال الألفاظ في اللغة اليومية،فهل يصح أن يكون”شخص مريض” فيلسوفا؟ وهل يستطيع لمن لا يملك أن يداوي نفسه أن يداوي غيره؟ ألا يتضمن هذا حصر الفلسفة في نقد اللغة؟ وبالتالي ألا يبدو من يسعى إلى نبذ الدغمائية وكأنه يغالي فيها أو يتناقض أو على الأقل يتأرجح بين السبب والنتيجة والعوارض والوضفة؟ كلها متاهات أوقعتنا فيها تعقيدات اللغة والبحث عن التفسير.

أكثر من داء تقوم الفلسفة بعلاجه

الفلسفة علاج من داء التعقيد الماورائي،الفلسفة إرشاد لطريق الخروج من متاهات التعقيد الماورائي والحلقات المفرغة، ويتسنى بلوغ هذا المأرب باعتبار الأمور البسيطة في الفلسفة والتخلي عن فخفخة الماورائيات،لأن الأمر سيكون على قدر من السخرية إذ لم نتمكن من تحديد تعريف أو استعمال واضح لمفهوم بسيط من المبتذل العادي،فما بالك بالمفاهيم الماورائية المستعصية! ولهذا فللمسألة الفلسفية عند فتجنشتين هذا الشكل”لا أجد فيها نفسي” لأن التعقيد المغالط أفسد طريق اللغة وأضاع سبل الخروج،وعلى الفلسفة أن تجعل من يريد التوقف عن الدوران اللامتناهي وسط ترددات المتاهة أن يكون له ذلك: “إن الإكتشاف الحقيقي هو ذاك الذي يجعلني قادرا على التوقف عن الفلسفة عندما أرغب في ذلك”،ومن الطبيعي عندها أن يكون هدف الفلسفة إرشاد كل من يريد الخروج نحو المنفذ،إذا كانت هذه الفلسفة تسعى إلى البساطة وتبحث وتبحث عن طريق مباشر دون الإلتواء اللغوي فلماذا نراها مغقدة بهذه الصفة؟ مع أنه كان من المفترض أن تكون سهلة تماما؟

يجيب فتجنشتاين: إن الفلسفة تحل العقد التي أدخلناها في أذهاننا بطريقة غير معقولة،وهذا هو السبب الذي يجعلها تقوم بحركات بهلوانية لها التعقيد نفسه الذي لتلك العقد.

وإن تساءلنا: لماذا يكثر فتجنشتين من الأمثلة ويفضلها على التحليل أو العرض المنهجي؟ فيجيبنا: كي نؤسس لممارسة لا تكفينا القواعد بل نحتاج إلى الأمثلة،فقواعدنا تترك منافذ التهرب مفتوحة بينما الممارسة تتحدث عن نفسها،ولهذا ولغيره لم تعد التعريفات الدقيقة مهمة بقدر ما تهم الأمثلة.

على كلا يبقى يبقى سبب المشاكل الفلسفية سوء فهم يجب إزاحته بتوضيح القواعد التي سنطبقها في استعمال الألفاظ،فيأخذ التحليل اللغوي مكانة الهدف والوسيلة في هذا المشروع.

النحو عند فتجنشتين:

يحتل مفهوم النحو عنده مركزا تأسيسيا جعله تقريبا أهم مفهوم في فلسفته الجديدة إلى حد جعل البعض يتحدثون عن “منعطف نحوي” للإشارة إلى ما يعرف بالمرحلة الثانية من حياة فتجنشتين،ولكنه لا يقصد بالنحو نحو النحاة،فمفهوم النحو في تحقيقات يستعمل بالمعنى العام لا في المعنى اللساني،وغالبا ما نجده مستعملا في معنى مخصوص وهو يقترب من علم الدلالة أكثر ما يقترب.

إن النحو هنا يمكن إعتباره لغة من درجة ثانية،أو ما يسمى الماوراء لغوي،وهو لا يعترف بذلك في مصنف ولا في تحقيقات،لأنه لو كانت هناك إمكانية وجود شيء مثل هذا في مصنف لناقض البناء بأكمله ولأمكن قول ما لا يجب السكوت عنه،إذ أننا سنمر من وراء المرآة كما مرت أليس في بلاد العجائب،ولأمكن النفاذ إلى ماوراء الشكل المنطقي،أما في تحقيقات فالحديث عن اللغة لا يعدو أن يكون لعبة لغوية هو أيضا وليس لعبة فوقية،لأن الألفاظ التي تصف اللغة لا تنتمي إلى درجة أعلى من غيرها.

إذا كان لألفاظ مثل “لغة” “تجربة” “كون” استعمال فلا بد أن يكون في تواضع استعمال ألفاظ مثل “طاولة” “مصباح” “باب” وما ميلنا إلى اعتبار لغة أعلى من لفظة “باب” مثلا إلى نتيجة اعتبارنا اللغة العادية قاصرة وأنها بحاجة إلى لغة أرقى.

إن مسألة المعنى والمدلول من المسائل الجوهرية في الفلسفة،فهل يعني ذلك أن للمدلول فكرة ماوراء منطقية؟ لا،إذ ليس للنحاة والفلاسفة الهدف نفسه أو المبحث نفسه،فإذا استعمل الفيلسوف النحو التقليدي فإنه يفصله إربا ويقطعه بحسب استعمالات اللغة إلى مفاصل تختلف عن الأنظمة التفسيرية المسبقة التي يضعها النحاة،ولا يتفقان إلا في وصف الإستعمالات المختلفة دون اللجوء إلى استعمال لغة غير اللغة العادية،أي عندما يصبح من الممكن أن يقول النحوي مثلما يقول لوثر: “علم اللاهوت هو نحو لفظة الله”.

نتيجة

يرتبط النحو عند فتجنشتين بالفاظ مثل “قواعد” “لعبة لغوية” ولا سيما بلفظة “نظام” لأن النظام هو الحبا الذي يربط بين مختلف مكونات اللغة التي لا توجد بدونه،إذ تأخذ العلامة معناها في نطاق اللغة أو نظام العلامات الذي تنتمي إليه،فليس للرمز حياة خارج النظام ولا وجود للجزء خارج علاقته بالكل،إن العلاقات المحددة للكل هي التي تحدد وجود الجزء لأنك لن تفهم جملة ما إذا لم تفهم اللغة،وبما أنه ليس للجملة معنى إلا في نطاق نظام لغوي فيصبح النحو محور كل شيء ما دام كل شيء واضحا للعيان،ويلتقي النحو والنظام في مستوى الإنتظام الذي تعبر عنه القواعد (قواعد اللعبة)،لأنه ليس للكلمة معنى إلا في الإستعمال اللغوي ولأنه دون النظام يبقى كل ترابط بين الألفاظ ميتا.

إعداد وتقديم:فاطمة أكرم الشبلي

المراجع:

عبد الرزاق بنور،شروحات على كتاب تحقيقات فلسفية.

مراجع المترجم:

تحقيقات فلسفية، لودفيغ فتجنشتاين،(كتاب أساسي).

الكتاب الأزرق، لودفيغ فتجنشتاين.

الكتاب البني، لودفيغ فتجنشتاين.

بقلم: فاطمة الشبلي

أضف تعليقك هنا