قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية /3/ …. العسكر

في مدونته حوادث دمشق اليومية يذكر البديري الحوادث العظيمة التي فعلها العسكر في الشام والتي يشيب منها الرضع قبل الكبار، وقبل الحديث عن العسكر لا بد من التعريف بالمصطلحات التي استعملها في مدونته وهي مسميات الفرق العسكرية أيام العثمانيين، فالبديري يذكر الانكشارية والقبيقول والدالاتية والسباهية.

مسميات الفرق العسكرية أيام العثمانيين

إن هذه الفرق العسكرية نشأت في غالبيتها من ضريبة الدوشرمة (ضريبة الغلمان) التي فرضتها الدولة العثمانية على الشعوب المغلوبة في شرق اوروبا، وهذه الضريبة فُرضت على العائلات المسيحية وهي أن تقدم أحد أطفالها للدولة العثمانية وأن يكون عمره ما بين 7-10 سنوات، وهؤلاء يتم أخذهم لاسطنبول ليتم فرزهم حسب الشكل.

فمن كان شلكه جميلاً يُرسل للقصر للخدمة وفي الغالب يتم إخصاءهم لحماية حريم القصر منهم أو لحمايتهم منهن، والباقي يتم أخذهم للأناضول ليتم تجنيدهم وهم أطفال، ولاحقاً دخل في الخدمة بعض المسلمين من أبناء المدن ممن تم تجنيدهم وهم أطفال بسبب ظروف الحرب في بلادهم كالأكراد والبغاددة والموصلية.

  • الانكشارية:

    • هم المشاة في الجيش العثماني وعموده الفقري وولاءهم للسلطان ويتم تربيتهم على أن السلطان أباهم الروحي، ويتم إرسالهم إلى حاميات المدن حصراً لذلك تجد انتشارهم في المدن فقط.
  • القبيقول:

    • وتعني عبيد الباب أي الباب العالي، وهم يمثلون في وقتنا الحالي الحرس الخاص، ولاحقاً لعبوا دوراً في الحد من سلطة الانكشارية.
  • الدالاتية:

    • وهم فرق عسكرية مختلطة وأقرب الفرق لهم في وقتنا الحالي هم المرتزقة فقد كانوا يشكلون فرقاً مختلطة من البلقان والاتراك والألبان والأرمن وغيرهم، ويبقون قريباً من المدن للتدخل في الأحداث حالما يُطلب منهم ذلك.
  • السباهية:

    • وهم مثل الانكشارية في النشأة ولكن غالبيتهم فرسان ومهمتهم حفظ إقطاعيات الأمراء لذلك كان انتشارهم في حاميات الأرياف (الإقطاعيات).

حوادث العسكر في مدونة البديري

فتنة الانكشارية / الدالاتية عام 1159ه – 1746م:

وقعت في عهد أسعد باشا العظم بين الانكشارية والدالاتية، وسببها ازدياد فساد الانكشارية، وكان يرأسهم في سوق ساروجة أحمد القلطقجي وفي الميدان مصطفى جربجي، فلما اشتد الصراع أرسل أسعد باشا في طلب الدالاتية وهم مرتزقة تحت الطلب، فملك بهم القلعة وطرد الانكشارية، فقالوا: ((الست سعدية تريد أن تغدر بنا)) وذلك استخفافاً بأسعد باشا فلبسوا السلاح وعتوا عتواً كبيراً في شوارع دمشق بنهب المال وسبي الأعراض وسب الدين، فاشتدت المعارك بينهم وبين الدالاتية، فسكرت البلد أسواقها والبيوت أبوابها وزاد الفزع وكثر الهرج والمرج.

فوجه الباشا أسعد مدافعه على سوق ساروجا فاحترقت الدور وتهدمت بما فيها بيت القلطقجي، ونهبت عساكر الدالاتية البيوت، ثم تقدموا باتجاه الميدان فهرب الجربجي ومن معه وملكت عساكر الباشا حي الميدان فنهبته بالكامل ويقدر البديري عدد البيوت المنهوبة بخمسمئة بيت، ثم أرسل أسعد باشا لزعماء الحارات بالقبض على بقية الأشقياء الموجودين وتسليمهم ومن لم يفعل عليه غرامة كبيرة، فصاروا يتتبعون الأشقياء واحداً بعد واحد ويسلمونهم لعساكر الباشا.

ثم يذكر لنا البديري موت أحد رؤوس الدالاتية واسمه محمد آغا الديري بداء الزنطارية، ويقول أنه صاحب كل حركة وقعت بالشام وأنه مرتكب للفواحش وسكيراً وكان يقود الدالتية في سلب ونهب بيت الانكشارية بل أتى بأحجار وأخشاب بيوتهم لعمارة داره فمات قبل إتمام الإعمار.

فتنة الدالاتية 1160ه – 1747م:

والدالاتية زادت في العدوان والجور فشكاهم أهل دمشق للوالي أسعد باشا، فكتب للدولة العلية بشأنهم فجاءوا مرسوم بإبادتهم، فأمر منادياً ألا يبقى أحد من الدالاتية في الشام أكثر من ثلاثة أيام وذلك من أهل الفساد والعناد، وكل من يبقى فدمه مهدور، فخرجوا إلى خارج دمشق، فهم كما قلنا مجموعات من المرتزقة تبيقى قريبة من المدن وتكون تحت الطلب.

فتنة الأشراف والقبيقول 1161ه – 1748:

والقبيقول قضى عليهم الوالي عثمان باشا المحصل وأعاد أوجاقهم للشام أسعد باشا العظم، فقويت شوكتهم وبرموا اللفات كما يقول البديري، وفتنتهم مع الأشراف بدأت عندما اشترى رجل شريف طبنجة وجربها بإطلاق النار ففزع أحد آغوات القبيقول وكان نائماً فـأمر رجاله بإحضار الرجلين فضربهما ضرباً شديداً حتى تركهما كالأموات فقامت الأشراف وحدثت الفتنة التي قُتل فيها ثلاثة من الأشراف وجُرح كثيرون وسكّرت البلد كلها، فجمع أسعد باشا الأعيان كالمفتي والعلماء ونقيب الأشراف وحكموا أن يدفع القبيقول دية الأشراف واصطلحت الأحوال.

ويذكر البديري أيضاً أن تعديات القبيقول على الأشراف لم تقف عند هذا الحد بل استمرت، حيث ضرب رجل من القبيقول بطبنجته رجلاً من الأشراف كان ماراً بالقنوات فجرحه في بطنه، فقامت الأشراف وأهل البلد إلى أسعد باشا، فوعدهم بأن يقتل القبيقولي إذا مات الشريف فمات الشريف بعد الظهر، فأمر الباشا بالشهود فلم يشهد أحد وقالوا: من يشهد ليقتل، ويكون خصمه خمسة آلاف شقي من القبيقول، فذهب دم الشريف هدراً.

والملاحظ أن تعديات القبيقول على الأشراف كان ناتجة عن تحريض الوالي والدولة لأنهم كانوا معفيين من الخدمة العسكرية والضرائب وهذا ما أثار ضغينة الولاة جامعي المال عليهم.

فتنة الزرب 1161ه – 1748م:

ويسميها البديري فتنة الزرب وتعني الأشقياء، وحدثت هذه الفتنة بعد خروج أسعد باشا أميراً للحج وترك دمشق بيد المتسلم موسى كيخية، حيث دخل الشام الهاربون من فتنة الانكشارية المذكورة سابقاً بزعامة أحمد القلطقجي وموسى الجربجي ومعهم جماعة من الدروز، فسيطروا على الميدان ونهبوا البيوت ولم يقربوا من الحريم وهذا الأمر يعود يعود لوجود الدروز بينهم حيث لم يكونوا يقربوا الحريم بتاتاً وهذا شرف لهم يمتدحون فيه، والدروز دخلوا مع الزرب لأن لهم أسرى في قلعة الباشا أرادوا فك أسرهم.

فتحرك المتسلم وطلب الدالاتية والقبيقول ودارت المعارك العنيفة في شوارع دمشق، ولعب الدالاتية القادمون من صيدا دوراً كبيراً في حرق ونهب البيوت، فالشام وقعت بيد الأشرار من الطرفين، فطلب المتسلم معونة قبيلة بني صخر والفلاحين من القرى فصار عنده عسكر عظيم، وتمكن المتسلم أخيراً من التضييق على الزرب وهم الأشقياء، فحاصرهم وقتل منهم فولوا هاربين.

فهجمت عساكر الباشا على الميدان وأذن لهم المتسلم بالنهب والسلب من السويقة إلى آخر الميدان، فنهبوا البيوت وهدموها وسلبوا الأموال وقتلوا الرجال وسبوا الحريم وفضحوا النساء، فهدأت البلد ولكن الدمار كان عظيماً والنهب والسلب لا حد له، وقد عاين مؤرخنا البديري الأضرار بعينه عندما خرج للميدان حيث يقول: ((وأنا سرت مع من سار، فوجدناها قاعاً صفصاً والقتلى بها مطروحة والأبواب مكسرة والدكاكين مخربة وجدرانها متهدمة))،  وكانت الدور المنهوبة ألفاً وتسعمئة دار والدكاكين لا تحصى.

فتنة الأكراد – البغاددة 1163ه – 1750م:

وحدثت لما قُتل رجل من الأكراد بعد صلاة التراويح، فاتهموا فيه رجلاً بغدادياً فتسلحت الأكراد ووصلوا إلى الدرويشية وباب الجابية فهربت الناس من أمامهم، ثم في يوم الوقفة قتل الأكراد اثنين من البغاددة لأخذ ثأر القتيل الكردي، فتسلحت البغاددة والموصلية وساعدتهم القبيقول، وطلبوا خان الأكراد فنهبوا بعض قهواتهم وأرادوا الفتنة في البلد فنهاهم أسعد باشا فانتهوا.

فتنة الانكشارية والقبيقول 1170ه – 1757م:

وحدثت في رمضان أثناء ولاية حسين باشا مكي، وكان في تلك الأثناء خارجاً إلى الدورة قرب بعلبك، وكانت فتنة عظيمة بين أوجاق الانكشارية وأوجاق القبيقول، وساعدت القبيقول الدالاتية والأكراد والمواصلة، وحوصرت حارات الشام وكانت الغلبة للانكشارية بسبب المدافع التي ضربوا بها من القلعة لمدة يومين، وكان القتلى من العامة وقليل من الانكشارية والكثير من القبيقول، ولم يقف القتال حتى توسط بينهم النقيب حمزة افندي وبعض المشايخ وأصلحوهم، ولما عاد حسين باشا لم يحرك ساكناً.

ثم عادت الفتنة أشد من سابقتها بعد خروج حسين باشا أميراً للحج، وسبب تجدد الفتنة عودة رجل كردي اسمه ولي من اتباع أسعد باشا العظم إلى دمشق وكان هذا الرجل ظالماً لأهل الشام، فقامت الانكشارية والعوام لقتله فهرب للقلعة واحتمى بالقبيقول فحموه، فسكرت البلد أبوابها واحتدم القتال، وقامت القبيقول ومعهم أهل العمارة فأغاروا على الدرويشية وتقاوسوا مع الانكشارية حتى الليل فهجموا على حواصل الانكشارية وأحرقوها.

فقامت الانكشارية على أهل العمارة وطردوهم من دورهم وشردوهم إلى الجامع الأموي ثم أحرقوا دورها وأسواقها حتى صارت ساحة سماوية على حد قول البديري، ودامت هذه الفتنة أياماً حتى عقد الديوان عند الآغوات وأكابر الشام وجاء القرار بإخراج كل غريب عن الشام وكان غالبيتهم انكشارية وقبيقول، فأخرجوهم غصباً بالقتال وصارت كل حارة تسهر على حماية نفسها، ثم جاء الخبر أن الخارجين هجموا على القرى المجاورة للشام فنهبوا وسلبوا وقتلوا النفوس وهتكوا الحريم، فأرسلت الحكومة أوراقاً لأهل القرى أن اقتلوهم واطردوهم  فتعصبوا عليهم وطردوهم.

فتنة الانكشارية – القبيقول 1171ه – 1758م:

والملاحظ أن الفتن بين الانكشارية والقبيقول لاتنتهي والسبب أن الدولة العثمانية بدأت تحد من سلطان الانكشارية الذين عتوا في البلاد فوضعت في مواجهتهم القبيقول والدالاتية وغيرهم، وهذه الفتنة حدثت مع بداية دخول عبد الله باشا الشتجي لدمشق والياً عليها، وكان معه عسكر جرار من الدالاتية واللوند والارنؤوط، مما أثار حفيظة الانكشارية وعلموا أن هذه العساكر جاءت مع الوالي الجديد للحد من سطوتهم.

فلما طلب الوالي الجديد آغواتهم للحضور رفضوا واجتمعوا وتعصبوا لبعضهم فكان عددهم عشرين ألفاً وأكثر، وبدأ إطلاق النار واستعر القتال من حارة السويقة إلى باب الجابية باتجاه السرايا، فاغتاظ الوالي وهجم بعساكره عليهم فكسرهم وفروا هاربين، فهجمت عساكره على البلد فلم يتركوا كبيراً أو صغيراً إلا قتلوه أو أسروه، ولم يتركوا بيتاً ولا دكاناً إلا ونهبوه إضافةً للسلب والسبي وهتك الأعراض، ولم ترَ دمشق مثل هذه الفظائع من أيام تيمورلنك كما يقول البديري.

وكانت هذه الفتنة كارثة على دمشق وأهلها، فالدور المنهوبة كانت أربعة وعشرين ألف دار ومن الدكاكين أكثر من ذلك، وطلب الوالي إعادة جميع المنهوبات فلم يسترجع منها سوى القليل، ثم جمع أعيان دمشق وزعماء الحارات وأمرهم أن يكتبوا بأن الباشا رد جميع المسلوبات للناس في الحال وأن يضعوا ختمهم على ذلك وهذا غير صحيح.

ثم أرسل الباشا عساكره لمطاردة فلول الانكشارية في القرى والبراري فقتلوا الناس وأسروا الأولاد والنساء وهتكوا الأعراض وكثر الجور في البلاد، والباشا لم يرد عساكره حتى طغوا في البلاد، فاضطر لأن يعاقبهم بل ويقتل البعض منهم ولكن دون جدوى، ثم بعد عودة عبد الله باشا الشتجي من الحج أمر برفع الظلم وصار يتخفى في شوارع دمشق ليراقب الأوضاع فهدأت الشرور ثم أمر برحيل من لا شغل له من العساكر فرحل خلق كثير وكان ذلك من لطف الله بالشام على حد قول البديري.

فيديو مقال قراءة في كتاب حوادث دمشق اليومية /3/ …. العسكر

 

أضف تعليقك هنا