الفينومينولوجيا عند هوسرل “الجزء الأول”

بقلم: فاطمة الشبلي

من هو هوسرل؟

هوسرل:فيلسوف ألماني،ولد في 8/نيسان/1859 في بروسنتنز (مورافيا) من أبوين ياهوديين،ومات في 27/نيسان/1938 في فرايبورغ.
يؤمن هوسرل بالفلسفة كعلم صارم،فكما أن هناك انطباعات حسية،يوجد أيضا بعد هذه الإنطباعات ديمومة وموضوعية للماهيات،عالما من العلاقات المتعالية يمكن إدراكه بحدس الماهيات،لا نريد في هذه المقالة اختزال معنى الفينومينولوجيا في سطور قبل الحديث عن كتاب أساسي لهوسرل وهو “فكرة الفينومينولوجيا”.
قسم فيلسوفنا كتابه “فكرة الفينومينولوجيا” إلى خمس دروس في كل درس ناقش مسائل ليؤسس أخيرا معنى الفينومينولوجيا الذي يقصده.

الدرس الأول:

ميز بشكل واضح بين العلم الطبيعي والعلم الفلسفي،حيث يجد العلم الأول أصله في العقل الطبيعي،ويجد الثاني أصله في العقل الفلسفي،الأول لا يعنى بنقد المعرفة وهو يعتمد على ما تقدمه التجربة المباشرة،وانطلاقا مما هو معطى لنا في التجربة فإننا ننطلق إلى ما هو ليس معطى لنا في التجربة ومن ثم نقوم بتعميم هذه المعرفة وتطبيقها من جديد،ولكن المشكلة تقع إذا حدث لبس أو تناقض بين المعارف،تحدث بسبب مبررات تقدمها التجربة مع مبررات اخرى أيضا تقدمها التجربة،وبالطبع تقوم المبررات الأقوى محل المبررات الأضعف وتحافظ على استمرارها بقدر ما تحافظ على بقاءها،وبهذه الطريقة تتقدم المعرفة الطبيعية.

المشكلة هنا في سؤال إمكان المعرفة،فهي معرفة ذات عارفة،فكيف يمكن للمعرفة أن تأمن على توافقها وتلاؤمها مع الموضوعات التي تعرفها؟ وكيف يمكن أن تخرج من ذاتها كي تبلغ موضوعاتها؟

هكذا يتوقف موضوع الموضوعات في الفكر الطبيعي ليصبح لغزا،فهناك شيء أدركه وأراه أمام عيني وأمسك به،لكن إدراكه ليس سوى معيش ذات في ذاتي التي تدركه.

وإن تحدثنا عن جدلية القوانين المنطقية فإنها أيضا ستتعرض للشك،فكما أثبتت الدراسات مراحل تطور الإنسان الجسدية والذهنية فهذا يشمل أيضا ما يحمله الذهن من أفكار صور،فماذا يضمن أن تضل الصور المنطقية هي هي نفسها في المستقبل؟

من الواضح أن المعرفة ستصبح لغزا محيرا،فبعد أن نلتقي بالأشياء التي بلغت مرحلة الدقة والوضوح والمفهومية يحصل لنا اليقين بأننا نمتلك حقيقة موضوعية مبرهن عليها بفعل مناهج أكيدة،نجد أنفسنا في حالة لبس في فوضى وتضليل في تعارضات ظاهرة وتناقضات.

إن وظيفة نظرية المعرفة “نقد العقل النظري” هي أن تبين أشكال اللبس والغموض التي يسقط فيها التفكير الطبيعي،إن نظرية المعرفة مؤهلة لنقد المعرفة الطبيعية في العلوم الطبيعية كلها،وهذا يقودنا إلى أن العلوم الطبيعية ليست علوما نهائية عن الوجود،وينبغي لذلك أن يقوم علم عن الوجود ويكون مطلقا،هذا العلم نطلق عليه اسم ميتافيزيقا يتولد عن نقد المعرفة الطبيعية للعلوم الجزئية،نقد يقوم على نقد عام للمعرفة،لماهية المعرفة،لموضوع المعرفة،نقد يقوم على مختلف معاني الترابطات بين المعرفة وموضوع المعرفة،وهذا ما يسمى ب “فينومينولوجيا المعرفة”،وهي الجزء الأول والأساسي من الفينومينولوجيا على العموم.

الفينومينولوجيا مصطلح يعتبر منهج وموقف فكري فلسفي،فيمكن لعلم ما في دائرة بحث طبيعي أن يبني صرحه على علم آخر بدون صعوبة،لكن الفلسفة عليها أن تتموضع في شكل جديد كليا،فهي تحتاج إلى نقطة انطلاق ومنهج جديد يميزها من حيث المبدأ عن كل علم طبيعي،إن الفلسفة تقوم في بعد جديد إزاء كل معرفة طبيعية.

الدرس الثاني:

إن مجموع العالم الطبيعي بما يحتوي من مواضيع فيزيائية،نفسية،ذاتية وإنسانية يعتبر مشكلة في إمكانية صلاحيته،لأن هذا العالم وعلومه وكذلك أناي تبقى المعرفة فيها معلقة،والسؤال الأساسي هنا هو:كيف يمكن لنقد المعرفة أن يتأسس أو يقوم؟ ويكون الهدف من ذات المعرفة علميا؟

إن أي إثبات ما تكون عليه المعرفة في ماهيتها،يعمل على معرفة علمية،ويبدأ هذا العلم بوضع المعرفة في موضع التساؤل،ليس هذا فحسب بل حتى المعطيات تخضع قبل البدء بها كمعرفة إلى التقييم،وبالنسبة إلى المعرفة الأولى التي سيتم البدء منها فيجب أن لا تتضمن أي لبس وظن يضفيان على المعارف شيء مبهم أو ملغز وإشكالي،لأن مثل هذه المعارف المبهمة هي ما يضعنا في إرباك يجعل من المعرفة مشكلة على اعتبارها شيء غير مفهوم أو مشكوك في ادعائه،لذلك علينا البدء من معطى مطلق لا ريب فيه واضح وضوحا تاما.

يستعين هوسرل في كتابه فكرة الفينومينولوجيا بطريقة الشك الديكارتي،فيقول:إنك حتى عندما تشك في كل شيء بغية الوصول إلى ما لا يمكن الشك فيه،فإنك من المؤكد ستوجه نظرتك نحو فعل الإدراك الذي سيدرك هذا وذاك،وإنك أخيرا ستطلق حكما لا محالة.

وفي حالة أن المعرفة هنا تسعى لنقد ماهية المعرفة،تكون المعرفة الصفة التي تعين الشكل المتعدد لدائرة الوجود،لأن أوجه الفكر معطاه لنا شريطة أن نتأملها ونضعها بشكل خالص كما نراها،وفي حالة التأمل ما يكون معطى لنا هو الظاهرة الملتبسة وهي التي نستطيع أن نتحدث عنها بشكل فضفاض جدا، ونستطيع كذلك إدراكها وتوجيه النظر حولها وتمثلها في الخيال أو الذاكرة.

يستطيع الإدراك أن يجد نفسه بمعنى ما أمام عيني أو كمعطى راهن أو كمعطى للخيال،وهذا يصدق على كل وجه من أوجه الفكر والمعرفة،وهنا وضع هوسرل الإدراك التأملي أو المنعكس جنبا إلى جنب وتبعا للطريقة الديكارتية ينبغي توضيح الإدراك.

توضيح الإدراك:

هو كل معيش ذهني وكل معيش على العموم،وفي اللحظة التي يتحقق فيها يمكن أن يصبح موضوعا لرؤية ولضبط محض،وهو في هذه الرؤية يكون معطى مطلق،معطى باعتبارة “هذا الذي هنا” بحيث يمكن وضعه موضع شك،وتحت أي نوع من الوجود يتعلق الأمر ب”هنا”،وما هي علاقته بأنماط الوجود الأخرى.

نمط الوجود والحضور:

هو التحرك في ميدان المطلق،أي أن هذا الإدراك يظل ويبقى مطلقا،يكون شيئا ما هو نفسه هو ما هو عليه،شيء ما أستطيع أن أقيس عليه شيء ما موجود ومعطى.

إن الغموض الذي يلف المعرفة يستدعي أن نؤسس علما بالمعرفة،علم يبتغي إلى قيادة المعرفة نحو الوضوح،وإن ما نسعى إليه هو شرح وتوضيح ماهية المعرفة،وكما تم الذكر في “الدرس الأول” فإن العلم الطبيعي لا يشعر أنه بحاجة إلى فحص صلاحيته لأنه يتقدم من بين العلوم بنجاح عن طريقة “هدم وبناء” متواصلين.

لكن مجرد التفكير في العلاقة بين المعرفة والموضوع فإن مشاكل كثيرة تظهر،وتناقضات تجعلنا نشعر بحالة ارتياب فيما يخص صلاحية المعرفة مما يجعلها لغزا،فالطريق نحو ماهية المعرفة تتعلق بإمكان الميتافيزيقا أي بإمكان علم للوجود بالمعنى المطلق والنهائي.

الإشكال الآن: هو في أي معرفة سنبدأ؟

إذا كان كل معطى مشكوك فيه كبداية،وكل دائرة من دوائر المعرفة ستكون ما قبل علمية،لأن كل معرفة ستكون مشكلة وإشكال،ولكن بدون معرفة معطاة كبداية لا يمكن أن يكون هناك أي معرفة،هكذا فعلم نقد المعرفة لا يمكن له أن يبدأ،إذا فعلينا صنع معرفة واضحة وضوح النهار،ومطلقة لا ريب فيها،وهنا يستعير هوسرل من ديكارت مفهوم “بداهة فعل التفكير”،وهو أن ننطلق من معرفة صافية تصلح كنظرية أولى للمعرفة.

التعالي كمشكلة معرفية:

إن الطريقة العلمية في تأسيس وجود متعال لم تعد تفيد في شيء،والمعرفة مشكلة سواء كانت مباشرة أم غير مباشرة،ولا يوجد إنسان عاقل يشك في وجود العالم،لكننا لا نلجأ إلى علوم الطبيعة التي تمارس موضعة المعرفة بكيفية متعالية.

كيف تكون المعرفة المتعالية مشكلة:

هناك فرق أساسي بين المعرفة وموضوع المعرفة،فالمعرفة معطاة لكن موضوعها غير معطى،فإذا علاقة المعرفة بالموضوع هي أن المعرفة تعد الميتافيزيقا مشكلة أساسية ولها آثار خطيرة لأن المعنى يضيع فيها.

إلى هنا ننهي أول درسين من دروس هوسرل الخمسة في كتاب “مدخل إلى الفينومينولوجيا”،أما الثالث والرابع والخامس سأوافيهم في الجزء الثاني من هذه المقالة.

المصادر:

مدخل إلى الفينومينولوجيا،إيدموند هوسرل.

 

بقلم: فاطمة الشبلي

 

 

 

أضف تعليقك هنا