المقدَّس والتاريخ ..!

إن كتابات “محمد شحرور”، وغيره من المفكرين، لم تكن سوى لمسة لجراح لم تندمل بعد( الإنسان ، مُخير أم مُسير ..؟!) وهذا إذا ركزنا على جرح من مجمل الجروح التي تعج بها المساحة التي غطاها تاريخ الإمبراطورية العربية، والذي بدأ بعد وفاة مُحَمَّد (ص) بأعوام قليلة، جراح لا تزال تفوح برائحة دماء المعتزلة الذين ذُبحوا في “بغداد”، أو بدماء الإمام “بن حَنْبَل”، في ذات المدينة، بل لا تزال تفوح في “كربلاء”، وغيرها.

والحقيقة أني قد اتفق مع عبقرية وصف “أرنولد توينبي”، حين قال أن: المؤرخون على وجه التعميم، أميل إلى توضيح آراء الجماعات التي يعيشون ويكدحون في محيطها، منهم إلى تصحيح تلك الآراء، فللحق، يصعب تقصي حقائق المناطق “المقدسة” في التاريخ – خاصةً تلك التي تحتوي علي رقع من الخلاف – لا من حيث غزارة الانتاج، بل لتضارب وضبابية أخبار تلك البقعة.

رسالة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام والهدف منها

إن ما كان يبحث عنه مُحَمَّد (ص) هو الدعوة أو التبشير بالدين، كما هو مأمور به، ثم ممارسة الشعائر والطقوس المطلوبة منه بحرية، غير أنه كان مدركاً أن التحدي الأصعب هو تحدٍ لمصالح نظم شبه الجزيرة الإجتماعية.

فبالنظر إلى “مكة” في تلك الفترة، ولا يمكن النظر لها إلا في ضوء كونها “مدينة – دويلة” منخرطة في التجارة العالمية التي كانت تمارسها، في محيط ثلاثة أو أربعة إمبراطوريات وعدة ممالك ذات ثقل . نجد أنه يجب التعامل مع التاريخ العربي – قبل دعوة مُحَمَّد ، وتاريخ الدعوة المحمدية حتي وفاته، وتاريخ الإمبراطورية الناشئة بعد توسع دولة “المدينة المنورة” بعد وفاة الرسول – من منطلق البيئة المحيطة ؛ فالإنسان ابن بيئته في الدرجة الأولى.

الصعوبات التي واجهتها دعوة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم

لأن “مكّة” – المدينة التجارية – لم تزدهر إلا لكونها، وفي الأساس “أنشأت حول معبد ديني، ولغايته “، كما أشار “محمد عبدالحي شعبان”، وبالتالي فإن الدعوة إلى توحيد الـ (360) رمزاً لآلهة شبه الجزيرة المحليين، الداخلين في “إيلاف مكة” التجاري في معبود واحد، موجودٌ في كل مكان ، ويسهل التواصل معه دون الحاجة إلى أي وسائط ، وعلى الدوام ؛ أقول أن الدعوة إلى ذلك لاقت معارضة صلبة لم تلين.

جمع القرآن الكريم وتدوينه في نسخة واحدة وترجمته لعدة لغات

لكن، وفي حين كان { القرآن الكريم } محفوظاً، منذ تدخل “عثمان بن عفان”، وتوحيد النسخ التي كُتبت التي كانت موجودة آنذاك إلى نسخة واحدة أو “مصحف واحد”، وهو ما احتسبته الجماعات المعارضة له “نقطة سوداء” وَصَمت سجله السياسي ـ وأقول السياسي،  أقول أنه وفي حين حدث ذلك، تعرض {العهد الجديد}، إن صح توصيف ذلك بدقّة، بـ”مغالطات مفاهيمية” حول النصوص المترجمة من اللغة “اليونانية”، ثم إلى “اللاتينية” و”القبطية” ـ المقصود بها الطور الأخير من اللغة المصرية الأصلية لا المسيحية ؛ ثم تم ترجمته إلى اللغة “الإنجليزية”، وغيرها.

فكل تلك الترجمات قد تترك عوالق من “المغالطة” بين أهداب النصوص التي ترجمت من نُسخ “يونانية” مباشرةً، أو ربما في نُسخ ترجمت من “اللاتينية” التي هي مترجمة من “اليونانية” ثم ترجمت مرة أخرى بـ”القبطية” ، ثم إلى “الإنجليزية” وغيرها ؛ وبالتالي مرورها على مراحل كثيرة من التنقية التحليلية ومقاربات الألفاظ والمصطلحات في قاموس كل لغة بالأخرى، وبالتالي قد يكون في غير صالح الدقة ؛ وبلا شك هي ـ في صالح تدمير بنية النص المعنوية التي أنزلت أو كُتبت بها في اللغة الأصلية.

حفاظ القرآن على وحدته مع مرور العصور

ولأن { القرآن الكريم } حافظ على وحدته ـ كنسخة معروفة غير مقلدة أو مترجمة ـ وإن كانت الأسباب ضبابية، لا يمكن تتبعها بدقة تبلغ حد التقدير، ولكون التركيبة اللغوية للـ{القرآن الكريم} ـ في دائرتها الواسعة ؛ حيث رحابة النصوص التي لا حدود لتفسيراتها، فإن المجال كان واسعاً في كتابات المسلمين ـ الأدبية والتاريخية والفقهية على حد سواء ـ عن {سيرة} مُحَمَّد (ص) و{أحاديثه} للتطويع كمادة دسمة في الأحداث التي ستلي وفاة النبي (ص).

وعلي كلٍ ورغم أن أوائل من دونوا {السيرة} و{الحديث} لم يكونوا يعلموا شيئاً عما سيجري من تطورات متشابكة – أو كانوا يعلموا، وهذه خارج نطاق القدرة علي البحث ـ وفي حين لم يكن هناك مايسمى (علوم مُقعّدة) بالمفهوم الحالي ؛ إلا أن محاولات “التقعيد العلمي” لتلك الأصناف من العلوم المدعوة بـ”العلوم الشرعية” ـ وإن كان في شكل يناسب ويتناسب مع العصور الوسطى ـ لم يكتمل سوى في عهد “بنو العباس”.

بعض الروايات وبعض المغالطات في التاريخ الإسلامي

فقد ظهرت روايتان متنافسان وراء كل منهما تراث، في خصوص اللحظات الاخيرة في عمر النبي (ص)، فـ “السُنة” يعتقدون أن النبي (ص) مات وهو مستريح على حجر عائشة، أما “الشيعة” فيعتقدون أنه لفظ أنفاسه وهو إزاء كتف “عليّ بن أبي طالب” . هذا الإختلاف ما هو إلا “خلاف رمزي” لكل ما اختلف عليه المسلمون، وهو أمر معروف في التراث العربي .

لكن المغالطة الشائعة والمقصورة، هي أن الدعوة العباسية كانت “دعوة شيعية”، فقد جاءت الدعوة العباسية بشعار العمل بـ “كتاب الله وسنة رسوله”  وكان الخلاف بينهم وبين “العلويين” الناشطين في العراق وإيران – آنذاك – أن “العلويين” يطالبون بالخلافة لنسل “عليّ”، بينما كان العباسيين يَرَوْن “رضا آلِ البيت”، بفرد من سلالة “بنو هاشم بن عبد مناف” ، ولكن يؤجل اختياره لحينها ، وتركوا الأمر مفتوحاً . وهم يختلفون كليةً عن “الخوارج” فيما يتعلق بتلك النقطة.

وبالتالي فإنهم كانوا مترابطين مع “العلويين” في الأهداف لا في الاستراتيجية .. فنجد “مختار العبادي” يُشير إلى أن ؛ سقوط “الدولة البويهية” وحلول “السنيين” – السلاجقة – وقع سيء في الأوساط “الفاطمية” في القاهرة . حيث يذكر “أبو المحاسن” ، في “النجوم الزاهرة” ، أن : ما أرسل إلى “البساسيري” من الخليفة الفاطمي “المستنصر” من المال 500 ألف دينار ، ومن الثياب ما قيمته مثل ذلك ، وخمسمائة فرس ، و10 ألاف قوس ، ومن السيوف ألوف، ومن الرماح والنشاب شيء كثير.

الفترة التي آتت بعد اغتيال “عمر بن الخطاب”

لكن ما يهمني في تلك الأقصوصة المروية في كتب الإخباريين هو أنه بعد ثورة “البساسيري”، وانتصاره قبل وصول السلاجقة إلى “بغداد” مرة أخرى من “الأناضول”، كانت الحفلات والطبل والمغنيات في القاهرة تنشد:

يابني العباس ردوا … ملك الأمر معدّ
مُلْكُكُم ملكٌ معارٌ … والعّواري تسترد

وعليه ، فما تشي به تلك الأبيات، وبشكل مثير، أن النظام القبلي كان قد تمكن مرة أخرى من مفاصل المجتمع الناشيء بعد اغتيال “عمر”، وهذا يطرح تساؤلات في خصوص موت “عمر بن الخطاب”، وتساؤله الأشهر عن القاتل و(هل كان عربيّ) – وعربي هنا تعني من قبائل شبه الجزيرة حصراً ..؟! حيث كان مدركاً لألسنة الصراع المكتوم المتصاعد بعد التمدد العسكري للعرب في ايران وسوريا وما وراءهما . فتلك العملية نفذها “أبو لؤلؤة”، عبد “المُغيرة بن شعبة الثقفي”، وهو متآمر قدير.

ولعل الإشارة الي ان “عمر” أمر بأن يتنازل، من يُؤمّر بإمارة ما، عن نصف ممتلكاته حين انتهاء خدمته، وإشارات كثيرة أخرى تنبيء بقمعه نفوذ بطون قبيلة “قريش” ، ومن يواليها من القبائل أو العشائر الأخرى، من المشاركين في التوسع وراء حدود شبه الجزيرة العربية، ما يدعم الطرح السالف.

العباسييون ليسوا أول الداعين للحكم ب”كتاب الله ورسوله”

رغم أن دولة “العباسيين” لم يكونوا أول الداعين بالحكم بـ”كتاب الله وسنة رسوله” ؛ حيث نجد اخباراً ترجع للعام 116 هـ ، ان “الحارث بن سريج المرجئي” ، في بلاد “ماوراء النهر” – إقليم الهند الصينية – ثار علي الحكم الأموي ، ودعا إلى الحكم بـ”الكتاب والسنة”، وإلى “حفظ العهود” مع “أهل الذمة”، وإلى إعفاء المسلمين “الجدد” من الجزية ورفع الظلم عنهم ، وكانت رايته سوداء، وانضم إليه بعض رؤساء قبائل “الأزد” و”تميم” ، وبعض “الدهاقنة”، وكثير من الأجانب من رعايا الدولة الأموية “الموالي”، وانتهت حركته بمقتله 128 هـ.

إلا أنها ـ أي دولة العباسيين ـ أيقظت الروح القومية بين تلك الشعوب، لأنها جاءت ومعها فكرة المساواة بين النخبة العربية وبين الشعوب المختلفة . وبالتالي ، وفي لحظات الوهن العباسي ؛ كانت تلك النزعات القومية الإستقلالية عاملاً لازدهار مراكز حضرية صارت قبلة العلماء والتجار والشعراء مثل : “بخاري” و”سمرقند” و”الفسطاط” و”قرطبة” و”فاس”، وغيرها.

لكن ما يمكن تأكيده في هذا الخصوص ، أن الدعوة العباسية خلطت بين الدين والسياسة بشكل خطير، وهو ما أبدى “الأمويين” له الإستعداد ، وولفّه “العباسيين” و”الخوارج” بشكل قدير . لأنه ، ووفقاً لترجمة “تيوفانس” ، المؤرخ البيزنطي ، في القرن التاسع ، لعبارة “أمير المؤمنين” التي تلقب بها “عمر” فهي كلمة تعني “الناصح” أو “المستشار الأول” ، حتى أنه أطلقها على “معاوية” حين كان أكثر قوة وتسلطاً.

ما هو الخلاف بين مجلس الستة الذين تركهم “عمر بن الخطاب”؟

فقد كان الخلاف بين “مجلس الستة” الذين تركهم “عمر” – عليّ ، وعثمان ، وطلحة ، والزبير ، وسعد ، وَعَبَدالرحمن – ارتكز حول كيفية إدارة إمبراطورية شاسعة الأراضي ونخبة – أي العرب المنتصرون – ذات نظام اجتماعي قائم علي مصالح متناقضة ، وهو أمر معروف منذ كانت شبه الجزيرة العربية . فهل يلجأوا إلي “التقليد العربي” أم يتم تركيز الأمور اكثر في يد سلطة حاكمة – تنحصر في “قريش” . وفي حين رفض “عليّ” اتباع ماكان يتبعه “ابوبكر” و”عمر” ، وافق “عثمان” ؛ وبالتالي أصبح الأخير هو المرشح المحافظ المضمون . وهو ما كان يصلح لنظام “مكة” قبل الدعوة المحمدية ، أو قبل التوسع خارج الجزيرة علي أقصي تقدير ؛ لكنه لا يصلح للإمبراطورية الجديدة .

ولكن ، الخلافات الفرعية، والتي نشأت فيما بعد بين علي ومعاوية – ومناصريهم- ثم بين علي وبين مناصريه، والتي انتهت باغتياله، وانحسار البيت الحاكم في “بنو أمية” ، معلنا نظام الحكم بالوراثة بناءاً علي حديث الرسول لـ”معاوية”: {إن وُليت فاعدل ..} ، وبناءاً علي ما أشار اليه “محمد شحرور” في خصوص التعريف الفقهي للـ”القضاء والقدر” في بدايات العصر الأموي . لكن جزء من عامة المسلمون – من العرب أو من الأجانب “الموالي” – وبعد أن تفاعلوا مع دعوات المعارضين ؛ نظروا لحكم “بني أمية” ما هو إلا حكم دنيوي لا يقوم علي {كتاب الله وسنة رسوله} .

الخلاصة 

ستكون من حيث أشارت “كارين آرمسترونج” إلى أن : “الرعاة في الشرق الأوسط أصبح لهم مجتمعاً مستقلاً تماماً قبل خمسة آلاف عام على أقل تقدير ، واعتقدوا أنهم سيستمرون في التجارة بالجلود ومشتقات الحليب مع المدن في مقابل الحبوب المختلفة . لكنهم اكتشفوا أن الطريقة الأسهل للتعويض عن بهائمهم الضائعة هي سرقة قطعان الماشية من القرى القريبة للمجتمعات النهرية الزراعية شمال شبه الجزيرة أو من القبائل المنافسة لهم . هكذا تحولت الحرب إلى معطى أساس لاقتصاد الرعي .”

ولذلك ولكي تتضح الرؤية الكاملة أرى أنه، وقبل كل شيء، ومن الأصحّ، مثلما فعل “برتراند راسل”، بتقسيمه لعمر العالم الناطق باليونانية ؛ أن أقسم الفترة الممتدة من القرن السادس الميلادي – ماقبل “الدعوة المحمدية” – وحتي العصر العباسي الثاني في القرن العاشر الميلادي إلي ثلاث فترات:

  1. فترة عدم الخضوع وعدم النظام .
  2. فترة الخضوع وعدم النظام .
  3. فترة الخضوع والنظام .

ففي الشرق الأوسط وفي قصة “قابيل” و”هابيل” تُعرض لأول مرة في التاريخ الإنساني قصة على خلفية تنافس إجتماعي إقتصادي، حيث قتل “قابيل” (فلاح الأرض) ، “هابيل” (مربي الأغنام) . حيث التنافس بين الرعاة الرحل وبين المزارعين الفلاحين هو موضوع متكرر عير تاريخ الشرق الأوسط بأكمله، بل وفي أجزاء كبيرة من هذه المنطقة بيقى صراع المصالح بين الإثنين صراعاً بالغ الأهمية حتى في أيامنا هذه، لكننا نري في السردية المعروفة وجهة نظر الرعاة في ذلك الصراع، بأن الفلاح هو من قتل الراعي غيرة منه لان الله تقبل قربانه لا قربان الفلاح . لكن امتداد التاريخ في الشرق الأوسط كان الشيء المعاكس هو الذي يحصل، وهنا يكمن الإلتباس.

المصادر:

  • البلاذرى: فتوح البلدان.
  • ابن كثير: البداية والنهاية.
  • ابن جرير الطبري: تاريخ الرسل والملوك.
  • أرنولد توينبي: مختصر دراسة التاريخ.
  • محمد عبدالحي شعبان: صدر الاسلام والدولة الأموية.
  • أحمد مختار العبادي: في التاريخ العباسي والأندلسي.
  • برنابي روچرسون: ورثة مُحَمَّد.
  • كارين آرمسترونج: الحرب المقدسة.
  • برنارد لويس: الهويات المتعددة في الشرق الأوسط.

فيديو مقال المقدَّس والتاريخ ..!

أضف تعليقك هنا