فلسفة العيون

القصيدة:

” قد حارت الكلمات في أوزاني ** وتبعثرت في لحظها أفكاري

وتباينت في أعين مكحولة ** كرت على الألباب والأنظار

نظرت إلي وليتها منا ناظرت ** ويلاه في الإقبال والإدبار

                  ****

نظرت إليّ فكان يقتلني الهوى ** طرفا الشقا في سالف الأشعار

نظرت إلي وقد تعارك خافقي ** مع لائم ومحذر من نار

قد أدخلتني في غياهب غابة ** أشجارها مقطوعة الأقطار

وضبابها وغيومها مسودة ** وحشيشها شوك من الصبار

                ****

لا يرعوي من تاه في جنباتها ** أبدا ولا يدري مدى الأسوار

ما من طريق للخروج وما بها ** إلا خليل العشق والأعذار

لم تدر مقلتها الجميلة أنها ** قد قطعت قلبا من الأحجار

فرمته في عمي الضلالة والهوى ** متجدلا في غابة الأضرار

               ****

لم تدر حالة من رمته برمشها ** أبدا ولا ما شدة التيار

في ثغرها سكر بغير إفاقة ** وعيونها بحر من الأسارار

فود وخد بالبياض مشرب ** ثغر كشهد الورد والأزهار

لا أحمر لا أبيض لا بارز ** وسط يشع كأبلج الإبكار”

شكلت المرأة ظاهرة أدبية في الشعر العربي عامة وخاصة

شكلت المرأةُ ظاهرة أدبية بارزة في جنس الشعر عامة والعربي خاصة؛ إذ ظهرت قصائد تُعنى بتناول المرأة لاسيما تلك القصائد المنبثقة من رحم الوجدان ومعترك الاحساس الدفين، المتمثل في قطبين يتفاوتان في درجة التجاذب هما: الشاعر، والمحبوبة، وبدرجة هذا التجاذب يتحدد مدى التبادل بين الطرفين.

فالمعتاد أن يكون الشاعر جياشا بحبه أكثر من محبوبه بل نجده كثيرًا ما يذكي نفسه للتضحية وربما استلذّ الذلّ والانكسار تجاه معشوقه، ففعل القول يستمدّ حركته من وهج المشاعر الوجدانية المتوقدة في خلجات الشاعر، ثم يرميها في بوتقة تعتصر بآلية التخييل حتى تستقر في فيزيائية تلفظية يكون صائغها اللسان، وكلّ هذا المزييج يتلون بنفسية المبدع والمتلقي.

في هذه القصيدة اشارات متعددة 

وفي هذه القصيدة يمكن أن نستجلي كثيرا من الإشارات والإحالات التي تُظهر حالة الشاعر وكمّ المشاعر والمعاني التي يُكنُّها للعشيق، والتي هي بطبيعة الحال انطباعاتٌ نفسيةٌ ذاتية، يكون مدارها المبدع(الشاعر) والمتلقي المُرسل إليه(المعشوق) والمتلقي القارء.

بدأها بحالة مضطربة

تبدأ القصيدة بحالة مضطربة، إذ تسود الشاعرَ حيرةٌ طارئة، فهي حيرة الأفكار وأزمة الاختيار خاصة في ترشيح الألفاظ والكلمات التي هو بصدد انتقائها للتعبير عن الموقف الذي بإزائه، ولكننا نتساءل ما هو سبب الحيرة؟ وهل الحيرةُ هنا بمعنى التشتت؟ أم هي حيرة يفرضها المقام؟ كلّ ذلك سيجيب عنه الشاعر في طيات القصيدة، وكأنّ الحيرة وما يترتب عليها من جدل تُمثل استهلالا بارعا للقصيدة؛ كما أننا لا نغفل أن القصيدة غزلية تشبيبية، فلابد إذن أن نلمس حسا للمشاكسات الغرامية وأفعالا تلفظ من البوتقة الوجدانية.

نلحظ وجود معركة قائمة بين الشاعر والمحبوبة

 من عتبات القصيدة نلحظُ وجود معركة قائمة بين الشاعر والمحبوبة، ولكنّ هذه المعركة ليست معركة فعلية تُتخذُ السيوف والرماح أدوات للمحاربة فيها، بل هي معركة الألحاظ ومعركة التراشق البصري، واطّراد فعل “النظر” يوقعُ أثرا في نفسية الشاعر، فالمحبوبة هي التي تباشر النظر إليه، ليتأثر هو بهذه التحية البصرية؛ ثم يقع هو الآخر في غياهب يفسرها قولُ جرير: “إنّ العيون التي في طرفها حورٌ ** قتلننا….”.

الشاعر والمحبوبة يتفقان في آلية النظر

في حين إن تمعنّا في عواقب هذا النظر، وجدنا أثره شارخا وغائرا عند الشاعر أكثر من المحبوبة، مع أنها هي التي باشرته في الرؤية، وهذا ما يحيلنا إلى استنتاج جليّ، أنّ الشاعر والمحبوبة قد يتفقان في آلية النظر، ولكنهما يختلفان قطعا في غايات هذا الفعل؛ فرؤية المعشوقة إلى الشاعر لا تعدو أن تكون عابرة لحظية، أو أنها محض صدفة من خبط حظوظ العشواء، في حين يسّوغها الشاعر إلى تبرير تفسيري يدفع به تهمة وقوعه في الميل إلى المحبوبة، فكأنه لم يشأ حبها إلا بعد أن تفضلت بطرفها إليه ورمتهبرمشها فكان سهمَا أصاب فؤاده، ومن ثم وقع في حبها وهيامها.

هل يغرق الشاعر في وصف عيون المحبوبة؟

وقد يتساءل سائل: هل يغرق الشاعر في وصف عيون المحبوبة؟، أم أنه يصف آلية النظر وما يترتب عليه!، إن القصيدة متهيكلةٌ بأحداث مترابطة ومتعاقبة، فكلُّ حدث يمثل عتبة لحدث آخر، فهي أحداث تتحدد بما يقتضيه فعل النظر والمشاهدة؛ لأن الشاعر بمجرد ما تقع عينا المحبوبة عليه يفقد السيطرة ويرتمي مباشرة إلى دائرة هوجاء وهي دائرة الأحداث المتحتمة من فلسفة النظر بينه وبين المحبوبة.

خاصة عندما يقول: “ما من طريق للخروج وما بها…” ومن جانب آخر يترك الشاعر ثغرة تكون ملجأ للخروج من هذه الدائرة ولكنها تتطلب تصريحا بأن يكون موسوما بالعشق والميول تجاه المحبوبة، فهو يقول: “إلا خليلُ العشق والأعذار” والمتمعن في هذا الاستثناء يلمس تبريرا خفي يوظفه الشاعر لحاجة في نفسه تخدم حبه وميله للعشيقة وكأنه عشقها من غير حول ولا قوة إذ وقع عليه نظرها فما من سبيل للنفاذ إلا بحبها وعشقها.

وصف الشاعر لعيون محبوبته

وفي موضع آخر يسوق الشاعر تبريرا لهيمنة نظر المحبوبة عليه، ولكنه بعد أن مهد لخطورة هذا النظر وسطوته؛ إذ سيتسنى له أن يذكر صفة عيون المحبوبة ابتداء من مقلتيها الجميلتين اللتين سلبتا فؤاده الحجري وقطعتاه إربا، بل أدخلتاه في غياهب عتماء تصطبغ بعمي الضلالة والهوى، ثم يذكر رموشها وما يترتب عليها من أثر في نفسه وأنه بفعل المقل أصبح في حركة شائكة داخلية، فكيف يقوى على رومشها المنطلقة كسهم لا يُخطئ مقصده، ولكن يبقى السؤال: كيف نسوغ هذا السَوق بأنه تبرير؟ والجواب على ذلك في الجملة اللسانية: ” لم تدر..” وهي صيغة النفي وقد تكررت في أكثر من موقف حشره الشاعر في قصيدته.

ما ذكرناه في كلامنا السابق، من أن الشاعر ذكر في بداية القصيدة فعل النظر وأثره وأنه ما كان طامحا لهذا العشق، ثم يدخل في وصف الأجزاء المتعلقة بفعل النظر(المقل والروموش…) و بعض محاسن المعشوقة مثل: ثغرها وبياضها وغير ذلك، كله لا يعدو أثر النظرة الفجائية، وأنّ تلك النظرة السريعة أشعلت نارا متوقدة في نفس الشاعر، ومن ثم باح ببعض ما أملت عليه حاله شعرا

فيديو مقال فلسفة العيون

أضف تعليقك هنا